مش كلام في الكورة| لحظة ميسي التاريخية وخط دفاع الأرجنتين الذي اخترقه صندوق النقد.. لماذا تتكرر الأخطاء نفسها؟!
كتب – أحمد سلامة
“نحن نعاني، الناس في بلادي يعانون من أوضاع صعبة، وقد يُنسيهم هذا الفوز بعض الألم”.. وعيناه مليئة بدموع الفرحة تحدث النجم الأرجنتيني العالمي جابرييل باتيستوتا، في الاستوديو التحليلي، عقب الفوز التاريخي لمنتخب بلاده على نظيره الفرنسي في مباراة هي الأقوى والأكثر إثارة وسخونة في تاريخ نهائيات كأس العالم.
ربما كان هناك بعض النواحي المتشابهة بين البلدين، مصر والأرجنتين، تشابه في الظروف والأوضاع والأحوال، تقارب في معدلات الفقر والتضخم وأزمات الرعاية الصحية، وقد يكون ذلك سببًا لمشاعر التعاطف الفياضة التي انطلقت من مصر لترافق “راقصو التانجو” حتى وصولهم إلى منصة التتويج.
فالمصريون الذين يعشقون كرة القدم، يروون فيها “مُسكنًا للآلام”، وفرحة مؤقتة يمكن أن تنسيهم ولو لوقتٍ محدود بعض الصعوبات الحياتية، كذلك هم في البلد اللاتيني.. المصريون يُقدّرون قيمة “الموهبة” ويجلّونها فهي في نظرهم حجر عثرة في طريق الانكسارات المتتالية، وكذلك هم هناك في القارة الجنوبية.
جوانب التشابه قد تكون أعمق، فالتاريخ الاستعماري والحُكم القمعي في الماضي القريب كانا عاملين مشتركين، وربما مازال حتى الآن يتقاسم الجانبان “المتشابهات” إذ يجمعهما أزمات طاحنة وأوضاع خانقة.. وعلى قدر التشابه يأتي التعاطف.
🛑 الجنرال والحقبة السوداء.. كارت أحمر
ينحني قائد منتخب الأرجنتين، ليونيل ميسي، على كأس البطولة، تلك الكأس التي كان ينظر لها خلال جولات سابقة بحسرة، يضع عليها قُبلة حانية فقد حقق أخيرًا الحُلم الذي طالما أرق أحلامه بحصد الكأس الثالثة لبلاده.. هذه المرة تحقق الفوز بالكفاح والعرق على غير ما حدث في المرة الأولى.
في الأول من يونيو عام 1978، يقف الجنرال مزهوًا في افتتاح كأس العالم، فقد حقق -من وجهة نظره- إنجازًا دبلوماسيًا يضيف بعض المساحيق إلى وجهه الذي غابت عنه حُمرة الخجل بعدما لاحقته الانتقادات الدولية بسبب جرائمه.
الجنرال لم يتورع عن هدم بيوت الفقراء وإزالة أحياء كاملة بل وبناء سور عُرف لاحقًا بـ”جدار العار” لفصل المهمشين عن الزوار والسائحين خلال فعاليات المونديال.
“الفترة السوداء”، كما يلقبها البعض، تلك التي تولى فيها الجنرال خورخي فيديلا الحُكم منذ 1976 وحتى 1981.. ارتُكبت خلالها العديد من الجرائم، وتم التخلص من عدد كبير من المعارضين، قتلاً أو سجنًا، إذ تعرض خصوم نظامه لما عرف باسم “الحرب القذرة” التي شهدت “اختفاء” الآلاف تراوحت أعدادهم بين 20 و 30 ألف ناشط، حسب عدد من المنظمات الحقوقية، بالإضافة إلى اختطاف أبناء المعارضين ومنحهم للأسر المؤيدة لنظامه!.
في ظل ذلك، عكف فيديلا على افتتاح مشروعات وهمية بغرض “الشو الإعلامي” والاستحواذ على “اللقطة”، حتى أنه استضاف مونديال كأس العالم بدعم من بعض عناصر “المجتمع الدولي” بل وفاز بالبطولة منتخب الأرجنتين، وهو الفوز الذي مازالت الشبهات تحوم حوله.
يروي الكاتب والمؤرخ الألماني إرنست ڤولف جرائم صندوق النقد خاصة فيما يتعلق بالنموذج الأرجنتيني، إذ يؤكد أن البلد اللاتيني كان يُعد أحد أغنى بلاد العالم في ثلاثينات القرن الماضي، لكنه يؤكد أيضًا أن الأوضاع انقلبت تمامًا مع وصول فيديلا للحكم.
يقول ڤولف إنه في عهد فيديلا تم منع التظاهرات والإضرابات وبلغ عدد المختفين قسريًا أكثر من 20 ألفا امتلأت بهم المراكز الأمنية، كما اتفق الجنرال مع صندوق النقد والمؤسسات المالية الدولية على تحرير الاقتصاد فجمد الرواتب وارتفعت البطالة وتحول عدد هائل من الجنرالات إلى رجال أعمال.
“حين سقط فيديلا كان رجال الأعمال -الجنرلات سابقا- أمسكوا بكل مفاصل الاقتصاد من خلال إمبراطوريات لا شركات، نفس هؤلاء حين شعروا بزيادة الغضب الشعبي هرّبوا أموالهم إلى الخارج”، يقول الكاتب الألماني.
تسبب تعويم البيسو الأرجنتيني، وفقًا لقرار أصدره فيديلا، في انهيار الاقتصاد واضطر الجنرال إلى الاقتراض من كل الجهات المتاحة وكانت الولايات المتحدة حاضرة لمساعدته ليتجنب حليفها السقوط فتعاون الرجل مع صندوق النقد الدولي وباقي المؤسسات المعنية حتى تضاعف الدين الخارجي للأرجنتين 4 أضعاف في 5 سنوات فقط.
ربما كانت أمهات المعتقلين يشعرن بالوحدة في احتجاجاتهن بـ”ساحة مايو”، ربما كن يعتقدن أن صرخاتهن تذهب هباءً منثورًا، وربما كن يعتقدن أن الليل ليس له آخر، وكأن قضيتهن تاهت في صخب الاحتفالات المونديالية المُبهجة.. غير أن الأحوال تبدلت إذ أدت التظاهرات التي زحفت من القرى والمدن إلى رحيل “الديكتاتور” بعد أن تزايد الفقر الذي كسر حاجز الـ 37%.
خورخي فيديلا، الرجل الذي ظن الجميع أنه لن يرحل عن الحكم، وأنه قابع فوق صدورهم إلى الأبد، توفي بعد ذلك بسنوات.. في السجن.
🛑 القادمون من الخلف وسداد الديون
يخسر المنتخب الأرجنتيني أولى مبارياته في المونديال، مفاجأة كادت أن تحطمه، أعادت الذكريات الأليمة لخسائر سابقة أبعدتهم عن الكأس الذهبية، أشارت أصابع الانتقاد إلى المدير الفني وأعضاء الفريق باستثناء “ليونيل ميسي”، فالشعب الأرجنتيني كما المصري يُقدّر الموهبة.
يعود منتخب التانجو بعد “مباراة الخسارة” ليحصد البطولة، ملحمة أشبه بعودة الشعب الأرجنتيني كله في أعقاب “سنوات الخسارة” تحت حكم الجنرال فيديلا.
جميع الرؤوساء التالين للجنرال فشلوا في تحسين الأحوال الاقتصادية، وهنا بدأ صندوق النقد الدولي دوره فأقرض الأرجنتين عشرات المليارات حتى أصبحت البلاد عاجزة عن سداد الفوائد، فأقرضها من جديد بشرط أن تضمن الحكومة جميع القروض العامة والخاصة وهي القروض المستحقة لبنوك أمريكية وغربية، دخلت الأرجنتين نفقًا مظلمًا حاولت الخروج منه بأي طريقة ولكن بدا أن فاتورة الجنرال فيما سمي بالعصر الأسود تأبى أن تُسدد، لكن بعد سنوات تغير الأمر.
في يوم 25 مايو 2003 بدأ الرئيس الأرجنتيني نيستور كريشنر، مع حكومة ذات ميول يسارية (مدنية) مهام أعمالهم ضمن سلطة جديدة تبدأ مرحلة جديدة، إذ تفاوضت البلاد على إعادة جدولة ديونها، وتدخلت الهيئة الوطنية للإحصاء والتعداد لتقلل التضخم المتزايد، واستقال العديد من قضاة المحكمة العليا خوفًا من عزلهم، وعُين قضاة جدد.
أُلغى كريشنر العفو عن الجرائم المرتكبة في الحرب القذرة في ظل تطبيق قانون إنهاء محاكمة العسكريين وقانون الطاعة الواجبة وعمليات العفو الرئاسي، كما صُرح بعدم دستورية هذه القوانين.. أدى هذا إلى إقامة محاكمات جديدة للعسكريين الذين كانوا في الخدمة خلال سبعينيات القرن العشرين.
مع كريشنر، زادت الأرجنتين من تعاونها مع دول أمريكا اللاتينية، وأنهت انحيازها التلقائي للولايات المتحدة الذي يرجع تاريخه إلى تسعينيات القرن العشرين.
في شهر ديسمبر من عام 2005، أعلن الرئيس الأرجنتيني نيستور كريشنر أن بلاده ستسدد 9.8 مليارات دولار من ديونها لصندوق النقد الدولي قبل نهاية العام، مشيرًا إلى أن سداد هذه الديون جاء بفضل زيادة احتياطياتها من النقد الأجنبي، واصفًا تلك اللحظة بـ”اللحظة التاريخية”.
في عام 2001 انهار الاقتصاد، وفي 2003 تولت سلطة جديدة البلاد، وفي 2005 تمكنت السلطة الجديدة من سداد الديون.. النجاح ليس صعبًا على المُخلصين كما يزعم الفاشلون.
🛑 هجمة مرتدة وانهيار وفوز رغم ذلك
يتقدم المنتخب الأرجنتيني على المنتخب الفرنسي بهدفين في شوط المباراة الأول، يبدأ الشوط الثاني وكأن كل شئ انتهى، وكأنهم حققوا الفوز ورفعوا الكأس، يتراجع الأداء الفني والبدني والإداري، تنقلب النتيجة ويتمكن المنافس من تسجيل هدفين في آخر دقائق المباراة، في الشوطين الإضافيين تُعاود الأرجنتين الكرّة وتتقدم بهدف ويحتفل الفريق لدقائق قليلة قبل أن يدركهم هدف التعادل من الفريق الغريم مرة أخرى.
يبدو أن الفريق انهار.. الطريق إلى المرمى المفتوح دومًا، وعدم قدرتهم على حفظ التقدم حطم -لفترة- معنوياتهم، كادوا أن يستسلموا لفكرة الهزيمة في المباراة النهائية مرة أخرى، وكأن اللقب يعاندهم.
في بوينس آيرس وكل المدن الأرجنتينية، يتابع الفقراء والبؤساء فريقهم، يلعنون الفرحة التي ترفضهم، تمر الدقائق ثقيلة كثقل الفقر وبطيئة كمشية المديون.. يتساءلون هل سيُحرمون مرة أخرى من البهجة ويعودون إلى واقعهم المرير مُحملين بانتكاسة أمل لم يتحقق؟!.
“لماذا تتكرر نفس الأخطاء؟” ربما تساءل أحد الجماهير وهو يشاهد المباراة.. ليس السؤال عن أخطاء دفاعات الفريق الكروي وحده، بل عن أخطاء السياسة والاقتصاد أيضًا.
بعد سنوات من المعاناة في ظل التعاون مع صندوق النقد، وبعد سداد المديونيات في عام 2005، عادت الأرجنتين مرة أخرى إلى الصندوق، لتتجدد الأخطاء وتتجدد الآلام والأوجاع.
حدث ذلك في عام 2018، إذ وافق صندوق النقد الدولي على إقراض الأرجنتين ما يصل إلى 50 مليار دولار، في وقت قالت فيه الحكومة إنها تسعى فيه لتحسين اقتصادها الواهن.
القرار الصادر -حينذاك- عن الرئيس ماوريسيو ماكري، تعرض إلى انتقادات عديدة داخل بلاده، حيث ألقى الكثيرون اللوم على صندوق النقد الدولي نفسه في انهيار الاقتصاد الأرجنتيني في عام 2001، قبل أن يحقق نيستور كريشنر “اللحظة التاريخية” في 2005.
ماوريسو ماكري قال إن قرض الصندوق سيسمح لحكومته بتقوية وتعزيز برنامج النمو والتنمية و”يعطينا دعما كبيرا لمواجهة السيناريو العالمي الجديد وتجنب الأزمات من أمثال تلك التي واجهناها في تاريخنا”.. أما كريستين لاجارد مدير الصندوق فقد هنأت السلطات الأرجنتينية على التوصل لهذا الاتفاق.
لاجارد قالت “كما شددنا من قبل على القول، إن تلك خطة أعدتها وصممتها الحكومة الأرجنتينة، وتهدف إلى تقوية الاقتصاد من أجل مصلحة جميع الأرجنتينيين”، مضيفة “أنا مسرورة لأننا تمكنا من المساهمة في هذا الجهد بتقديم دعمنا المالي، الذي سيعزز ثقة السوق ويعطي للسلطات وقتا للتعامل مع سلسلة من نقاط الضعف التي تواجهها منذ زمن طويل”.
ما حدث -كالعادة- أن كانت تصريحات صندوق النقد على لسان لاجارد في غير موضعها، إذ تفاقمت الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين وتصاعدت حدتها وازداد الفقراء فقرًا وانهارت العملة وزادت البطالة.. لم ينجح قرض الصندوق في تنفيذ “برامج التنمية والتطوير”.
يهتف المشجع الأرجنتيني باسم “ميسي”، فهو كما الحال في مصر يُبجل الموهبة الفردية، يثق في أنه قادر على تغيير نتيجة المباراة وحسمها قبل الذهاب إلى ركلات الترجيح.. وربما تذكر في الوقت ذاته “كريشنر” ولحظته التاريخية.
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، تنطلق صافرة النهاية، والآن نذهب إلى ركلات الحظ الترجيحية.
حتّم القدر أن تكون لحظة النصر جماعية، يشارك فيها الجميع بالتساوي، تغلب عليها روح الفريق وليس جهدًا فرديًا.. فازت الأرجنتين رغم أخطائها التي تكررت.
يرى المتابعون أن غياب ميسي المُرجح عن المونديال المقبل يعني أن الفريق لن يذهب بعيدًا في البطولة، وأن هناك حاجة إلى “بناء منظومة” حقيقية قائمة على العمل الجماعي إذا ما أرادت الأرجنتين الحفاظ على اللقب.
إن “لحظة ميسي التاريخية” أثناء رفع كأس البطولة، يمكن أن تتكرر إذا ما استغلت الأرجنتين ذلك الفوز في بناء نظام حقيقي يضمن الحفاظ على النجاحات.. وإلا فسينتظرون ميسي آخر يأتي بعد عقود ليحمل -كما حدث بالفعل- منتخبهم على كتفيه شاقًا طريقه إلى الكأس المونديالية.
وربما هذا ما تحتاجه الأرجنتين أيضًا للتغلب على أزمتها الاقتصادية، “العمل الجماعي” هو السبيل للخلاص، فـ “لحظة كريشنر التاريخية” كانت بحاجة إلى إرساء قواعد جماهيرية تحفظ المكتسبات الجديدة ولا تتركها عُرضة للتراجع.
لنهنئ الأرجنتين بفوزها بالمونديال، ولنرجو لها التوقف عن تكرار الأخطاء والخلاص من الفشل الإداري وفساد السلطة وكسر أغلال الديون، ولنغني معها نشيدها الوطني:
اسمعوا الصرخة القدسية
يا حرية.. يا حرية.. يا حرية
اسمعوا ضوضاء الأغلال المكسورة
وأحرار العالم يقولون: سلامٌ.. للشعب الأرجنتيني الكبير