محمد عيسى يكتب: كيف أنصف مكسيم جوركي بائعات الهوى؟
“وما هي الخطيئة التي اقترفتها نحو الله حتى يغفرها لي؟ بما أذنبت نحوه حتى يصفح عني؟”. هكذا ردت إحدى بائعات الهوى على ماتفي بطل رواية (اعتراف أين الله؟) لمكسيم جوركي بعدما قام بمواساتها بكلمات لا تخلو من تأنيبها لاقترافها مثل هذه الممارسات متوقعًا أن الله سيغفر لها خطيئتها لأنها ارتكبتها مدفوعة بعامل حبها لولديها، وذلك بعدما قصت عليه الظروف التي تحت وطأتها أفضت بها إلى بائعة هوى.
فاختفاء زوجها – على غير عادته – بعد سفره إلى نهر دنيبر ليسير رمثاً فتح صفحة جديدة من صفحات الشقاء لربة هذه الأسرة، فبالرغم من ديمومة بحثها عن عمل يدر عليها مقدار ما يطعم ولديها، إلا أنها كانت تعمل يومًا وتقضي بالبطالة أربعة نظرًا إلى قلة العمل، ناهيك عن أن الجعالة كانت زهيدة جدًا، لاسيما بالنسبة للنساء.
لذا فإنها أرتأت في نصيحة حماتها التي أسرت إليها بها طوق النجاة، وكانت نتيجة استجابتها لتلك النصيحة أنها أضحت عاهرة من وجهة نظرالمجتمع، ولكنها ماذا تفعل بعد أن أغلقت جميع الأبواب في وجهها وبات هذا الفعل هو السبيل الوحيد لإطعام ولديها اللذين يدميان قلبها عندما تراهما وهما يتضوران جوعًا؟
فتحت نير الفاقة لم تجد هذه السيدة بُدّ من القسوة على ولديها، أوسيب صاحب الأربع سنوات، وكانغا الأصغر منه في السن، فكانت عندما يأخذ الجوع منهما مأخذه ويبكيان ويسألانها عن الخبز ليسدا رمقهما تقوم بضربهما، فيبيتا على الطوية.
فعلام تأنيبها؟ حيث إنها لن تستطيع إطعام ولديها إذا أربأت بنفسها عن القيام بمثل هذه الممارسات التي تشمئز منها الفطرة السليمة، فهي أمام نارين: إما أن تئد ولديها، أو تمرغ نفسها في حمأة الخطيئة.
لذلك فإن عبء إطعام ولديها جرد منها الإحساس بالذنب، فهي ترى أن الظروف القهرية التي زجت بها الأقدار في حومتها كفيلة بأن تجعلها تستسيغ ابتذال جسدها كبائعة هوى، وتعتقد أن ممارستها للممارسات التي تأنف منها النفس البشرية وتنتهك كرامتها كإنسانة لا تستحق الاعتذار، وهذا ما سيتضح بعدما أردفت حديثها قائلة: ” الله يصفح عن خطيئتي! ما أجمل هذا الغفران؟ ولكن بماذا أسأت إلى الله حتى أسأله أن يشملني بصفحه، ماذا صنعت؟ أيطرحني في أتون الشقاء، ثم يمنُّ علي بالغفران، أهذا هو العدل السماوي؟”
أماطت حكاية هذه السيدة اللثام عن حقيقتين على الترتيب: لا يوجد مجرم بالفطرة، وأن الفقر المدقع هو الذي يدفع بعض السيدات إلى ارتكاب مثل هذه الممارسات. حيث إن مكسيم جوركي في هذه السطورأجلى هاتين الحقيقتين، ففي الغالب الظروف الاقتصادية المضنية تلعب دورًا محوريًا في تحويل الشخص إلى مجرم أو تحويل السيدة الفاضلة إلى عاهرة من وجهة نظر المجتمع، وهنا تطرح هذه الأسئلة نفسها: هل من يتعرض لمثل هذه الظروف المفجعة يعتبر مجرمًا من الأساس؟ أشك. هل السيدة التي تتعرض لظروف لا يعلمها إلى الله باءت بها إلى التجارة بجسدها تعتبرعاهرة؟ أشك. هل لو كانت السيدة التي في حكاية مكسيم جوركي تعيش حياة آدمية وتستطيع أن تطعم أبناءها هل كانت ستتحول إلى عاهرة؟ أشك. على غرار هذه السيدة في وقتنا الراهن هل السواد الأعظم من الفتيات اللاتي يسرن في طريق هذه السيدة، هل من الممكن أن يسرن في نفس الطريق لو لم تكن هناك عوامل ينوء بها كاهل أي أحد هي التي تدفعهن إلى هذا الطريق؟ أشك. هل هن يسرن في مثل هذا الطريق حبًا في التمرغ في بؤر الخطيئة؟ أشك. لماذا – إذًا – في مجتمعنا بدلًا من أن نبحث في الظروف التي آلت بالسيدات الفضليات إلى هذا الحال باعتبارهن ضحايا ننظرإليهن نظرة استعلائية، ويتم تأليب الرأي العام عليهن ويتأهب الجلادين بسياطهم للنزول على ظهورهن؟
كما نبشت هذه الحكاية أيضاً في صندوق ذكرياتي مع صديقي – أثناء ما كنا نسير معًا في أحد شوارع الاسكندرية – الذي أومأ إلى فتاة راكبة في إحدى السيارات الخاصة مع شاب قائلًا لي: (البت ديه شمال)، وعندما ظهرت علامات الأستفهام على وجهي فسر كلامه بأن الشاب الجالس بجوارها أشار بيده بعلامة تفيد بأنه سيعطيها نقود، فهرولت إليه على أثر هذه الإشارة.
لو أفترضت صدق مزاعم صديقي، فهذه الواقعة تشترك في الخطوط العريضة مع حكاية السيدة المُشار إليها في رواية مكسيم جوركي، وتثير نفس التساؤلات ما هي العوامل التي دفعت هذه الفتاة إلى ابتذال جسدها؟ أو بعبارة أخرى ما حكاية هذه الفتاة؟
أخيراً؛ إن كل سيدة مرقت بسلوكياتها عن الفطرة السليمة وراءها حكاية ينبغي تقصيها قبل الحكم عليها، فإن كانت حكاية السيدة التي جاءت في رواية مكيسم جوركي هي من نتاج قريحته، إلا أنها مستقاه من الواقع المريرالمتجدد المعتاش على الفقر، والذي لم تذهب مرارته في ثنايا السنين. ففي وقتنا الراهن يشيح مجتمع المدعين بوجهه عن دراسة هذه الظروف التي تدفع بعض الفتيات إلى التورط في ممارسة هذه الممارسات، بدلًا من أن يأخذ بأيديهن، ويضعهن على مستهل الطريق السديد، فتعيش الفتاة التي تزج الأقدار بها في هذا الطريق كنكرة في وسط مجتمعها الذي يوصمها بالعاهرة أو باللفظ الدارج شعبيًا (البنت الشمال)، برغم من أن أفراده لو وضعوا الأمور في النصاب الصحيح لعرفوا حق المعرفة أنهم هم الشمال…آه والله.