محمد عيسى يكتب: «وصوليون» آخر زمن!
لا تفكر كثيرًا فهؤلاء معرفون للقاصي والداني، يتحينون كل مناسبة يتواجد فيها أي فرد من ذوي النفوذ، أو مجموعة من الأكابر، لتصدر واجهتها وتقديم الطقوس التعريضية لهم، فمن السهل التعرف عليهم؛ فهم لايتحدثون معهم إلا بصيغة «حضراتكم، ومعالي، وبك، وباشا، وما هو الجمال، إلاوجودكم في هذه الدنيا، ووجودكم هو الإشراق، وأدام الله وجودكم، وأخذ أعداءكم أخذ عزيز مقتدر وما إلى ذلك». فأنا أعلم جيدًا أنك وأنت تقرأ هذه السطور قد تصيبك هذه الصيغة بالدوار والغثيان إذا كنت من المناوئين لمستخدمي هذه الصيغة في الحديث مع كل ذي سلطان، أما إذا كنت من المتحدثين بهذه الصيغة فسامحك الله على الشتائم التي ستوجهها ليّ وأنت تقرأ هذه السطور، ولا تنسى أن الأب والأم ليس لهما شأن في حديثنا هذا.
على أية حال فإزاء هؤلاء، فإن الحديث عن المبادئ هو ضرب من ضروب الجنون فالدنيا على رأي المثل الشعبي: «خد وهات وعم عشم – الله يرحمه ويحسن إليه – مات». فلا سبيل للعيش في هذه الحياة إلا من خلال التملق والتزلف لأي شخص من الممكن أن تظفر منه بمصلحة، أو لأي شخص آخر تعمل تحت إمرته، حتى ولو كان هذا سيترتب عليه الإضرار بالآخرين، أو تحويل كرامتك لخرقة تستخدم في مسح أحذيتهم، فمن كنف هذا المنطق تتنبثق دائمًا المبادئ «المعفرتة» التي تظهر في وقت يتسق الدفاع عنها مع المصالح وتتلاشي في وقت آخر يتجافى الدفاع عنها مع ذات المصالح، ويتجلى علينا أيضًا من كنف هذا المنطق الأشخاص الذين يوشون بزملائهم، ويكتبون التقارير فيهم، ويرفعونها إلى أسيادهم، وهذا بالطبع ناهيك عن الأشخاص المرضى بالدجل، فـ«يرسمون» أنفسهم بكلمتين باللغة الإنجليزية، أو باللغة العربية الفصحى، أو بصوره لهم بجوار كتابين لكي يتم اعتبارهم من المثقفين أصحاب المعرفة اللامحدودة من قبل مجتمع ينظر في الظاهر أكثر ما ينظر في الجوهر.
فالشخص الوصولي هو في الغالب يكون ذا قدرات ومهارات وثقافة محدودة فيعوض هذا الفقر بالتودد إلى أصحاب النفوذ والمحاطين بهالة من الأحترام من المجتمع حتى يخيل لدى الآخرين أنه بات من الأشخاص «الواصلة»، كما أنه يستعيض هذا الفقر بـ«رسم نفسه» على خلق الله، سواء أكانوا زملاءه الذين «يفشر» عليهم آناء الليل وأطراف النهار، أو الأقل منه مكانة اجتماعية، مع الأخذ في الاعتبار أني غير معترف بالأساس بفكرة المكانة الاجتماعية، وفي رقته «الأوفر» التي لا تظهر إلا في الحديث مع كل ذي سلطان، ويا حبذا لو كان كل ذي سلطان من محبي ومشجعي هذه الممارسات، ويا ليت «رسم نفسه» يقف فقط على حد فشره، بل في كثير من الأحيان يقدم خدمات – في حالة وصوله إلى مرتبة وظيفية أو درجة علمية لا بأس بها – للمحاسيب، في حالة عمله أو انتدابه للعمل لدى مرفق عام، فللأسف يستبد به الإحساس بالسيطرة ويخيل إليه أنه أضحى صاحب المرفق العام فيزكي ويؤثر من يحدس بأن هناك مصلحة سيحصل عليها من وراء تزكيتهم، أو من يحدس أنه من خلال تزكيتهم هذه سيتمكن من تدجينهم وكسر عيونهم من خلال إعمال المثل الشعبي «أطعم الفم تستحي العين»؛ مما يؤدي بكل تأكيد إلى الإجحاف بآخرين عاجلًا أم آجلًا.
تختلف أو تتفق مع هذا التقسيم؛ فالأشخاص الوصوليون بالنسبة ليّ ينقسمون إلى فئتين؛ الفئة الأولى ينضوي تحت مظلتها أشخاص يعرفون جيدًا أنهم وصوليون ويبيحون بذلك كلما تتأتى لهم الفرصة ويستسيغون تطبعهم بهذه الطباع بأن الحياة تقتضي ذلك، وأنهم غير قادرين على إصلاح الكون، وطالما أن هذه الممارسات ستؤتي بثمارها، وتذلل لهم صعوبات الحياة فلا توجد أهمية لأي شيء آخر، ومرجع ذلك إلى أن الدنيا كلها تسير على هذا النهج؛ فبالرغم من اختلافي مع هذه الفئة وعدم تقبلي لمبرراتهم، إلا أنها الأقرب إلى نفسي لصراحتهم التي تصورهم ليّ في صورة من صور الاتساق مع النفس.
أما بالنسبة للفئة الثانية؛ فتضم أشخاص معاذ الله منهم ومن دجلهم وتحذلقهم، فيدعون في كل وقت وحين أن ما يفعلونه هو الأصول وهو الذي يتسق مع ضمائرهم، بل الأكثر من ذلك هو الذي من المفترض أن يفعل من قبل الجميع، فلا يهم أن نتحدث بصيغة ثم نتحدث بصيغة أخرى تناقضها إذا اقتضت المصلحة ذلك، وليس إذا أقتضت مراجعة النفس ذلك، فهولاء لا يجدون غضاضة في تغير مواقفهم في منتهى الثبات والثقة، وكأن شيئًا لم يحدث قبل ذلك، ولا يلتمسون حتى الأعذار لأنفسهم حتى يستسيغوا أفعالهم، فالبجاحة هي الأساس الذي يبنى عليه ممارستهم هذه، ولا يعترفون أيضًا بوصوليتهم، فهم دائمًا يعتقدون أن ممارساتهم المنحطة هذه تنطلي على من حولهم، ولا يقرون بأنهم منافقون، بل يزعمون بأنهم ماهرون في التكيف مع الواقع المتغير، فهذه الفئة هي التي تضم الوصوليين الذين لا يوجد عندهم نقطة من الأحمر، فلا يجيدون شيئًا سوى التصفيق والنفاق، فهم يحاكون أحمد رنانة المنوفي القراري – أحد شخصيات رواية شيكاغو للأديب علاء الأسواني– في أخلاقياته الوصولية القذرة ، وتكاد شخصياتهم تتطابق مع شخصية المذيعة الدجالة نورهان – أحد شخصيات رواية جمهورية كأن للأسواني أيضًا– التي كانت تسيطر جنسيًا على أزواجها الثلاثة.
نعم ظنك في محله؛ فهؤلاء هم الذين يرتدون بذلات أنيقة، ويطيبون أيديهم بالطيب النفاذ عند السلام على أسيادهم، ويصفقون في المؤتمرات الشبابية بمناسبة وبدون مناسبة، ويشيحون بوجوههم عن الأنتهاكات التي يتعرض إليها أقرانهم الذين قد يكونون أكثر كفاءة منهم، ولكن تم التنكيل بهم لأنهم ليسوا من ماسحي الجوخ، ولدفاعهم عن الحق والعدل والحقيقة، فاستخفاف هؤلاء بآلام الآخرين، لا سيما آلام زملائهم المناضلين، يأتي بالتزامن مع التمجيد فيهم من السلطة والأبواق الإعلامية الموالية للسلطة باعتبارهم مستقبل مصر المشرق من جهة، وادعاؤهم أنهم قادة المستقبل من جهة أخرى، فهؤلاء هم الذين يكتبون التقارير في زملائهم إذا اقتضت المصلحة ذلك، ويتملقون لكل ذي سلطان، وهم على قناعة ظاهرة بأن هذا هو الصواب بعينه، ولكنهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم وصوليون آخر زمن.