محمد حليم يكتب: عن سؤال الانتخابات ومستقبل الديموقراطية وجيل اليسار التائه

كان لي صديق يُدعى مصطفى حبيشة، وقد لُقِّب بهذا الاسم لا لشيء سوى ولعه الشديد بمسلسل حبيشة، إذ كان يردّد مقاطعه ويحفظ حواراته حتى يكاد لا يفوته منها شاردة ولا واردة، يقتبسها في أحاديثه معنا بحماسة زائدة، وكأنها جزء من يومياته.

لكن لصديقي القديم “حبيشة” حكاية طريفة مع الانتخابات البرلمانية لعام 2010، تلك الانتخابات التي عُدّت آخر فصول عهد مبارك البائد، وربما كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير.

وقبل أن أروي القصة، أود أن أوضح لك، عزيزي القارئ، أن حبيشة لم يكن من المهتمين بالسياسة قط، ولم يخض فيها يومًا قولًا أو فعلًا. ومع ذلك، وفي لحظة نحس لا أدري ما الذي أوقعه فيها، قرر أن يتوجّه إلى لجنته الانتخابية ويدلي بصوته. كانت تلك المرة الأولى في حياته التي يذهب فيها إلى صندوق الاقتراع، وقد اعتبرها مغامرة تستحق التجربة.

ومن عاش تلك الأيام يدرك تمامًا ما أعنيه بكلمة مغامرة، فاللجان الانتخابية آنذاك كانت محاطة بالبلطجية وأجهزة الأمن، في مشهد يجسّد تحالف قوى “الأمن” العامل! ومع ذلك، شقّ حبيشة طريقه بشجاعة نادرة، متجاوزًا الحواجز الأمنية التي طوقت الشوارع المؤدية إلى لجنته، حتى وصل أخيرًا إلى الموظف البائس الجالس داخلها.

وما إن وقعت عين الموظف عليه حتى باغته بسؤال غريب:

ــ “انت جاي تعمل إيه؟”

قد يبدو السؤال عبثيًا للوهلة الأولى، لكن العجب يزول حين تعلم، عزيزي القارئ، أن صديقي حبيشة كان الناخب الوحيد في اللجنة بأسرها!

أجاب رفيقنا حبيشة بثقة طفولية:

ــ “جاي أنتخب.”

ابتسم الموظف ابتسامة مريبة وقال:

ــ “جاي تنتخب؟ طيب، جدع، تعالى اقعد جنبي.”

ثم تحرّك قليلًا ليفسح له مكانًا على الدكّة الخشبية المتهالكة. جلس حبيشة صامتًا، لا ينطق بكلمة، بينما انشغل الموظف بترتيب أوراقه كأنما نسي وجوده. في تلك اللحظة، أيقن حبيشة بفطرته البسيطة أنّه تورّط في مأزق لا تُحمد عقباه.

مرّت دقائق ثقيلة قبل أن يهمس متسائلًا:

ــ “وبعدين؟”

عندها أخرج الموظف بطاقة التصويت وأمسك قلمه، ثم ناوله لحبيشة وهو يأمره بلا تردد:

ــ “ظلّل هنا وهنا…كانوا مرشحي الحزب الوطني.”

وبالفعل، بدأ حبيشة ينفّذ الأوامر بتردّد، يُظلّل الأسماء واحدًا تلو الآخر. لكن عند الخانة الأخيرة توقّف فجأة، وقال متحديًا:

ــ “لا، أنا عاوز أختار المرشّح ده.”

رفع الموظف رأسه، ضيّق عينيه، وقال ببرود:

ــ “ماشي… اختار إنت. بس قبل ما تعلِّم، قول لي هتختار مين.”

تلعثم حبيشة، فقد كان لا يعرف أحدًا من المرشحين أصلًا. فقرّر أن يستسلم للحظ، وأشار عشوائيًا إلى اسم ما:

ــ “هختار ده.”

عندها انفجر الموظف صائحًا:

ــ “إيّاك! كله إلا ده… اختار أي حد تاني.”

استسلم حبيشة، فغيّر اختياره وفق مشيئة الموظف، الذي أمره في النهاية أن يذهب بالورقة إلى الصندوق ويلقيها، حرصًا على نقاء العملية الديمقراطية.

وقبل أن يغادر، ربت الموظف على كتفه وقال كمن ينصحه نصيحة العمر:

ــ “إنت عيل جدع… بس أوعى تيجي هنا تاني.”

غادر حبيشة اللجنة يجرّ خلفه خيبته وضحكة مكتومة، وقد تعلّم الدرس…

رواية البصيرة لسرماجو

في رواية البصيرة لساراماجو، يبدأ كل شيء بنباح كلب في يوم ماطر. كان ذلك أول أيام الانتخابات، لكن أحدًا لم يذهب إلى صناديق الاقتراع. ارتبكت الحكومة أمام هذا المشهد غير المتوقع. في البداية عزت عزوف الناخبين إلى سوء الأحوال الجوية، ثم أخذت تُطلق النداءات المتكررة باسم “الواجب الوطني” لحث الناس على المشاركة.

وحين لبّى بعض المواطنين النداء، لم يختاروا أحدًا من المرشحين؛ فقد ملأوا الصناديق بأوراق اقتراع بيضاء، ناصعة البياض. بدا الأمر في نظر السلطة مؤامرة مكتملة الأركان: كيف اتفقت إرادة الجميع على الفعل ذاته وفي الوقت نفسه؟ لا بد إذن أن هناك “جهة ما” تقف وراء هذه الثورة البيضاء.

عندها بادرت الأجهزة الأمنية إلى إعلان الحرب على أصحاب “الأصوات البيضاء”، ووصفتهم بالمجرمين والخونة، في مقابل إغداقها بالثناء على “المواطنين الشرفاء” الذين يصوّتون كما ينبغي وفق معايير النظام.

اللافت أنّ أحداث البصيرة تجري في نفس البلدة التي شكّلت مسرحًا لرواية ساراماجو السابقة العمى، حيث أصيب سكانها جميعًا بالعمى الأبيض المفاجئ، ولم ينجُ منهم سوى امرأة وحيدة: زوجة الطبيب. في الروايتين إذن خيط واحد يجمع بين “العمى الأبيض” و”الثورة البيضاء”، ويتمثل في هذه المرأة الاستثنائية، التي أبصرت حين عمي الجميع، وقادت التمرد ضد المستفيدين من عماهم، حتى قتلت زعيمهم في حفلة استمنائه.

لكن النظام لا يرحم، تنتهي الرواية بمقتل المرأة المبصرة، ومعها المأمور الشريف الذي ساعدها. وتستعيد الدولة “ديمقراطيتها” ، بينما يخيّم الصمت على المدينة. وحده الكلب الذي بدأ الحكاية بالنباح هو من يضع نقطة النهاية بسكوته.

مستقبل الديموقراطية وحظيرة النظام ومآساة اليسار

يقول الزعيم خالد محيي الدين في كتابه مستقبل الديمقراطية الصادر عام 1984، متحدثًا عن الأزمة الاقتصادية التي كانت مصر ترزح تحت وطأتها:

“هناك إحساس عام بالأزمة… المواطن البسيط، سواء كان عاملاً أو فلاحًا، مثقفًا أو طالبًا جامعيًا، موظفًا في الحكومة أو في القطاع العام، أو حتى تاجرًا صغيرًا؛ جميعهم يلمسون مظاهر الأزمة في حياتهم اليومية، ويعيشون أعراضها الثقيلة.  كل يوم يضيف إلى حياتهم أعباء جديدة: أسعار ترتفع بسرعة جنونية بلا ضابط ولا رابط، يعجز معها المرء مهما زاد من عمله أو دخله عن اللحاق بها. وهكذا يهبط درجة بعد درجة في السلم الاجتماعي، حتى يقترب من قاع الفقر، في رحلة عذاب يومية من أجل السكن والملبس والمواصلات.”

ثم ينتقل “محي الدين” ليحذر من النظام الانتخابي الذي فُرض منذ السبعينات، وما تلاه من قوانين نظمت العملية السياسية:

“إن الحقائق حول قانون الانتخابات تُلقي بظلال قاتمة على إمكانية إجراء انتخابات نزيهة وحرة لمجلس الشعب في مايو 1984. وتجعل الرهان الديمقراطي في حكم المستحيل، بل قد تدفع البعض إلى هاوية اليأس والإحباط. وهذا، بالتحديد، ما يريده الطفيليون وسارِقو قوت الشعب، وما خطط له الحزب الوطني الديمقراطي؛ ليغتصبوا السلطة خمس سنوات أخرى رغم إرادة الشعب.”

ثم يختتم حديثه بالأمل  في وحدة القوى الوطنية والديمقراطية، قائلًا:

“إن تجمع القوى الوطنية والديمقراطية، مهما اختلفت منابعها وآراؤها، لخوض معركة انتخابية نزيهة، هو معركة نتبنى فيها جميعًا برنامجًا ديمقراطيًا؛ لنبدأ معًا خطوة في طريق طويل نحو الحرية والاشتراكية والوحدة. خطوة لوقف الردّة، هي التحدي الحقيقي لكل قوى التخلف والاستغلال والدكتاتورية.”

إن ما كتبه خالد محيي الدين منذ أكثر من أربعة عقود لا يبدو اليوم مجرد شهادة على زمن مضى، بل هو مرآة نُطل منها على حاضرنا. فالأزمة الاقتصادية التي تحدّث عنها ما زالت تنهش جسد المواطن، والقوانين التي وُضعت لتكبيل الديمقراطية لم تُمحَ آثارها، بل تغيّرت وجوه اللاعبين وبقي المسرح كما هو، وهنا علينا أن نتسائل:

هل أصابت الحركة اليسارية لعنة سيزيف؟ هل كُتب عليها أن تبقى في مكانها، تدفع صخرة التغيير إلى القمة لتسقط كل مرة من جديد؟

هل كُتب علينا أن نُعاد بالأسئلة ذاتها، فنرد عليها بالإجابات ذاتها، وكأننا لا نتعلم من أخطائنا؟

وهل وعينا، حقًا، حجم كوارثنا، أم أننا ما زلنا نعيشها في حلقة مفرغة من التكرار واليأس؟

الانتخابات ويسار يناير التائه

إن كان هناك درسٌ واحد ينبغي أن يتعلمه جيلنا من يناير حتى اليوم، فهو أن الشعوب لا تُوجد إلا بقدر تنظيمها. فالتنظيم هو الفريضة الغائبة، وهو الشرط الأول لأي تغيير. وبدونه لا مجال حتى للحلم، لأن الحلم ذاته يصبح وهمًا عابرًا لا سند له.

ادخل أي اجتماع حزبي لليسار اليوم، وسترى الكارثة: قلة قليلة من الحاضرين، أقل منهم الشباب، وأقل وأقل الشابات. هنا يطرح السؤال نفسه: لماذا؟

في تقديري، الإجابة مرتبطة بماهية هذا الجيل من شباب اليسار. نحن أمام شباب متمرّد يرفض التنظيم، لم يجد برنامجه بعد، يبحث عن أفق جديد من دون أن يفهم تمامًا القديم. يعيش حالة تمرّد مفتوحة على الأوضاع القائمة وفي القلب منها تنظيمات اليسار وأحزابه، حالة يختلط فيها الغضب بالسخط، وتتشابك مع تصورات طوباوية تدعو إلى القطيعة الكاملة مع الماضي ومع تناقضات الواقع، وكأن ذلك ممكن أو متاح.

في مقابل هذا التمرّد الطفولي الطوباوي، يقف تيار الثورة المضادة. هذا التيار عمل بلا هوادة على إجهاض الحراك الثوري، قمعه وتشويهه، ثم إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. معتمدا على قياس حركة الشارع ومزاج الجماهير، مستفيدًا من إمكاناته المادية الضخمة، ومن دعم معسكر الثورة المضادة عالميًا. غير أن ضعفه البنيوي يظل قائمًا: عجزه عن تقديم حل حقيقي للأزمة التي صنعها بنفسه، لأنه يسير عكس حركة التاريخ. ومهما حقق من انتصارات تبدو في نظر البعض “نهائية”، فهي في سياق التطور التاريخي للحركة الوطنية المصرية مجرد انتصارات مؤقتة.

سيزول هذا التيار ما أن يتعلم اليسار درسه التاريخي: أن طريق النضال محكوم بشروط الواقع لا بالأماني. وأن الانتقال الديمقراطي لن يكون دفعة واحدة، بل عبر مراحل صراع ممتدة زمنًا، تتخللها السياسة والانتخابات وأحيانًا حركة الشارع، مع التسليم بتعقيد الواقع وتشابك التحديات الإقليمية والدولية، في ظل قوة معسكر الثورة المضادة وضعف البنية التحتية للتنظيمات والبرامج.

وعليه، فلا سبيل أمامنا إلا خوض حرب المواقع، وضرب هيمنة التحالف الطبقي السائد عبر جبهات النضال المختلفة، ومنها خوض الانتخابات، حتى في هذا السياق الصعب والمحاصر. فالتصعيد والتراجع يجب أن يرتبطا دائمًا بحركة المد والجزر في الحراك الشعبي، لا بالانفعال أو الاندفاع. ولا جُرم في أن نفاوض أحيانًا النخب القديمة والجديدة على خريطة طريق توافقية، تؤجل الصدام وتترك مخلفات الصراع جانبًا، بدل أن تسعى عبثا إلى حرق المراحل.

في تقديري إن الدخول إلى نادي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية لن يتم دفعة واحدة، بل على دفعات، بقدر ما يتيحه ميزان القوى، وبقدر ما يراكم اليسار من وعي وتنظيم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *