محمد حليم يكتب: إيران وأزمة العقل السياسي العربي
كشفت لنا حرب السابع من أكتوبرالتي نفذتها الفصائل المقاومة الفلسطينية على الكيان الصهيوني المجرم، عن العديد من الحقائق والتحديات بمنطقة الشرق الأوسط، بل ولن أبالغ وإن قلت وفي العالم، فأصداء تلك الحرب وما تبعها من عمليات انتقامية اجرامية من قبل الاحتلال، وصلت إلى مختلف أرجاء العالم، لعل أبرزها الانتفاضة الطلابية العظيمة في دول الغرب الرأسمالي، كاشفة عن التناقضات الداخلية للنظام الرأسمالي المأزوم، الذي فضحت بشاعة العدوان على قطاع غزة مدى زيف مبادئه الليبرالية والحقوقية الجوفاء التي طالما تغنى بها، وإزدواجية المعايير التي تحملها ثقافة الرجل الأبيض الذي لم يتخل قط عن نظرته الاستعلائية تجاه ما عداه من أمم وشعوب، ناهيك عن الجوهر الاستعماري للسياسات الغربية التي تجلت في دعم الجيوش الغربية ودوائر الحكم للكيان الصهيوني المهزوم.
لعل من أبرز العورات أيضاً التي كشفها السابع من أكتوبر –وهو موضوع مقالنا- الدور الإيراني بالمنطقة، الذي فرض نفسه على ساحة الأحداث منذ اليوم الأول للمعركة، سواء عن دور إيران في تطوير القدرات الصاروخية لحركة حماس تحديداً، ثم مع تصاعد العدوان على قطاع غزة بدخول حركة الحوثي على خط المقاومة المسلحة، ودورها المشرف في تكبيد العدو الصهيوني وحلفائه من القوى الاستعمارية العديد من الخسائر الاقتصادية عن طريق إعاقة الملاحة في مضيق باب المندب، في تطور خطير في قلب موازين القوى بالمنطقة، ليعيدنا مرة أخرى إلى الدور الإيراني، ونفوذه في دعم ما يسمى بمحور المقاومة/ الممانعة في المنطقة العربية في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وهي الجبهات التي دخلت الحرب تباعاً ورفعت تكلفة العدوان الأخير على قطاع غزة، حتى وصلنا إلى المواجهة المباشرة بين الكيان الصهيوني وإيران، تلك المواجهة التي عبرت عنها الصواريخ الإيرانية التي ضربت الأراضي المحتلة في مشهد أرعب الحكومة الاسرائيلية وحلفاءها، وفتح كل الاحتمالات لتطور المواجهة مع معسكر الاستعمار بالمنطقة مستقبلاً، حتى وصلنا إلى حادث الإغتيال الخسيس لإسماعيل هنيه على الأراضي الإيرانية.
وفي ظل الانتكاسة الطويلة للأنظمة الحكم العربية التي انقسمت إلى داعم مباشر للعدو الصهيوني على خلفية التبعية السياسية للولايات المتحدة وأجندتها الاستعمارية، أو إلى مجرد متفرج عاجز عن لعب أي دور ولو على المستوى الدبلوماسي على غرار الدور المشرف لجنوب افريقيا ودول امريكا اللاتينية المحسوبة على معسكر اليسار العالمي، اتضحت لنا حالة الفقر والضحالة التي يعيشها العقل السياسي العربي ممثلاً في كثير من نخبته السياسية والفكرية، حيث انعكست مظاهر البؤس تلك في التعامل/ توصيف دور إيران بالمنطقة، بحيث يمكن إجمال تلك الاتجاهات في الآتي:
الأول/الاتجاه الانتقامي: الذي يوظف التحليل السياسي للانتقام من الخصوم، الذي تجلى في حالة التشفي في إيران بعد حادثة اغتيال الشهيد إسماعيل هنية، وبعد كل عملية اغتيال لعلماء أو قيادات إيرانية، والمحاولات المستمرة لتضخيم أخطاء السياسة الإيرانية وكذلك للتناقضات البينية مع نظام ولاية الفقيه. من أمثال تلك المقولات: ابناء كسرى، أحفاد المجوس، الرافضة، خونة سيدنا علي!
خطورة هذا الاتجاه تتجلى تضليله للرأي العام والعمل على توهانه في دوائر لا تنتهي من المقولات العبثية التي ترقى إلى درجة الحمق البين والتي لا تدفع في اتجاه بلورة موقف عملي للتعامل مع الطموح الأيراني بالمنطقة.
الثاني/الاتجاه الانهزامي: الذي يقيس المسألة الإيرانية بل وكل مسائل الكون السياسية –كالصراع الروسي الاوكرني أو الصراع الصيني على تايوان- على مسطرة الواقع العربي المهزوم، فأبناء هذا الفصيل يرون أن من يعادي الغرب مصيره المحتوم هو الهزيمة والاندحار، فتجدهم يستعيدون حالة “النكسة” ويتحدثون عن هزيمة المشروع العروبي الناصري، التي سحقته آلة الحرب الغربية، تتجلى تلك الحالة الانهزامية على سبيل المثال في خطاب المدعو إبراهيم عيسى.
الثالث/الاتجاه الشعبوي الداعم لمحور الممانعة: حيث يتعامل أنصار هذا الاتجاه مع معركة إيران بوصفها معركة العرب، والأخطر أنه يتعامل مع المعركة بوصفها “خناقة” في خمارة كما في أفلام الأبيض والأسود، حيث تتطاير الكراسي وتسحق لكمات البطل أفواه الأشرار، فيطالبوا إيران بتحرير القدس والقضاء على الصهاينة وطرد الأمريكان من المنطقة! وعليه وفي ظل ارتفاع سقف أحلام هذا الفصيل فإنهم يطالبوننا بـ”شيك” على بياض لدعم إيران وحلفائها في المنطقة، بل ويطالبوننا بالدفاع المستميت عن “تكتيكات” المعسكر الإيراني، ولو اتضح خطأه فيما بعد، وعليه يكون أي موقف ناقد أو حذر أو حتى منطلق من رؤية موضوعية ذاتية تجاه المعركة الإيرانية، يصبح لدى هؤلاء موقف جبان أو عميل للغرب!
تتجلى خطورة هذا الاتجاه في أنه:
أولا: لابد وأن يصدم في نهاية الطريق، لأن السياسية غالباً لا تعرف المعادلات الصفرية وعليه فإنه ليس من المستبعد أن تحدث تسوية ما بين الغرب وأيران على خلفية الحلول الوسطى، لأن معركة مفتوحة بين المعسكرين ستعني خسائر جسيمة لكلاهما، فأيران ليست كالعراق ستسقط دون معركة ولو أسبرطية ستحرق نيرانها الأخضر واليابس بالمنطقة
ثانياً: يقطع الطريق على بلورة موقف عربي ذاتي منطلق من واقعنا وقضايانا نحن العرب أو اليسار على وجه الخصوص، بوصفنا التيار العلماني المقاوم للمشروع الأمبريالي بالمنطقة، الذي يحمل مشروع الحداثة، الحرية، العقلانية، العدالة، الذي يتناقض فكرياً وعملياً مع أنصار شعارات الاسلام السياسي سواء السنية أو الشيعية
الرابع/ الاتجاه المتبني موقف الغرب بالكامل: فأنصار هذا الاتجاه لم يكتفوا بمجرد الانسحاق امام الغرب، بل خلعوا جلدتهم وتعاملوا بوصفهم غربيين بالأساس، حتى تظن أن هذا المفكر أو الإعلامي هو مجرد مترجم للرؤى الغربية، بل ويتعامل مع تلك التحليلات أو الادعاءات بوصفها حقائق لا تقبل الشك، وأن معارضتها هي نوع من إنكار الحقائق أو العلم، وكيف لا؟ وهي قادمة من السيد الحضاري الغربي!
الخامس/ الاتجاه السطحي الغارق في التفاصيل: حيث أكتفى أصحاب هذا الاتجاه بتغطية الأخبار من كل الاتجاهات، من أيران ومن اسرائيل ومن الولايات المتحدة، ومن حماس وحزب الله، دون تقديم أي رؤية أو شرح لسياق تلك الأحداث وخلفيات تلك التصريحات.
خطورة هذا الاتجاه أنه بيحول لتحليل السياسي المفترض إلى مجرد شريط أخبار بلا ذاكرة وبلا تاريخ، بلا وعي بالحاضر أو تصور للمستقبل، بل أني أخجل حتى أن أسميه اتجاه سياسي من الأساس، فالتحليل السياسي يجب أن يكون ناقداً، يسعى إلى تفكيك الأحداث والرؤى ويعيد بناءها لرسم صورة كلية واضحة.
السادس/ الاتجاه المؤمن بالمؤمرة الكونية: حيث يؤمن أسرى هذا الاتجاه بأن الغرب متآمر مع أيران ضد العرب، بل ويذهبون إلى أن أيران واسرائيل حلفاء في السر، وأن ما يجري مجرد مسرحية خداع العرب!
خطورة هذا الاتجاه ناهيك عن تفاهته، تكمن في نشر وتعميم ما يمكن تسميته ب”العمى السياسي”، الذي يعجز عن رؤية الألوان السياسية المختلفة، وقراءة خريطة المصالح والتحالفات المترتبة عليه، ويتصور أن العرب بالمجمل هكذا، لهم نفس المصالح والتوجهات.
عجز العقل السياسي العربي عن تكوين رؤية علمية للمشروع الايراني بالمنطقة هو انعكاس لغياب المشروع الحضاري والسياسي العربي، هذا الغياب الذي جعل الوطن العربي مجرد ساحة للحروب بالوكالة للقوى العالمية المتصارعة –روسيا والصين من ناحية والغرب من ناحية آخرى- والقوى الصاعدة الملتحقة بهذا المعسكر وذاك، وأعني أيران وتركيا.
ماذا تريد أيران ؟
إن الإجابة عن هذا السؤال هو مربط الفرص في التعامل مع السياسة الأيرانية بالمنطقة، بإعتقادي أن أيران لم تعد تريد مجرد الإعتراف الدولي ببرنامجها النووي أو حتى الإعتراف بها كقوى إقليمية هامة لها مساحات نفوذ ومشروع قومي له مصالحه الاقتصادية والسياسية، ففي ظل التغيرات الحالية التي يشهدها النظام العالمي، وأعني تحديداً زوال أحادية القطب التي ميزت النظام العالمي طيلة الثلاثة عقود المنقضية، والتي هي بالمناسبة فترة استثنائية جداً في التاريخ البشري، والاتجاه المتزايد نحو عالم متعدد الأقطاب، وهو ما يتعارض مع المشروع الغربي “الاستعماري” الذي يريد إدامة تفوقه المطلق على ما عداه من الأمم، في هذا السياق تصاعد الطموح الأيراني للعب دور أكبر في نظام ما بعد أحادية الغرب، وهو عبر عنه نص كلمة الرئيس الأمريكي بايدن أمام القمة الاقليمية التي ضمت دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن في 16 يوليو 2022:
“لن نغادر ونترك فراغاً تملؤه الصين أو روسيا أو إيران”.
بالطبع لم تكن تلك الجملة مجرد زلة لسان أو قراءة فردية للسيد بايدن، بل هي تلخيص لرؤية أجهزة المخابرات ودوائر صنع القرار الأمريكية، والتي أثبتت الأيام صدق تلك الرؤية، على الرغم من الانتقادات الواسعة التي أثارتها تلك الرؤية في حينها، حيث رأى البعض أن بها تضخيم للدور الأيراني بالمنطقة وتضخيم لقدراتها العسكرية والدوبلوماسية، حيث كان من المعروف أن أيران تأتي بعد مصر وتركيا واسرائيل في ميزان القوى العسكرية، بالطبع كان هذا قبل أحداث السابع من أكتوبر، الذي أوضح لهؤلاء نفاذ الرؤية الأمريكية، التي يمكن تلخيصها في الآتي:
الشرق الأوسط منطقة نفوذ هامة للهيمنة الأمريكية.
لا يوجد مشروع سياسي أو نهضوي لأي دولة عربية بالمنطقة.
العرب والفراغ سواء. ((العرب= فراغ)).
إيران هي القوى الوحيدة بالمنطقة التي تستطيع مليء الفراغ في حالة انسحاب أمريكا.
وهو ما تعبر عنه القيادة الأيرانية وتؤكد عليه صراحةً، ففي ختام القمة السابعة للدول الضامنة لمسار أستانا للأزمة السورية التي انعقدت في طهران يوم 19 يوليو 2022، والتي ضمت روسيا وتركيا وأيران أكد المستشار ايراني للشؤون الدولية “علي أكبر ولايتي” على أن أيران وروسيا والصين، بأعتبارهم قوى صاعدة وقادرة على التصدي لنزعات أمريكا والغرب الاستعمارية، وأكد “ولاياتي” أن أيران بوصفها واحدة من الدول القليلة التي تعلن بكل وضوح معارضتها للسياسات الأمريكية التوسعية، قد واصلت باقتدار مسارها السياسي، وأنها قد رسخت علاقات قوية مع قوى الشرق الصاعدة كروسيا والصين، لقيادة التغيير في النظام العالمي.