محمد حليم يكتب: عن لوسي و ابن الجنايني وجوانتي الباشا
تربيت على احترام حسين “عمر الشريف” في فيلم إشاعة حب، بوصفه الرجل الجاد المكافح، الذي وقع فريسة لطوح ابنة عمه التي يعشقها، فقرر بيع روحه للشيطان، أو بمعنى أدق “ادعاء” بيع روحه للشيطان، كذبة ظن أنها بيضاء، فإذا بها تتحول إلى أخطبوط تمكن منه وكاد أن يقضي على أمله الوحيد بالحياة لولا منطق النهايات السعيد بأفلامنا القديمة الذي يحتم انتصار البطل رمز الخير وحصوله على الخلاص “قبلة البطلة” بنهاية الفيلم.على الجانب الآخر ظل “لوسي ابن طنط فكيهة” مثار احتقارنا وحقدنا على “الخنفس” ابن الذوات، الغارق في الملذات دون عمل أو قيمة حقيقية في الحياة، ففلوس أبوه تتكفل بسداد فاتورة “تنطعه”. كان شعورنا تجاه النموذجين “حسين/ لوسي” شعور طبيعي يتضامن مع الأول بوصفه يشبهنا كثيراً، بأمراضنا الاجتماعية وأحلامنا “العبيطة” بالنساء والحب، التي حرمتنا منها ظروفنا الاجتماعية وطريقة تربيتنا التي مجدت قيم العلم والعمل، لنكتشف حين نكبر أن واقعنا لا يحفل بتلك القيم ولا بنا، إنما يحتفي بأمثال “لوسي” ويقدم لهم كل شيء، وأصبحت القيم “اللوسية” هي روح العصر وما عادها مجرد حكم بالية مكانها الطبيعي والوحيد الوصايا العشر على”ظهر غلاف” كراس الابتدائية.
كذلك علقت بمعاناة علي “ابن الجنايني” الذي يقف واقعه الاجتماعي حائلا دون حب عمره، الأميرة إنجي، ابن الجنايني، رمز الطبقة الوسطى التي شقت طريقها بالعهد الناصري، تلك الطبقة المترددة بين أصولها الاجتماعية البسيطة ومركزها الاجتماعي الجديد الذي حازته بالعلم والعمل، ولكنه لم يكن كافياً لنقل دفة القيادة إليها، فكان لابد من إزاحة طبقة البشوات ووضع حد لجبروتها وطغيانها. تعلقت افئدتنا ب “علي” الحالم والمتخبط، ووصلنا به السماء حين انتصرت ثورته، ونطق الريس عبد الواحد ب “تحيا الثورة وتحيا مصر”، وخلصنا أخيراً من البرنس علاء، وانتزع “إنجي” من حقل الكراهية لتعيش معه ببستان الحب، ويسدل الستار بمشهد قتل البرنس علاء الذي كان يفضل تسميم اخته الوحيدة مع البهائم، على أن تذهب لابن الجنايني !
وحلقت بنا موسيقى علي اسماعيل إلى السماء، بفيلم “الأيدي الناعمة” ونحن نشاهد رحلة تحول “شوكت حلمي” صاحب الأيدي الناعمة وهو يخلع قفازه، ويتخلى عن أوهام العهد البائد، ويلتحم بأسرته الجديدة، “الشعب” الذي طالما ازدراه واحتقر دوره، وينتهي الفيلم بتمجيد قيمة العمل والعرق، والإعلان عن طبيعة المجتمع العامل حيث لا وجود للأصنام والعاطلين بالوراثة.
عشت طفولتي مؤمناً بتلك القيم، وأصبحت جزءاً من وجداني، بل وأضحت من المسلمات، التي لا تقبل النقد والتفكير، ثم جاءت ال ” Social Media” لتفكك تلك السرديات، وتقلب المفاهيم، فأصبح حسين وعلي وأسرة البرنس شوكت الجناه، وأصبح لوسي والبرنسان علاء وشوكت ضحايا الهمج والأوباش !!
ف “لوسي” المخنس أصبح الشاب المتعلم، الفنان، أو بالتعبير البرجوازي المبتذل “High Class”، وأضحى البرنس علاء، الشاب المغدور، الذي سرقت أملاك عائلته، وقتل وهو يدافع عن شرفه، وبالطبع فإن البرنس شوكت لم يجب عليه أن يقلع قفازاته، فالمجتمع هو المدان لأنه لم يفهم موسيقاه، وسلبه أملاكه، وأجبره الزمن على مصاهرة “الميكانيكي” ومصاحبة “الصيع” أصحاب الدكتوراة في “حتى”.
بماذا تخبرنا حقائق التاريخ؟
لم تنشأ طبقة الإقطاع تاريخيا في مصر عن طريق رأس المال، أي أن ملكية الأرض لم تؤول إليهم عن طريق الشراء، إنما إنتقلت إليهم عن طريق الهبات والإحسانات، حيث وزعت الأرض الزراعية في مصر كالآتي:
أولاً: الاقطاعيات الكبيرة وتكونت من:
1. الجفالك: وهي الأرض التي اقتطعها محمد علي لأفراد أسرته، ثم وزعها الخديوي عباس بعد ذلك على بعض كبار الذوات، وبلغت مساحتها 371 ألف فدان في عام 1842م وكانت معفاه من الضرائب.
2. الأبعديات: الأراضي التي أنعم بها محمد علي على بعض كبار رجال الإدارة والجيش والأعيان والأعراب وبعض الأجانب، وكانت أيضا معفاه من الضرائب، وبلغت مساحتها 724 ألف فدان في عام 1844م.
3. الأواسي: الأراضي التي كانت في يد “الملتزمين” السابقين على عهد محمد علي، وقد تركت لهم تلك الأرض طيلة حياتهم في باديء الأمر، ثم تم تمليكها لهم فيما بعد.
4. أراضي العهد: المقصود بها تلك الأراضي التي عجز القرويون عن دفع ضرائبها ورحلوا عنها، فتركت بلا زراعة، فذهبت ملكيتها إلى المتعهدين لزراعتها ودفع الضرائب عنها، وبالتالي انتقلت ملكية تلك الأراضي من صغار الفلاحين إلى المقتدرين وأبناء أسرة محمد علي، وبلغت مساحة تلك الأرض نحو 293 ألف فدان في عام 1844م، حاز محمد علي بمفرده منها 120 ألف فدان! وحاز ابنه إبراهيم 98 الف فدان ! والباقي 75 ألف فدان وزعوا على أسرته، في عملية نهب ضخمة لم تشهدها مصر من قبل طوال تاريخها.
ثانيا: الإقطاعيات المتوسطة:
تتكون مما يسمى بمسمح المصطبة أو مسموح المشايخ، وهي الأرض التي وزعت على مشايخ البلاد نظير خدماتهم للحكومة، وكانت بالمتوسط 30 فدان لكل شيخ قرية، معفاة من الضرائب.
ثالثا: الأراضي الخراجية:
التي يدفع عنها ضرائب، وكانت موزعة على الفلاحين حسب زمام كل قرية، بلغ متوسط إشراف الفرد عليها من 3-5 فدان، وأقول إشراف وليس ملكية، لأنها لم تكن تملك للفلاحين، فكانوا فقط يزرعونها ويدفعون عنها ضرائب، وبمجرد موتهم تنتقل إلى الحكومة، وبلغت مساحتها الإجمالية عام 1844م نحو 2 مليون فدان.
وخلال النصف الثاني من القرن 19م، أخذت تزداد الملكيات الكبيرة على حساب الملكيات الصغيرة بسبب عجز الفلاحين عن دفع الضرائب المستحقة عليها، مع ملاحظة أن تلك الضرائب لم يكن لها موعد محدد بل كانت تصدر حسب حاجة نظارة المالية، فيصدر الأمر من ناظر المالية إلى مدير المدرية بجمع مبلغ ما، فيقسم المدير المبلغ على القرى، ويناط بشيخ القرية أن يحصل القدر المفروض على قريته من الضرائب بأي وسيلة كانت، فكانت الفلكة والجلد مصير من يتخلف عن السداد، وفي عام 1855 حين سمح الخديوي سعيد لمن شاء من الفلاحين أن يترك أرضه لعجزه عن دفع ضرائبها، ترك الكثير من الفلاحين أراضيهم، وبلغت مساحة الأرض المتروكة في الشرقية والدقهلية فقط نحو 47 الف فدان، بينما وصل إجمالي الأرض المتروكة في عهد إسماعيل منفردا نحو 250 ألف فدان، وقد بيعت تلك الأرض إلى كبار الموظفين والأجانب بالتقسيط! فمثلا حاز خورشيد باشا مدير الدقهلية -وهو أجنبي الأصل من جورجينا- أكثر من خمس قرى في الدقهلية!
هل كان أبناء يوليو جناه؟
كثيرا ما يتهم أبناء يوليو بالقسوة، والانتقام الأعمى وغيرها من الصفات التي تستخدم من قبل البعض لكسب التعاطف مع الأسرة العلوية وطبقة الارستقراط المغدورة! ولكن هؤلاء تناسوا أن طبقة الارستقراط التي شكلها محمد علي باشا ثبتها على قمة المجتمع المصري على أشلاء طبقة البكوات المماليك، بعد مذبحة القلعة الشهيرة. كذلك يتناسى هؤلاء كيف قمعت الأسرة العلوية الانتفاضات الشعبية بمنتهى الدموية، قبل الاحتلال البريطاني وبعده، بل يتناسى هؤلاء أن أسطول الاحتلال دخل عاصمة البلاد بمعية ومباركة الخديوي توفيق وطبقة الأعيان الخائنة.
في عام 1865 م قطعت أعناق 1400 فلاح منتفض في قرية قاو بالصعيد، دفعهم الجوع والارتفاع الحاد في أسعار الطعام إلى الالتفاف حول الشيخ أحمد الطيب الذي أعلن الثورة على السلطات الحكومية، فانضمت إليه جموع الفلاحين الذين أرهقتهم الضرائب والظلم والاضطهاد، كذلك دكت قرية النظرة أو الشيخ جابر دكاً بالمدافع، وأبيد كل سكانها فرياً على الخوازيق، وشاركها المصير كل القرى التي شاركت في الثورة.
أما عن أحوال السواد الأعظم من الشعب المصري يكفيك عزيزي القاريء أن تعلم أن 85% من الشعب المصري في مطلع القرن العشرين كان مصدر حصولهم على مياه الشرب من جوانب الترع والمساقي، ناهيك عن الانتشار الواسع للبرك والمستنقعات والتي كانت سبباً كبيراً في انتشار عدد كبير من الأمراض والأوبئة، حيث كانت مصدر ماء الشرب الأساسي لكثير من القرى المصرية في وقت الشتاء.
أحوال الفلاحين
يقول الدكتور سيسل البورت في كتابه القيم ساعة عدل واحدة: “كانت حياة العمال الريفيين الذين لا يمتلكون أرضا فيعملون لحساب الحكومة أو لحساب كبار ملاك الأرض، أشبه بحياة العبيد، فهم يعملون 12 ساعة يوميا، ويتقاضى الرجل منهم 3.5 قرش، والمرأة 2.5 قرش والطفل1.5 قرش. كان الفلاح المصري لا يستطيع أن يهتم بغذائه ويصاب بأمراض سوء التغذية والأمراض المعوية، فطعامه تكون في غالب الأحيان من الخبز والمش، ولا تدخل اللحوم إلى بيته إلا في المناسبات إن توافر لديه المال أو بتبرعات القادرين، وإن توافر لديه المال فلا يكون بمقدوره إلا شراء لحوم المواشي المسممة والمحتضرة.
أحوال العمال
لم يختلف حال العمال عن الفلاحين، فوفقاً لنتائج البعثة التي أرسلها مكتب العمل الدولي في عام 1930م لدراسة حال الطبقة العاملة المصرية، نجد متوسط أجر العامل الفني لا يزيد عن 10 قروش، والعامل غير الفني بين 4 الى 6 قروش يومياً، ومتوسط ساعات العمل 13 ساعة، في الوقت الذي ارتفعت فيه تكاليف المعيشة ارتفاعاً كبيراً بسبب الأزمة العالمية.
لماذ الهجوم على يوليو ؟
تكمن الإجابة على هذا السؤال في وجهة نظري في عدة عوامل:
العامل الأول: ربط الأوضاع المعيشية المتردية الحالية وانتشار الفساد والتفاوت الطبقي الحاد بدولة يوليو، وهو ربط خاطيء بالكلية، فالمتتبع للتطور السياسي والاقتصادي في مصر يعلم أن ثورة يوليو قد أجهزعليها في عام 1974، بعد انفراد الجناح الموالي للغرب بمقاليد السلطة في مصر، فتم التخلي عن الانحياز الاجتماعي للطبقات الشعبية لصالح طبقة رأس المال الصاعد ونخبة الانفتاح الاقتصادي، كما وئد مشروع التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار وعدنا مرة أخرى إلى حظيرة التبعية الغربية.
العامل الثاني: الهيمنة الثقافية للطبقات الرأسمالية وقدرتها على الترويج لأفكارها، فالتاريخ يخبرنا أن الهيمنة المادية على وسائل الإنتاج ومصادر الثروة بالمجتمع لا تكفي لضمان استمرار هيمنة الطبقات المالكة، بل لابد أن تسعى تلك الطبقات إلى إحكام هيمنتها الثقافية والفكرية على المجتمع، فتشيطن تلك الاتجاهات والأفكار التي تهدد مصالحها، وتزعزع سيطرتها، ومن هنا كانت ضرورة تشوية التجربة الناصرية في أعين الجماهير، حتى لا يختمر في ذهنها حلول مواجهة تلك الطبقات بالتأميم والمصادرة وغيرها من الوسائل الثورية.
وأخيراً يتغذي نجاح تلك الحملة المستعرة على يوليو ورموزها على حالة العداء للقراءة والبحث، وشيوع ثقافة الاستسهال والقابلية للانقياد التي تعانيها الأجيال الحالية، التي خرجت في مناخ معادي للعلم وللثقافة وإعمال العقل بشكل عام، فبدلاُ من إخضاع “يوليو” للنقد بوصفها تجربة سياسية كانت لها سياق تاريخي محدد، أنجزت ما أنجزت، وأخطأت وفشلت في بعض أهدافها، نتعامل معها بعقلية الأهلي والزمالك، والأبيض والأسود للأسف، تلك الثنائية المقيتة التي تشل العقل السياسي العربي منذ قرون.