محمود أمين يكتب: أزمة النظام ومأزق طنطاوي
لا أحد يمكنه أن ينكر أننا نعاني من أزمة مركبة اقتصادية وسياسية واجتماعية، الكل متفق على ذلك جكومة ومعارضة والكتلة العريضة من المجتمع المصري غير المسيسة”حزب الكنبة”، الاختلاف يكمن في توصيف تلك الأزمة، فالنظام يراها أزمة قدرية من عند الله، لا دخل له فيها، فالنظام لم يبدأ حرب اوكرانيا ولم يصنع الكورونا، بل وورث بلد فقير “أوي” بحد توصيف رأس السلطة نفسه، وبالتالي فالحل يكمن في الصبر على الابتلاء وانتظار حلول السماء، كاكتشاف حقول غاز أو آبار بترول تنقذ البلد من أزمتها الاقتصادية، أو مناسبة ما يترتب عليها اسقاط ديوننا كما حدث سابقا ، والمعارضة ترى أن النظام باستبداده وعدم كفاءته وانحيازاته الاجتماعية وفشله في إدارة لملفات الاقتصادية والسياسية هو المتسبب الأول فيما وصلنا اليه من أزمة حالية والتي لا خروج منها سوى بتغيير بنية النظام الحالي بما يسمح بانفتاح سياسي حقيقي وإدارة كفؤة للملف الاقتصادي، وتبقى الأغلبية الكاسحة من الشعب شبه مغيبة عن اتخاذ أي قرار أو امتلاك أي تصور للخروج من أزماتها التي تبدو لها سرمدية لا تملك تجاهها سوى الغضب المكتوم بالصدور.
إذن ما هي حقيقة الأزمة؟
من المعلوم بالضرورة أنه لا علاج مجدي سوى بتشخيص سليم للمرض، لذلك ينبغي علينا قبل الخروج بحلول لوضعنا الآخذ بالتدهور أن نقف على طبيعة أزمتنا كمجتمع، والتي لا يستوي الوقوف عليها سوى بوضعها في سياقها التاريخي للوقوف على تناقضنا/ مشكلتنا الأساسية التي إن حلت ستحل بعدها تباعا تناقضتنا/ مشكلاتنا الثانوية، الحقيقة أننا مجتمع معطل عن احراز التقدم بفعل تبعيتنا الاقتصادية والسياسية للقوى الاستعمارية، والتي اقصد بها تحديدا القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة وذيلها الصهيوني بالمنطقة، والحقيقة أيضا أنه لا خروج من تلك التبعية بدون الخروج من آسر الاستبداد السلطوي الجاثم على صدر وطننا ونيل حقنا كشعب في تقرير مصيره وسيادة قراره، والذي لن يتحقق سوى بالنضال والمقاومة لفرض واقع جديد بانحيازات واضحة لقضايا العدل الاجتماعي والحريات العامة والخاصة.
لماذا عجزنا عن التغيير؟
بدايةً التغيير قادم لا محالة، مهما تصور البعض غير ذلك، ولكن هذا التغيير لن يتأتى بغير وعي وعمل لاحداثه، والدليل على ذلك تلك الملايين التي خرجت في 25 يناير و30 يونيه للدفاع عن حلمها وحقها في التغيير الذي تأمله، حتى وإن تم احباط هذا الحلم المشروع الذي لم يحمل مشروع واقعي قابل لإنفاذه، هذا المشروع الذي يجب أن تصوغه وتتبناه جماهير منظمة بقيادة مخلصة، فالتاريخ والواقع يخبرنا أن الشعوب تكون حاضرة بقدر تنظيمها، وهو ما لا يتمتع به مجتمعنا المصري الذي حرم على مدار تاريخه الحديث من بناء تنظيماته الشعبية والسياسية على مدار 200 سنة، حاول فيها انجاز ثورته الديموقراطية فاصطدم بتراث الاستبداد الشرقي العتيق أولا ثم بالقوى الاستعمارية ثانية، ثم بتآمر الأولى مع الثانية لنرزح 70 عاما تحت قيد الاحتلال البغيض الذي عمل بكل قوة على الاجهاز على أي تقدم سبق انجازه بل وعمل على تدمير والحيلولة دون وجود عوامل لإنجاز هذا التقدم مستقبلاً، حتى جاءت ثورة يوليو 1952 وتجددت معها الأمال في بناء مجتمع العدل والكفاية الذي حلمت به الحركة الوطنية طويلاً، لتنطلق معه مسيرة طموحة لقيادة ثورية تجسدت في شخص عبد الناصر بوصفه الزعيم الملهم، فغابت الجماهير عن المشهد السياسي، وبالأحرى قد غيبت عمداً عن ذلك المشهد، فبالرغم من اخلاص القيادة الناصرية في إنجاز مشروع حقيقي للاستقلال عن الاستعمار القديم والجديد “خارجيا”، وبناء مجتمع العدل والكفاية “داخليا” إلا أن خطيئة تغييب الجماهير وحرمانها من حقها في تكوين تنظيماتها السياسية والنقابية والمجتمعية قد مهدت الطريق للإنقلاب الساداتي على خط الثورة وإعادة الدولة الوليدة والمجتمع المغيب إلى حظيرة التبعية الغربية الاستعمارية مرة آخرى والتي استمرت واستفحلت حتى وقتنا هذا.
ما هي أزمة النظام الحالي؟
قبل الإجابة عن السؤال السابق، وجب علينا أولاً تعريف ماذا نقصد بالنظام السياسي؟ ينطوي مفهوم النظام السياسي بوجهة نظرنا على ثلاثة محاور أساسية:
الأول: المؤسسات السياسية الرسمية (السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية) وغير الرسمية (منظمات وجمعيات ونقابات واتحادات مهنية وعمالية وفكرية … ) والتي تتشكل من أبنية وأدوار سياسية.
الثاني : نسق القيم والأفكار والمعايير والتي تشكل ما يعرف بالثقافة السياسية.
الثالث: تفاعل وعلاقات وسلوكيات للأفراد والجماعات والمؤسسات.
يمكن توصيف أزمة النظام السياسي المصري في افتقاره المتزايد إلى الشرعية والتأييد الشعبي وهشاشة التحالف الاجتماعي الذي يمثل مصالحه وهو ما يدفعه دوما ناحية الاستبداد والقمع لتثبيت سلطته واركان حكمه، فنحن لا نحتاج الى جهد كبير لاكتشاف أن النظام المصري نظام استبدادي تسلطي يفتقد للديموقراطية ، فللديموقراطية ثلاثة أضلاع لا تستوي بدونهم:
الأول: انتخاب الشعب لممثليه بشكل دوري وعادل.
الثاني: خضوع جهاز الدولة لرقابة النواب المنتخبين.
الثالث: تمتع الناس بحرية التنظيم والتعبير.
وبتطبيق المثلث السابق على الواقع المصري نخرج باستنتاج واضح وصريح وهو أننا آزاء نظام استبدادي، فصحيح أنه شكليا تجرى انتخابات دورية الا انها تتميز بقدر عال من التزوير وبانحياز أجهزة الدولة لنصرة مرشحين محسوبين عليها بشكل أو بآخر، وبالنسبة لحرية التعبير فهي محدودة ومقيدة فدائما ما نرى سجن كتاب ومفكرين لمجرد الجهر بوجهات نظرهم والتي تصل إلى اقامة محاكم تفتيش على غرار ما حدث مع المفكر نصر حامد اوزيد وغيره، وبالنسبة لحرية التنظيم فتكاد تكون معدومة يكفينا النظر إلى حجم المعتقلين السياسيين في مصر والحملات الأمنية الممنهجة على الأحزاب والحركات المصرية والتي وصلت إلى اعتقال معظم اعضاء المكتب السياسي لحزب التحالف الشعبي الاشتراكي في حادثة اغتيال الشهيدة شيماء الصباغ في عام 2015، واعتقال نائب رئيس الحزب وعدد من اعضاءه في سنوات لاحقه بتهم واهية كالانضمام إلى جماعات محظورة! وبالطبع لسنا بحاجة إلى التنويه بأن جهاز الدولة المصرية لا يخضع لسلطة النواب المفترض انتخابهم بل يخضع لسلطة رئيس جمهورية نصف آله!
المآزق الذي يمثله طنطاوي
بالعودة إلى أزمة النظام السياسي المصري التي تكمن في تآكل شرعيته كنتيجة لفشله الزريع في إدارة الملف الاقتصادي وتدهور موارده الاقتصادية الأمر الذي يستتبعه تناقص أعداد المستفيدين منه وبالتالي زياده أعداد ونفوذ معارضيه، وهو ما يفتح الباب واسعا أمام حتمية تغييره، وأقصد بالتغيير هنا طبيعة ممارسة النظام للسلطة وهو ما لا يعني بالضرورة تغيير جوهر انحيازاته، ففي وجهة نظرنا أن النظام السياسي الحالي سيواجه واحد من السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: ديكتاتورية شديدة القمع تتأسس على تحالف بين الجيش وأقسام من الرأسمالية المصرية ، تحكم بقبضة من الحديد في المجال السياسي وتطبق سياسات شديدة الليبرالية في الاقتصاد كتخفيض العملة وتطبيق سياسات تقشفية وتقديم المزيد من التنازلات السياسية والسيادية للغرب الاستعماري.
السيناريو الثاني: تغيير شكلي للسلطة الحالية عبر تغيير ممثليها مع بقاء جوهرها الاستبدادي، مع اجراء بعض التعديلات والسماح بوجود بعض الفتات الاقتصادي لتهدئة الشارع الغاضب، والسماح بوجود بعض التنفيس السياسي للقوى السياسية المعارضة، خاصة تلك التي تبدي استعداد دائم للقبول بأي تسوية من السلطة تسمح لها ببعض المكتسبات السياسية المحدودة.
السيناريو الثالث: وهو سيناريو الفوضى الذي ستفرضه محاولات السلطة في الاستمرار في الحكم بنفس الانحيازات الاجتماعية المنحازة ضد الطبقات الوسطى والشعبية وسياسات الافقار النيوليبرالية التي تفرضها المؤسسات الغربية “صندوق النقد ومجموعة الدائنين” مع اندلاع موجات غضب بالشارع المصري لا تحمل أفق للتغيير السياسي، والتي غالباً ما ستؤدي إلى تعقد الواقع المصري المشتعل.
وسط تلك السيناريوهات السابقة يظهر سيناريو آخر شديد التفاؤل والأمل وهو السيناريو الرابع –الأبعد- الذي يمثله طنطاوي والتيار السياسي والشعبي الداعم له والطامح في إجراء تغيير سلمي للسلطة، وتبنيه لنموذج دولة القانون والحريات التي نادت بها ثورة 25 يناير وثورة 30 يونيه التي عصفت بسيناريو تدشين حكم ديني قائم على شرعية دينية تتبنى نفس التوجهات الاقتصادية والسياسية التي ثار عليها الشعب المصري في 2011 بشكل اجتماعي اكثر تخلفاً ورجعية عن السلطة الحالية، وهنا يكمن مصدر القلق الذي يمثله طنطاوي للسلطة الحالية، التي تلعب باستمرار على التلويح بسيناريو الفوضى المحتمل أو رجوع التيارات الظلامية إلى صدارة المشهد السياسي مرة آخرى بما تحمله تلك السيناريوهات من قتامة ودموية، لأنه في لحظة ما بظهور طنطاوي والتيار السياسي والشعبي الداعم له عادت من جديد لحظة الأمل في انتصار مباديء يناير مرة آخرى وعادت معها امكانيات الشعب المصري في عبور النفق المظلم واستعادة طريقه الضائع مجددا نحو انجاز ثورته الديموقراطية المتعثرة منذ 200 عام، ويبقى الأمل.