ميراث التهم المُعلبة.. «العزيمة» قصة فيلم توقف تصويره بتهمة الإساءة لسمعة مصر منذ 82 عامًا ثم تربع على عرش قائمة أفضل 100 فيلم
كتب- عبد الرحمن بدر
أعادت أزمة فيلم ريش بمهرجان الجونة، التذكير بالتهم المعلبة التي عانت منها السينما منذ عقود، وأبرز هذه الاتهامات تهمة الإساءة لسمعة مصر، فمنذ 82 عامًا تعرض فيلم العزيمة لأزمة تسببت في وقف تصويره.
العزيمة إنتاج 1939 توقف تصويره بفس التهمة التي تتردد من حين لآخر مع ظهورأفلام تخرج عن السياق التقليدي، وهي الإساءة لسمعة مصر، والحجة في ذلك الوقت كانت ظهور حلاق وجزا وحانوتي ضمن أحداثه، وذهب بديع خيري مؤلف العمل كما روى في مذكراته إلى طلعت حرب مدير استديو مصر، وأقنعه بأن الفيلم غير مسيئ وأحداثه واقعية وأن العالم كله لديه نفس المهن.
الفنان الراحل نور الشريف، قال في تصريحات سابقة: «كمال سليم (مخرج الفيلم) لما جه يعمل فيلم العزيمة.. الأول حاربوه عشان ميعملش الفيلم وبعدين وافقوا على مضض.. دخل يصور الفيلم بعد أسبوعين جه أمر من طلعت حرب بوقف تصوير الفيلم.. اللى كان كاتب حوار شاعر العامية العبقرى كاتب الحوار المتميز والكاتب المسرحى بديع خيرى».
وتابع: «راح قابل طلعت حرب، وقاله يا طلعت بيه وقفت الفيلم ليه.. قاله “قالولى الفيلم فيه شخصية حانوتى وجزار وحلاق.. بقى ده اللى احنا نقدمه عن مصر فى السينما احنا بنعمل أفلام ليها مستوى».
وأضاف نور الشريف: «كان وقتها كثير من المخرجين وجهة نظرهم تجميل الواقع فبديع خيرى بذل مجهود فظيع وكتب ده فى مذكراته بالصدفة قرأتها قبل ما أجى.. وقاله (يا طلعت بيه احنا منقدرش ننافس الأمريكان فى الأفلام الأمريكانية وهما ميقدروش ينافسونا فى فيلم مصرى.. وبعدين ستوديو مصر بينتج 10 أفلام فى السنة.. ادينا فرصة نكمل الفيلم ونشوفه نجح نجح منجحش خلاص يعنى)».
وأكمل: «العزيمة أهم علامة فى تاريخ السينما المصرية، للأسف الشديد يظل فى ناس بتميل إن يكون الفن كاذب لا يعبر عن الواقع بس ده مذهب فنى، وفى آخرين يميلوا لارتباطهم بالواقع وإن يكون الفيلم بيعبر عن الواقع.. وأنا مع المرتبط بالواقع».
وصدقت رؤية صناعه بعد عدة عقود حين تم اختياره على رأس قائمة أفضل 100 فيلم مصري ليأتي في المركز الأول، كما كان الفيلم الوحيد الذي أدرجه «جورج سادول» ضمن موسوعته عن تاريخ صناعة السينما في العالم، وصنفه ضمن أهم مائة فيلم في تاريخ السينما، وهو في ذلك الشأن الفيلم العربي الوحيد.
وكان كمال سليم كتب الصيغة الأولى من الفيلم والتي حملت اسم «في الحارة» عام 1932، وصاغ وديع خيري الحوار، لكن المسئولين باستوديو مصر رفضوا الاسم الأصلي «في الحارة» فاضطر كمال سليم إلى تغييره إلى «العزيمة» ومع ذلك تعرض لأزمات أثناء التصوير.
وخرج سيناريو الفيلم عن كل ما هو سائد مُتّبع في صناعة السيناريو، مُقدما صوراً جديدة غير معهودة، فتناول الطبقات الفقيرة والمُعدمة وعلاقاتها بالوسط المحيط وصراعاتها مع الأوفر حظًا، على نقيض الأفلام في ذلك الحين عكس السائد.
وتناول الفيلم قصة حب بين شاب وفتاة في حي شعبي، وتشهد الحارة صراعًا بين البطل و«المعلم العتر»، فضلًا عن اصطدام البطل بطبقة النبلاء الممثلة في صديقه ابن الباشا، وصراع البطل مع الظروف الاجتماعية المتمثلة في البيروقراطية والفساد والمحسوبية، وكل هذا يدور في إطار مركب من الظروف الاقتصادية العامة للدولة التي تقع تحت طائلة الاحتلال وفي ظروف الحرب العالمية الثانية.
وواجه الفيلم العديد من الصعوبات بداية من الاعتراض على اسم الفيلم الأصلي «في الحارة»، مروًرا باعتراض العاملين باستوديو مصر على الفيلم وعلى رأسهم المخرج «فريتز كرامب» والذي كان يعمل خبيرا فنيا بالاستوديو. وجاء رفض الفيلم بحجة أنه لن يحقق أي مكاسب مالية ومن ثم سيؤدي إلى خسائر عدة نظرًا لمحتواه، فاعتذر مدير الصوت وكذلك التصوير فاستعان سليم بالمصور المجري فاركاش.
وفي النهاية بقي الفيلم كأحد أهم العلامات في تاريخ السينما المصرية، لكن التهمة المعلبة مازالت تلقي من حين لآخر في وجه صناع الأعمال الجادة.
يذكر أنه قعت أزمة بمهرجان الجونة السينمائي الذي انطلق نهاية الأسبوع الماضي في البحر الأحمر، خلال عرض الفيلم الحائز على الجائزة الكبرى لمسابقة أسبوع النقاد بمهرجان (كان) السينمائي الدولي، لتناول الفيلم معاناة الفقراء في مصر، حيث انسحب عدد من الفنانين من العرض، معتبرين أن الفيلم يقدم صورة غير حقيقة، فيما أكد نقاد أن صورة الوطن لا يمكن اختزالها في مجموعة مشاهد.
ويعد فيلم “ريش” للمخراج عمر الزهيري، وراء تتويج السينما المصرية للمرة الأولى في تاريخها بجائزة من مهرجان “كان” عن عمل فني محدد.
وبعد نحو ساعة من عرض الفيلم، بدأ البعض في المغادرة، والمفارقة أن من غادروا هم من صناع السينما.
وغادر العرض الفنان شريف منير، وظهر غاضبا للغاية، وتبعه الفنان أحمد رزق، ومن خلفه الفنان أشرف عبد الباقي، كما غادر قاعة العرض المخرج عمر عبدالعزيز. وكانت وجهة نظرهم أن الفيلم يحوي مشاهد لا تظهر الصورة الحقيقية لمصر.
وخارج القاعة ظهر المنتج محمد حفظي منتج الفيلم ورئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ودخل في نقاش مع الثلاثي المغادر لعرض فيلم: منير ورزق وعبد الباقي.
ونفى المنتج حفظي أن تكون مشاهد الفقر في الفيلم مسيئة لمصر، مؤكدا أن المجتمع يضم كافة الطبقات، قبل أن يعود إلى قاعة عرض الفيلم مرة أخرى من أجل استكمال المتابعة.
وقال الناقد الفني طارق الشناوي إن الفيلم طرح رؤية مختلفة عما توقعه البعض مسبقا، ولكن هذا لا ينفي أن هناك بعض المشاهد التي كان من الممكن أن يتم اختصارها للحفاظ على إيقاع الفيلم.
وحول ما قيل عن تقديم صورة غير حقيقية عن مصر، قال الشناوي إن صورة الوطن لا يمكن اختزالها في مجموعة مشاهد، موضحا أن حالة الفقر التي ظهرت في الفيلم موجودة، وهناك ما هو أسوأ منها، وأن الفيلم يتناول الطبقة الفقيرة وكل ما يتعلق بها.
ورأى الشناوي أن لغة الفيلم لن تصل إلى الجمهور، واستدل بما حدث أثناء عرضه في مهرجان “الجونة”، حيث لم تستوعب حتى وجوه من النخبة بعض تفاصيل العمل.
واعتبر الشناوي أن الفيلم جيد جدا، وحصوله على جائزة من مهرجان “كان” أثبت تميزه، مشيرا إلى المعادلة الصعبة لأي فيلم سينمائي يحاول الوصول للنقاد والجمهور معا.
يذكر أن “ريش” شارك في بطولته دميانة نصار، سامي بسيون، محمد عبد الهادي، فادي مينا، ابوسفين نبيل، نعيم عبد الملك، محمد صدقي، يوستينا سمير، ناصر جلال، عبدالله، سامية، سيناريو واخراج عمر الزهيري.
والفيلم يقدم قصة أم تعيش في كنف زوجها وأبنائها، حياة لا تتغير وأيام تتكرر بين جدران المنزل الذى لا تغادره ولا تعرف ما يدور خارجه ذات يوم يحدث التغير المفاجئ ويتحول زوجها إلى دجاجة، فأثناء الاحتفال بيوم ميلاد الابن الأصغر، يخطئ الساحر ويفقد السيطرة ويفشل فى إعادة الزوج، الذي كان يدير كل تفاصيل حياة هذه الأسرة، هذا التحول العنيف يجبر هذه الزوجة الخاملة على تحمل المسؤولية بحثا عن حلول للأزمة واستعادة الزوج، وتحاول النجاة بما تبقى من أسرتها الصغيرة.
وقال عمر الزهيري: علمت بانتقادات بعض الفنانين للفيلم، ولكني أقدم السينما التي أقتنع بها، وتقدم أفكاري وأمر طبيعي أن يكون هناك اختلاف في الرأي حول الفيلم وحينما وصلت لمهرجان كان لم أكن أعرف ما سيحدث بعدها.
وعن الصعوبات التي واجهها الفيلم قال: كان علي أن أجد كل يوم مفاجأة في العمل أبني عليها مشهد، وكنت أخشى أن أفقد هذه التفاصيل، وكان مصدر قلقي حتى انتهى العمل،
وتابع: أنا أملك خبرة تقنية كبيرة من خلال عملي في مجال الإعلانات وكمساعد مخرج قبل أن أقدم تجربة ريش.
وأضاف الزهيري: أحب السينما منذ صغري والعمل الجيد يجب أن يراه الجميع، وفيلمي أول عمل يخلق ارتباك بين المشاهدين، وهو أمر حدث للكثير من المخرجين الكبار، وإذا شاهدت النقد الأجنبي عن الفيلم سنجده إيجابي وسنطرحه تجاريًا في شهر ديسمبر المقبل.
وقال مخرج الفيلم إن السينما والفن دورهم طرح الأسئلة وترك الإجابة للجمهور وهو ما يخلق الاختلافات، لذلك النهاية المفتوحة كانت مقصودة، فأنا تخيلت كل مشهد بالعمل قبل أن أبدأ تصويره.
بدورها قالت إدارة المهرجان في بيان لها إن مهرجان الجونة قدم على مدار أربع سنوات مضت العديد من الأنشطة في مجال تعزيز الفن السينمائي وتنشيط السياحة المصرية، وعقدت دورته الرابعة فى ظروف عالمية صعبة، للتأكيد على مكانة مصر وحرص المهرجان على إبراز قدرة مصر والمصريين على تقديم مهرجانات فى مستوى العالمية، بالتعاون مع محافظة البحر الأحمر وبرعاية وزارة الثقافة ووزارة الصحة ووزارة الداخلية، ما يؤكد انتماء المهرجان لمصر وولاءه لها.
وتابع المهرجان أنه يؤكد على تقديره لكل صناع السينما فى العالم وما يقدمون من إبداعات وتجارب سينمائية متميزة، مؤكدا أن فريق العمل فى المهرجان يقوم باختيار الأفلام بناء على جودتها الفنية والسينمائية فقط بمعايير المهرجانات السينمائية العالمية.
وعن اختيار فيلم ريش قال المهرجان إن الفيلم متسقا مع معايير اختيار الأفلام وذلك بناء على ما حققه من نجاحات في بعض المحافل الدولية سواء حصوله على الجائزة الكبرى لأسبوع النقاد الدولي في أكبر المهرجانات العالمية مهرجان “كان”، وهو أول فيلم مصري يحصل على مثل تلك الجائزة المرموقة.
وتابع: كما حصل بالأمس القريب على الجائزة الكبرى لمهرجان “بينجياو” في الصين، كما تم اختياره ليعرض في أيام “قرطاج” السينمائية في دورتها القادمة، كما قامت وزارة الثقافة المصرية بتكريم الفيلم وفريق عمله في فعالية أقيمت قبل بدء مهرجان الجونة السينمائي.
وأضاف المهرجان: “لذا كان اختياره للعرض فى مهرجان الجونة جزء من الاهتمام بالشأن المصري في المجالين الفني والثقافي عالميا، خصوصا وأننا على مدار 125 سنة من تاريخ السينما المصرية لم يحصل فيلم مصري على جائزة بهذه الأهمية. ووفقا لآراء العديد من النقاد المصريين والعالميين، فإن الفيلم تدور أحداثه في زمن ومكان غير محددين، وبالتالي لا يمكن تحميل الفيلم أكثر من ما جاء به، ويؤكد المهرجان أنه لم ولن يعرض أي فيلم بدون الحصول على التصاريح الرسمية تأكيدا لأنه لا يحمل أية أساءة أو ضغينة فى أى من عروضه المختلفة سواء داخل أو خارج المسابقة الرسمية”.
وقال مهرجان الجونة إنه يدعم السينما العالمية والفن بصفة عامة وأهمية أن يأخذ وضعه ضمن خريطة العالمية للمهرجانات ويفتخر المهرجان أنه مهرجان مصرى يقام على أرض مصر التى يكن لها كل الاحترام والتقدير فى كل ما ينتمى للمهرجان.