محمد حليم يكتب: الدين الخارجي المصري.. أزمة أرقام أم أزمة نموذج؟

يُثار الجدل حول الدين الخارجي المصري غالبًا من زاوية رقمية مجردة: كم بلغ؟ وهل تجاوز حدود الأمان؟ لكن هذا المدخل، رغم أهميته، يُخفي جوهر المسألة. فالمشكلة الحقيقية لا تكمن فقط في حجم الدين، بل في طبيعة الاقتصاد الذي يحمله، وفي منطق التراكم الذي يحكمه.

وفق بيانات حديثة، يبلغ الناتج القومي الإجمالي لمصر نحو 371.5 مليار دولار، بينما يقترب الدين الخارجي من 160–165 مليار دولار. أي أن نسبة الدين الخارجي إلى الناتج القومي تدور حول 45%، وهي نسبة لا تُصنَّف دوليًا ككارثية. دول كثيرة تجاوزت هذا المستوى دون أن تدخل في أزمات سيادية مباشرة. لكن الاقتصادات لا تُقاس فقط بالنِسَب، بل بقدرتها الفعلية على السداد.

من منظور التمويل الدولي، الدولة لا تسدد ديونها من الناتج القومي كقيمة حسابية، بل من فائض نقد أجنبي حقيقي. وهنا تبدأ المشكلة المصرية. فتركيب الاقتصاد لا يولد دولارات كافية بشكل منتظم، إذ يعتمد أساسًا على مصادر ريعية أو شبه ريعية: السياحة، تحويلات العاملين، قناة السويس، وتدفقات استثنائية من القروض أو بيع الأصول. هذه موارد هشة، دورية، وخاضعة للصدمات الخارجية.

عند النظر إلى تركيب الدين الخارجي تتضح المفارقة. نحو 81% من الدين طويل الأجل، وهو عنصر إيجابي نظريًا، لكن ما يقرب من 55 مليار دولار تستحق خلال عام واحد عند احتساب آجال الاستحقاق المتبقية. كذلك، يُقوَّم حوالي 68% من الدين بالدولار، و12% باليورو، ما يجعل الميزانية السيادية شديدة الحساسية لتقلبات سعر الصرف. أي خفض جديد للجنيه لا يُحسّن القدرة التنافسية بقدر ما يرفع عبء الدين فورًا.

أما من حيث الدائنين، فحوالي ثلث الدين لمؤسسات دولية متعددة الأطراف، وربع تقريبًا لدول عربية، والباقي لسندات وأسواق مالية دولية. هذا التنوع يمنع الانهيار السريع، لكنه لا يمنع الاستنزاف التدريجي عبر خدمة دين مرتفعة تقترب من 35–40 مليار دولار سنويًا، وهو رقم يلتهم جزءًا كبيرًا من موارد النقد الأجنبي.

نحن لا نرى في الدين شرًا مطلقًا، بل تسأل: لصالح من يُستخدم؟ في الحالة المصرية، الجزء الأكبر من الاقتراض لم يذهب لبناء قاعدة صناعية تصديرية، ولا لإعادة هيكلة زراعية، ولا لتوطين تكنولوجيا، بل لمشروعات كثيفة رأس المال محدودة العائد الدولاري، أو لسد فجوات تمويلية ناتجة عن اختلال هيكلي مزمن.

هنا يصبح الدين أداة إدارة أزمة لا أداة تنمية. ومع كل دورة اقتراض، يتعمق الاعتماد على الخارج، وتتقلص مساحة القرار الاقتصادي المستقل، دون أن يتحسن توزيع الدخل أو ترتفع إنتاجية العمل بشكل ملموس.

الخلاصة أن الدين الخارجي المصري ليس أزمة إفلاس، لكنه أزمة نموذج. نموذج يموّل الاستهلاك والاستقرار المؤقت بالدين، دون أن يبني قدرة مستدامة على السداد. ومن دون تغيير هذا النموذج عبر توجيه الاستثمار للإنتاج القابل للتصدير، وتحسين توزيع الدخل، وربط الاقتراض بعائد اجتماعي واقتصادي واضح، سيظل الدين يدور في حلقة مغلقة: استقرار هش، يتبعه ضغط، ثم اقتراض جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *