مصطفى الأعصر يكتب: واحد يشد والثاني يرخي: عن مائدة الإفطار التي تحولت إلى طاولة مفاوضات
أزعم أن السجناء هم أكثر المتابعين للأخبار اليومية من خلال الوسائل المسموح لهم بها، كنّا نقرأ الجرائد القومية ونحلل ما بين السطور ونخوض المناقشات لنعرف الحقيقة التي لم تُكتب، نقرأ سباب هاني عسل وحمدي رزق لوكالات الأنباء الأجنبية والمؤسسات الحقوقية والحكومات الأجنبية لنعرف لماذا يسبونهم، نقرأ الردود الحكومية على البيانات الحقوقية وبيانات الحكومات الأجنبية لنستشف ما جاء بتلك البيانات ونناقشها في فترة التريض مع الزملاء من باقي الزنازين، نستمع إلى محطات الرادية المحلية، ننتظر نشرة البي بي سي، نشرة تريندينغ، العالم هذا الصباح، لقاءات رشا قنديل، نتجمع ونلتف حول الراديو كي نستمع لخطابات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بكل إنصات واهتمام أكثر من أهم مؤيديه، ربما يفاجئنا بقرار يغير من مصيرنا، ربما يقول كلمة تمنحنا أملًا نحيا عليه للغد، فنحن السجناء -كما يقول محمود درويش- نربي الأمل، نحيا على أي قشة للخروج ولو كانت زائفة، نحلل الأخبار بكل رؤى تفاؤلية.
أذكر موقفًا لبعض الزملاء المحبوسين في غاية السذاجة والبؤس معًا، في شهر سبتمبر/ أيلول 2020، تزامنًا مع دعوات التظاهر التي كان يطلقها المقاول محمد علي في هذه الفترة، كنت موجودًا بسجن عنبر الزراعة في غرفة كبيرة بها أكثر من خمسين مسجون، وبعد منتصف الليل يعم الهدوء جميع الغرف، البعض مستيقظ والبعض الآخر يغط في نوم عميق، في اليوم التالي أخبرني البعض أثناء التريض أنهم توهموا بأصوات المتظاهرين قريبة من أسوار السجن، توهموا أن الشعب قادم لتحريرهم، وبدأوا في الصياح والتكبير، ذلك على الرغم من قناعاتهم الشخصية بتفاهة الدعوة وانحطاط صاحبها.
بعد هذا الحادث بأربعة أشهر بالضبط، كان جانب من الزنازين تعمه بالاحتفالات والفرحة والبهجة، ولدى بعض السجناء بها قناعة كبيرة بأنهم سيتحررون خلال الأيام القادمة، كان اليوم 20 يناير/ كانون الثاني 2020 وأعلن الراديو فوز الرئيس الأمريكي جو بايدن، ربما تجده مشهدًا عبثيًا، سجناء يهتفون باسم بايدن داخل الزنازين: “بايدن هيخرجنا كلنا!”، بعض من هؤلاء يرون في أمريكا الشيطان الأعظم، ولكن لهذه الدرجة يتعلق السجناء بالأمل ويحيون عليه.
ولهذه الأسباب وليس غيرها ولأنني ذقت مرارة السجن وأعلم جيدًا كم هو مدمر للأشخاص ويترك ندوبًا أبدية في القلب والروح، وأعلم كيف ينظر المسجون إلى العالم وكيف يتعلق بأي أمل، فأجد أي وسيلة ممكنة للحديث عن السجناء وأحوالهم، وأي وسيلة لإخراجهم من السجن هي وسيلة مشروعة، وربما هذا الرأي هو نتاج التجربة الأليمة التي لو لم أمر بها ربما كان لي رأي آخر.
أتخيل مشهد السجناء بعد أخبار الإخلاءات الأخيرة، 41 مسجونًا أصبحوا أحرارًا، كانوا ينامون بجوارهم وفي اليوم التالي داست أقدامهم الأسفلت، وبعدها بيومين يستمعون لرأس الدولة يتحدث للمرة الأولى عن إصلاح سياسي وعن سعادته بالإفراجات الأخيرة وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية، أزعم أن السجناء شرعوا في تبادل التهاني والأحضان من الآن، شرعوا في تأهيل أنفسهم للحرية، أتخيل كيف أن نفسيتهم ومعنوياتهم تعانق السماء، أسمع مباركاتهم وأرى ابتساماتهم، أرى ضحكات الأهالي وهم ينتظرون دور أبنائهم السجناء.
41 إفراجًا فقط! ما الفارق الذي يحدثه في وجود الآلاف من المجهولين، أرى أن كل إفراج هو نجاة، هو إنقاذ لحياة كاملة كانت مهددة بالسجن، إنقاذ لأسرة كاملة، لقد نجوت من قبل، واليوم أتمنى النجاة للجميع، نعم، 41 سجينًا هو رقم بائس مقارنة بالمجموع وغير كافٍ، وإن كنّا نتحدث عن حوار سياسي شامل، فالأولى الحديث عن المحبوسين كافة، وليس فئات معينة أو أعداد محدودة، من الأولى الحديث عن تعديل شامل للقانون، ومن الأولى الالتزام به والكف عن تدوير المحبوسين، والكف عن حبسهم بعد تجاوز الحد الأقصى للحبس الاحتياطي. ولكني لا أحسبها بالأرقام ولكن بالحيوات، عندما كنت سجينًا، وقفت في كفة ووقف الجميع في الكفة الأخرى، ودومًا رجحت كفتي في نظر أسرتي، لو خيّروا أهلي بين حريتي وحرية الجميع، سيختارون حريتي، لأني أساوي الجميع في نظرهم، كل شخص تحرر من السجن هو بمثابة الجميع في نظر أسرته وأحبائه.
هل من العيب حضور بعض الشخصيات العامة المحسوبة على المعارضة مائدة الإفطار التي دعت لها مؤسسة الرئاسة منذ أيام؟ هذا هو السؤال الدائر حاليًا، ليس هناك إجابة صحيحة وأخرى خاطئة، الأمر يتوقف على موقعك من الرؤية، ومدى استعدادك لتحمل العواقب، ولكن دعنا نفرّق بين أمرين، نفرّق بين من يسعى إلى لقاء في السر أو العلن تملقًا وتآمرًا وتقربًا من السلطة ودوائر صنع القرار، وبين من تتم دعوته بشكل رسمي من مؤسسة الرئاسة، وله حرية تقدير الموقف السياسي، وتقدير العواقب المحتملة في هذا السياق التاريخي.
يستخدم المصريون أسلوبًا معروفًا في تربية الأبناء وتقويمهم، ويتبعونه كذلك مع الغرباء أثناء حل المشكلات، يعتمدون مبدأ “واحد يشد والتاني يرخي” أدوار مختلفة ليس من بينها الصواب والخطأ، الأمر نفسه يتبعه رجال الشرطة في كل بلدان العالم أثناء فترة التحقيق لانتزاع الاعترافات، أسلوب “الشرطي الطيب والشرطي الشرير”، وهكذا فللسياسة أدوارها أيضًا كما يقول المحامي الحقوقي جمال عيد “السياسة فيها أدوار مختلفة، ناس بتعرف تتفاوض، ناس تفضح وتكشف، ناس تحلل وتنقد، ناس بتعرف تشتغل في الشارع، ناس بتعرف تنظم وتدير” كل ما عليك فعله هو اختيار الدور الذي يناسبك دون التخلي عن مبادئك ودون أن تنسى الثمن الذي دفعته مقدمًا.
في أشد اللحظات الإنسانية تأزمًا، في حالة الحروب يحضر الحوار في النهاية، إما بين منتصر يجبر المهزوم على الجلوس إلى الطاولة ليفرض شروطه، أو بين طرفين متناحرين يريدا إنهاء حالة الخسارة، في الحالتين يحضر الحوار بين الندين. ولكي أكون أمينًا فالأمر هنا ليس مماثلًا ولكني أحاول تقريب المشهد، فالأمر هنا بين سلطة تفرض رؤيتها وتجبر من تريد على الجلوس لتأدية الدور المطلوب، وبين طرف مغلوب على أمره يحاول السعي بالأدوات التي مُنحت له كي يثقب ثغرة في الجدار، يجب أن ندرك موقعنا من السياق التاريخي وندرك أن الزمن تجاوز فكرة الثورية بعد أن تفسخت كل الحركات والأحزاب، ودُهست كل الرموز والشباب والمؤثرين، اسأل شباب الجامعات اليوم عن خالد سعيد ثم أخبرني كم منهم يعلم بأمره.
كان للصحفي بلال فضل رأي مقارب في هذا الأمر، فقال فضل أنه دُعي العام الماضي إلى لقاء في واشنطن مع مسؤولين مصريين، ولم يرفض الدعوة وحضر اللقاء، وأضاف أنه إذا كان بمصر سيوافق على الحضور ولكن بشرط أن يُلقي كلمة، ولو كلمة متفق عليها مسبقًا، فمن وجهة نظر فضل أنه من الساذج أن نعلم أن السلطة بحاجة إلى وجودنا وظهورنا في المشهد دون أن نستغل هذا الأمر جيدًا وأن يكون هناك مكسبًا وثمنًا لوجودنا.
أتفق هنا مع فضل، فإن كنّا مجبرين على الجلوس إلى الطاولة، وإن كنّا مجبرين على الظهور في المشهد لاستكمال الصورة، وإن كنّا مجبرين على لعب أدوار محددة لنا مسبقًا ضمن سياق معد ومرسوم ومخطط له جيدًا لتجميل المشهد السياسي أو حتى للالتفاف حول الأزمات الاقتصادية، إذا فليكن لجلوسنا ثمن، وليكن الثمن هو الإفراج عن السجناء، 41 شخصًا حرًا أمر في غاية السعادة ولكنه غير كافٍ، فلنرفع الظلم عن المحبوسين، هذا أقل ما يمكن تقديمه، ولنذكرهم في كل جلسة، ونملأ السماوات بأسمائهم، لأنهم يستحقون.