م. يحيى حسين عبد الهادى يكتب: لا مؤاخذة
————
(مصر والمصريون بخيرٍ بقدر ما يستبْقون قوةَ تماسكهم)- المستشار/طارق البشرى فى مقدمة كتابه”المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية”.
أثناء حفل زواج ابنة أحد الأقارب، قال لى والد العريس (قد تتعجب إذا قلتُ لك إن مَنْ زَكَّى لنا العروس وشَهِد بحسن أخلاقها هو أحدُ زملائها فى العمل .. اسمه مايكل .. هو مسيحى لا مؤاخذة .. لكننى على مدى عشر سنوات من التعامل بين شركتى ومؤسستهما أشهد له بالأمانة والصدق، فلم أثق فى غيره ليتحرى عن الفتاة وأسرتها .. لا مؤاخذة مرَّةً أخرى) .. قالها الرجل الطيب وكأنه يبرر أو يعتذر لى عن اعتماده على شهادة مايكل بعد أن لاحظ “الزبيبة” فى جبهتى .. قلتُ له (لا يوجد ما تعتذر عنه يا أخى الكريم .. أليس الشاب مايكل أميناً وصادقاً باعترافك؟ إذن ما دخل الديانة فى شهادته؟ وهل كنتَ ستأخذ بشهادة لصٍ لو اسمه محمد؟ ثم إن معظم من نهبونا وظلمونا مسلمون .. لا مؤاخذة) .. أراحت إجابتى الرجلَ الذى تصرَّف بفطرته المصرية الطبيعية .. لكننى سرحتُ فى كيف تسللت إلينا عبارة (مسيحى لا مؤاخذة) واقتحمت ثقافتنا بنعومةٍ خبيثةٍ فى عمليةٍ هجوميةٍ ممنهجة استمرت نحو نصف قرن.
شاهدتُ مثلكم فيلم (أم العروسة) مراتٍ كثيرةً .. لا أجرؤ على الاقتراب من ساحة النقد الفنى الذى أفتقر إلى أدواته .. أنا هنا أُعَّبِرُ فقط عن انطباعاتى كمُشاهد .. لم أرَ فى الفيلم أثراً لقصةٍ أو حبكة درامية رغم أن مؤلفه عبد الحميد جودة السحار .. فالفيلم كله عبارة عن رجلٍ وزوجته يُزوجان ابنتهما، بكل تفاصيل الزواج من تَقَّدُمٍ ثم قُبولٍ ثم شبكة وجهازٍ ثم فرح .. لكن قيمته الحقيقية هى أنه أقرب لفيلمٍ تسجيلىٍ به توثيقٌ صادقٌ بغير تَكَّلُفٍ أو افتعالٍ لنمط الحياة السائد فى مصر فى تلك الأيام (الفيلم إنتاج ١٩٦٣) من حيث الملابس، وخطوات مصاهرة العائلات بما فيها “تلقيح الكلام” من الحموات، ومستلزمات جهاز العروس وأماكن شرائها، وأفراح البيوت، ومشاكل الموظفين، والبيروقراطية، وعلاقات العمل .. إلخ.
فى هذا السياق كانت علاقة مرقص أفندى بحسين أفندى طبيعيةً وغير مُقحَمة على الفيلم ودون ذِكرٍ للوحدة الوطنية وشعاراتها كما يحدث فى كثيرٍ من الأفلام .. علاقة بين زميلين لا شأن للديانة بها (ولولا اسماهما ما عرفنا ديانتهما) .. تأخَرَتْ إجراءات استبدال ١٥٠ جنيهاً من معاش أحدهما فأخذها من العُهدة وائتمن زميلَه على هذا الخطأ الوظيفى .. فعالج زميلُه هذا الخطأ من جيبه فى غيابه دون أن يُخطره .. كُلُّنا يتذكر هذا المشهد بالطبع .. لكن واقعة مايكل التى بدأتُ بها المقال ذّكَّرَتنى بمشهدٍ مماثلٍ ولكن ليس فيه (لا مؤاخذة) عندما طلب حسين أفندى من مرقص أفندى أن يتحرى عن عريس ابنته المنتَظَر .. ولو قُدِّر للسحار وعاطف سالم أن يُكملا الفيلم فلربما كنا شاهدنا مرقص أفندى أيضاً يطلب من حسين أفندى أن يتحرى عن عريس ابنته أيضاً، بل يدعوه لجلسة التعارف العائلى الأولى .. كانت مصرُ طبيعيةً فى تلك الأيام .. أحمدُ اللهَ اننى عِشتُها .. كانت الكنائسُ تُبنى ويتبرع لها مسلمون .. والمساجد تُبنى ويتبرع لها مسيحيون .. ويتبادل الجميع التهنئة والأطباق الشهية فى الأعياد وفى شهور الصيام لكلينا .. كُنّا ولا زلنا مجموعةً مُتلاحمةً من أصدقاء الطفولة والدراسة والجيرة فى أسيوط (وما أدراك ما أسيوط) بلا عُقّد .. شديدى التديّن وشديدى الترابط فى آنٍ واحدٍ .. ولا شأن لأىٍ منا بعقيدة الآخر .. فقد تربينا على: لكم دينكم .. ولِىَ دين .. ولنا وطنٌ نملكه معاً ولنا فيه نفس الحقوق .. كان هناك متعصبون فى كل فريقٍ بلا شك .. ولكن العقلاء كانوا أكثر كثيراً.
انتهى الفيلم على الشاشة ولكنه استمر على أرض الواقع بمؤلفين ومُخرِجٍين وأبطالٍ جُدُد وبصورةٍ مغايرة مُخجلة أوصلتنا بعد نصف قرنٍ إلى (مسيحى لا مؤاخذة) .. رغم أن مرقص أفندى لم يتخلف عن أىٍّ من ثورات مصر ومعاركها ونال نصيبه من مواجعها (فى سجون مصر الآن كثيرٌ من أبنائه وقد رأيتُ وزاملتُ بعضهم .. كُلُّنا فى الظُلْمِ مِصرُ) .. لا أعتقد أنَّ حسين أفندى قد تَخيَّل (مجرد تخيُّلٍ) أن سيأتى على مصر زمانٌ يُحَّرِمُ فيه أحد أحفاده تهنئة مرقص أفندى بعيدٍ أو صيام (دَعْك من أن يهضمه حَقَّه فى وظيفةٍ أو امتحان).
من ضمن التغيرات التى طرأت على أرض الواقع وليس لمرقص أفندى دخلٌ بها، أنَّ صوم عيد الميلاد الذى بدأ منذ أيامٍ، كان أيامها موسم غلاء أسعار المقليات كالبطاطس والباذنجان .. الآن لم يعد للغلاء موسمٌ محددٌ، إذ أصبح بامتداد العام ويكتوى به حسين ومرقص معاً .. صارت الأيام كلها باذنجاناً!.
أخى مرقص أفندى .. بمناسبة بدء صيام عيد الميلاد المجيد .. بالإصالة عن نفسى وبالنيابة عن حسين أفندى .. لا تؤاخذنا بما فعل بعض السفهاء مِنَّا .. وكل عامٍ وأنتم ومصر التى تُحبُّها وتُحبُّك بخير.
(جزءٌ من مقالٍ قديمٍ بتصرف).
٢٨ نوفمبر ٢٠٢٢