مدحت الزاهد يكتب: هوامش على أزمة الحديد والصلب.. بين ثقافة الفضائح واقتصاد المول
مبدأ (الربحية المعيار الأساسي للنجاح).. أنتج الصحافة الصفراء وأفسد الثقافة
……
وينتج فى الصناعة ميول تصفوية تحول المنشآت إلى استثمار عقاري
……
النجاح الاقتصادي يرتبط بأهداف التنمية وتكامل قطاعات الاقتصاد واحتياجات الدولة والمجتمع ولا يقاس بكل منشأة منفردة
…….
أفدح خسارة لأى اقتصادى هى تقويض قدراته الانتاجية
…..
لو أخذنا بمبدأ الربحية المعيار الوحيد للنجاح فإن الصحافة الصفراء تكسب، ويكفى أن تضع صورا جنسية، وخلطة عناوين عن الحشيش، والسهرات الحمراء، وفضائح البلاتوه، ونمائم نجوم الأهلى والزمالك، وأخبار شيخ الأزهر، والبابا، ومعاهم تحابيش عن فضائح الطابور الخامس، وضبط حفيد مرشد الإخوان، وزعيم الشيوعيين فى شقة دعارة ..
لو وضعت هذه الخلطة مع الصور إياها فإن الصحافة الصفراء تكسب التوزيع وتربح عن أى صحيفة جادة، خصوصا مع القيود على حرية الرأي وتداول المعلومات، وشيوع القيم الاستهلاكية، وفساد الإدارة، والنتيجة انتصار صحافة الفضائح.
ولو ابدعت مثل هذه الخلطة أو ما يشبهها فى برامج التلفزيون واستضفت نجوم السينما والمجتمع ترتفع نسبة المشاهدات والاعلانات، ليستمتع المشاهدون بإجابات النجوم على أسئلة من نوع، لو شفت مرات صاحبك ماشية مع واحد تقوله ولا تنصحها ولا ترافقها… وتعمل إيه لو واحدة ست ضربتك بالقلم، وكان أحسن كهربا يلعب الكرة ببطن رجله اليمين ولا الشمال ولا يرقص الجون وياخد بنالتى ..
طبعا الإعلانات هنا تزيد، ويحدث هذا حتى فى البرامج الدينية، فمع التسليع أي تحويل كل القيم إلى سلع، تقاس فى حالتنا هذه بالمشاهدات والإعلانات والأرباح، يتفنن بعض المشايخ المرضى بإطلاق فتاوى جنسية لزوم الترويج وتجد فى الإعلان عن البرنامج أحدهم يسأل غيابيا ممثلة شهيرة.. كم رجل اعتلاك يا امرأة .. والحقيقة أن تحويل القيم إلى سلع وترجمة العائد إلى أرقام يمكن أن يدمر الثقافة والقيم والمجتمعات.
ورغم صعوبة القياس فإن أزمة الحديد والصلب، التى لخصها المصفى العام للحديد والصلب والصناعة المصرية، بخسارتها واعتذر للشعب عن تأخر التصفية لمدة عام، هذه الذهنية تنتمى إلى نفس المجال، اعتبار الربحية هى المعيار الوحيد للنجاح، حتى لو كان الثمن تصفية صناعات دعمت المجتمع والدولة وطورت القدرات الإنتاجية للاقتصاد.
وعند حملة أجندة التصفية فإن قياس الربحية يتم على مستوى كل منشأة على حدة وليس من منظور خطة وأهداف التنمية، وتكامل نشاط القطاعات الإقتصادية، ودور الصناعة الثقيلة فى تطوير القدرات الإنتاجية للاقتصاد .. والأمر لا يقتصر على هذا، فلا يسقط معيار الربحية كعامل وحيد لقياس النجاح هذه الاعتبارات التنموية وحدها، بل إنه يسقط أيضا أثر السعر الإجتماعى الذى فرضته الدولة لبعض الصناعات على تخفيض قدرتها على الربحية نتيجة بيع منتجاتها بأقل من الأسعار الاقتصادية أو ما تسمى بأسعار السوق، وذلك لدعم فئات وطبقات اجتماعية كما فى حالة الأسعار الإجبارية للسماد دعما للفلاحين، أو أسعار منتجات زراعية دعما للمواطنين، أو الأسعار النوعية لمؤسسات فى الدولة، منها القوات المسلحة لشراء منتجات الحديد والصلب، التى كانت رافعة الحرب وجسر القوات، التي كانت تتدفق إلى الضفة الأخرى عبر كبارى من منتجاتها وكانت حاضرة فى سلاح المقاتل المصرى، وأيضا فى النشاط الإنتاجي للقطاع المدنى، من صنبور المياه، إلى البوتجاز، والثلاجة والغسالة والسيارة، وغيرها من المنتجات ستجد الحديد والصلب، فهو ليس مصنعا أو شركة، بل قطاع صناعة كامل .
وفى الحقيقة فإن ذهنية المصفى العام للصناعة المصرية وتحويلها إلى نشاط عقارى ببيع الأراضى ، تشبه ذهنية تحويل الثقافة والفكر الى سلع وتحويل الصحة والتعليم إلى نشاط تجاري ربحي والاقتصاد المصرى كله إلى اقتصاد خدمى، وشل قدراته الإنتاجية والتعامل مع الثقافة كنشاط استهلاكي، والخدمات الضرورية كنشاط تجاري، والاقتصاد كسوبر ماركت، أو مول والمشروع التنمية كمشروع للاستيراد.
وحتى بمنطق الربحية فإن المجتمع المصرى والدولة المصرية هى المدينة للحديد والصلب، هو وصناعات أخرى الدائن للدولة، وإذا كنا ستعتمد مبدأ الربحية كمعيار وحيد، يتوجب أن تقوم الحكومة والهيئات المختلفة برد فروق الأسعار بين الأسعار الاجتماعية الإجبارية، التى قررتها وأسعار السوق وقت التعامل، ولو طبقنا هذا المعيار سوف نجد فوائض تكفى وتزيد عن الموارد المطلوبة للتطوير فى الحديد والصلب والقطاع الصناعي بأسره.
ولا يلزم هنا الحديث عن التخسير العمدى لشركات القطاع العام والانحياز السافر للقطاع الخاص، ويكفى أنه عندما كانوا يضطرون لفتح باب الاستيراد للحديد، كان الحديد الأوكراني والتركي يباع بأسعار أقل من حديد عز، رغم أن الحديد المستورد كان محملا بتكاليف النقل البحرى ولم يكن يتمتع بنفس مزايا حديد عز فى الحصول على طاقة مدعومة فضلا عن العمالة الرخيصة، وفى هذا الوقت نفسه كان يتم تخسير الحديد والصلب فقد نشأت رأسمالية المحاسيب على جثة القطاع العام.
ولا أريد أن أستفيض في الحديث عن التخسير العمدى للصناعة المصرية فقد قيل فيه الكثير بالأدلة والبراهين الموثقة، وأنما يلزم التوضيح أن هذا التخسير وثيق الإرتباط بالتبعية للخارج، وبسياسات الليبرالية الجديدة وتطور الرأسمالية، فى مرحلة العولمة إلى رأسمالية عدوانية شرسة هدفها تحويل اقتصادات دول الجنوب، إلى اقتصادات تابعة كليا يتراجع فيها دور الدولة فى دعم الخدمات والإنتاج والسلع، لتصبح وكيل كومبرادوري مهمته إعداد البنية الأساسية، والتشريعات الملائمة، والبيئة الاقتصادية المناسبة لسهولة انسياب رؤوس الأموال والسلع وقدرتها على الهيمنة على الأسواق وهو ما يوجب تخفيض القدرات الإنتاجية للدول المستهدفة وفرص اعتمادها على الذات وإعادة هيكلة وضعها الاقتصادى فى إطار تقسيم عمل يضمن تبعيتها ويحقق للاحتكارات الهيمنة..
وهذه الأجندة هى التى تنشط فى كل مكان وخلافا لها فإن موقع مصر ينبغى أن يكون على الضفة الأخرى بالعمل على تطوير قدراتها الإنتاجية وتوجهها لبناء مساحات متزايدة للاعتماد على الذات فى شراكة متكافئة مع دول الجنوب وأطراف أخرى فى النظام الدولى وضمن توجه معارض للهيمنة والاحتكار وداعم لقوى الحرية والتنمية والاستقلال..–