مدحت الزاهد يكتب: ليس على طريقة الدواعش.. آباء من الكنيسة قادوا معركة الحرية في أمريكا اللاتينية

فى أعياد الميلاد أتذكر لاهوت التحرير، وخلاصته أنه لن يتحرر إنسان من خطاياه إلا برد الظلم على الأرض، ولن يدخل ملكوت السماء ظالم أو مستكين، والأرض هي أيضًا ملكوت الرب، والخلاص في مقاومتك وليس هبة من السماء للضعفاء.

وهذا اللاهوت هو القراءة الثورية للمسيحية التي من خلالها أعاد بعض آباء الكنيسة الكاثوليكية قراءة المسيحية لمصلحة الفقراء والمعدمين لتوسيع مجال الإيمان، بحيث يشمل المسؤولية تجاه الواقع وتغييره، من خلال قراءة تؤكد على أن “الخلاص لا يكون بالتحرر من الخطايا فقط، بل من كل أشكال الظلم والقهر والحرمان”.

وكان لعنف الديكتاتوريات العسكرية وتفاقم المظالم وعنفوان المقاومة تأثيرًا على بعض رجال الكنيسة؛ فتفاعلوا معها وتبلورت لديهم رؤية ثورية أكثر اقترابًا من هموم وقضايا الشعوب، وبدأت تظهر مجموعات راديكالية ثورية من القساوسة قامت بنقد المجتمع والسلطة والكنيسة أيضًا، تطالب بخروج الكنيسة من عزلتها وبانفتاحها على المجتمع، خاصة بعد أن أصبحت القوة الوحيدة الباقية خارج سيطرة الأنظمة الشمولية.

وانتشر دعاة “لاهوت التحرير” في معظم مناطق أمريكا اللاتينية، “وعلى رأس هؤلاء يأتي القس الكولومبي كاميللو توريس”، ورغم أنه كان ينتمي في بدايته إلى أسرة عريقة وثرية في بوجوتا العاصمة، وتعلم في أوروبا ونال من بلجيكا الدكتوراه في علم الاجتماع، فإنه انقلب فكريًا تمامًا بعد الدراسات الميدانية التي أجراها لحياة الفقراء خاصة في الريف الكولومبي فأصبح ثوريًا راديكاليًا، وشكل سنة 1965 “الجبهة الواسعة” وهو تحالف سياسي يسعى للاستجابة لمتطلبات غالبية أهالي بلاده.

والإضافة الكبرى التي قدمها كاميللو توريس هي “تثوير المسيحية” أو قراءتها قراءة ثورية؛ فقد قام ببحث عميق لمعنى الحب المسيحي، وأعاد صياغة مفهومه ليحوله من كونه شعورًا فرديًا عاطفيًا إلى عملية اجتماعية تتضمن معاني الزهد والتضحية والتعاطف مع الضعفاء والفقراء والمحتاجين.

ورغم اغتيال “توريس” في عام 1966، فإنه ظل رمزًا لما أصبح يعرف بالكنيسة التقدمية نظرًا لوعيه السياسي وعاطفته المتأججة التي حولت مفهوم الحب المسيحي إلى ثورة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فعلى ضوء المفاهيم التي صاغها كاميللو توريس تكونت جماعات كاثوليكية في كل مناطق الريف اللاتينية لعبت كلها دورًا بارزًا في المجالات الخدمية والإنسانية للفقراء.

وبجانب توريس يقف الأب “جوستافو جوتييرز” في بيرو كأحد أهم مؤسسي حركة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، فقد استطاع بكتاباته خاصة كتاب (رب الحياة) صياغة المفاهيم والأفكار الرئيسية للاهوت التحرير، والمحور الأساسي فيها هو اعتبار “المسيح هو مسيح الفقراء ومسيح المضطهدين، ومسيح الحرية…”.

وفي السلفادور كان “أوسكار روميرو” كبير الأساقفة الراحل، أكثر آباء الكنيسة انحيازًا للفقراء، وكان أول من أعلن ذلك صراحة، وأعلن معارضته لحكومة بلاده الديكتاتورية التي وصفها بالدموية والعداء للفقراء، وكان من أبرز معارضي الهيمنة الأمريكية بالمنطقة، وقد وضع عدة مؤلفات تعد الأساس الفعلي لحركة لاهوت التحرير، أهمها كتاب (عنف الحب) و(صوت من لا صوت لهم) الذي صار فيما بعد عنوانًا لسلسلة الكتب التي تعبر عن فكر وتوجيهات هذه الحركة. ولم يطبع هذان الكتابان إلا بعد رحيل روميرو بأكثر من عشر سنوات. وله كتاب (رسالة الأمل من أحد الشهداء)، وهو عبارة عن شرائط كانت تحمل تسجيلاته، إضافة إلى كتابه (أوقفوا الاضطهاد).

وقد استمر روميرو في دعوته إلى أفكاره المناصرة للفقراء والمستضعفين والرافضة لهيمنة الأغنياء حتى قُتل في أوائل الثمانينيات، واتهمت حكومة السلفادور وقتها الثوار اليساريين بقتله، لكن ثبت بعدها أن المسؤول عن اغتياله هي “كتائب الموت” التي كانت تابعة للشرطة والجيش السلفادوري، والتي كانت مختصة بالتخلص من أعداء النظام، كما ثبت أيضًا تورط المخابرات المركزية الأمريكية في هذه العملية الشائنة!وبلغت مكانة روميرو أن اعتبر جوستافو جوتييرز في كلمة ألقاها في الذكرى الخامسة عشرة لاغتياله “أن موت الأسقف” روميرو “يمثل نقطة فاصلة في تاريخ الكنيسة بأمريكا اللاتينية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *