محمد العريان يكتب: الأصل في الحياة الطيبة.. إحنا كتير
تخرج فتاة من منزلها في طريقها إلى الجامعة يعاملها مئات الرجال بما يليق بها، في المكيروباص يحرص السائق على أن تجلس في مكان لا يزعجها بجوار سيدة أو فتاة مثلها، تسمع: “معلش يا كابتن اقعد انت ورا وخليها تقعد مكانك”، على الفور يتحرك الشاب بخجل من فقد مروءته: “اتفضلي”، في الطريق ربما يبتسم لها شاب أو يفسح لها آخر الطريق لتمر، أو يستأذنها ليمر، وفي النهاية يتحرش بها سافل يستحق 100 لكمة على وجهه وتستحق الحادثة خبراً في الصحف أو بوست على مواقع التواصل الاجتماعي.
التحرش سفالة وجريمة تحدث يومياً للسيدات في العالم، ولكن ليس كل شاب مشروع تحرش وليس المتحرشون رجالاً أصلاً، بل هم كاستثناء القاعدة لا غير.
يحكي صديقي عن حادث في وسط الطريق، ميكروباص يصطدم بعدد من المواطنين حول حادث آخر وينقلب الميكروباص ويزحف على الأسلفت، عدد المصابين 25 تقريبا.
يكمل: “فجأة خرج من العدم عدد كبير من المواطنين أعمارهم مختلفة، وتحول الشارع إلى مستشفى ميداني ومحاولات لتهدئة المفزوعين والمصابين في الحادث بعفوية وإنسانية”.
يقول: أتأمل الحادث من أوله، أول واحد حاولت مساعدته، اللي رفض يتلقى المساعدة وهو مصاب ومخضوض، وطلب مني أروح أساعد واحدة تانية. الناس اللي وقفت تواسي وتساعد ناس متعرفهاش، العربيات اللي بتوصل الناس للأماكن اللي عايزينها، الستات اللي عملوا كردون من الصريخ والصويت أول الحادثة عشان يلفتوا نظر العربيات الجاية ومتخبطش في الواقفين، البنات الصغيرة اللي كانوا بيمسحوا دم المصابين بمناديل كلينكس، سواق التاكسي اللي رفض ياخد الأجرة.
جرعة المشاعر كانت فعلاً فوق طاقة الاحتمال.
ويمكن حاسس إني شوفت المشهد ده عشان يفضل حجة عليا لحد ما أقابل ربنا، وأعرف إن البلد دي لو منكوبة من كل نواحيها، ففيها خير، وخير كتير أوي.
الأصل في الأشياء الإباحة، قاعدة فقهية مشهورة، تعني أن كل شيء حلال ما لم يذكر تحريمه ومنعه، وأيضاً القوانين تذكر الممنوع ولا تذكر المسموح لأنه أكثر ولا يمكن حصره فضلاً عن أنه الأصل.
الأصل في الحياة الإنسانية والطيبة والجدعنة، ولهذا نذكر ونتذكر الشاذ وغير الطبيعي والمدهش، في كل شارع يذاع صيت البلطجى والسباب والشقى، ولا نلتفت لآلاف المواقف الصغيرة الجيدة لأنها طبيعية.
في رمضان يصر عدد كبير من الناس على إفطار الصائمين المارين في الشارع، يهرع مواطنون لمساعدة عجوز في عبور الشوارع الرئيسية، تساعد طفلاً خائفاً من نباح كلب، تمد يدك ليلحق راكب لا تعرفه بعربة المترو، في موقف الجيزة يتفق السائقون على ركوب السيدات فقط اللاتي لا يستطعن مزاحمة الرجال في أوقات الذروة ليعدن إلى منازلهن أولاً. ملايين الحكايات التي تستحق أن تروى تكشف عن الطيبة والمروءة والجدعنة، تكشف عن معنى الإنسانية.
في مشهد آخر يقف عامل شاب يجر عربة يد أمام قطة تشرب من بركة ماء، انتظرها حتى فرغت ثم مر، لم يفزعها ليمر أو مر أولا ثم تركها تشرب، إذا رأيته ستعرف أنه فعل عادي طبيعي يتماشى مع إنسانية محفورة داخلنا، هل تستغرب من وجود عينين لكل وجه تراه.. إحنا كتير
أعرف أطباء لم ينهشهم جشع جمع المال يتعاملون مع آلاف الحالات بما يليق بمهنة الطب، يكفي أن تعلم أن أكثر تبرعات مستشفى القصر العيني، أكبر مستشفيات مصر، تأتي من الأطباء وأسرهم لعلاج المرضى مجاناً، أعرف أطباء يصرفون الدواء مجاناً للمرضى الفقراء، فضلاً عن الكشف عليهم وتحويلهم إلى مراكز أشعة وتحاليل لإجراء الفحوصات مجانا أو على حسابهم.
في كل جامعة تجد أساتذة يحترمون مهنتهم ويتعاملون بما يليق بها كرسالة إنسانية لكل طالب علم، يرفضون تحقير طالب العلم وبكل حب يعطون ما لديهم.
في المدارس والمساجد والجامعات والأسواق حوادث كثيرة مشابهة، ولكننا نتعامل بطريقة الصحفي مصطفى أمين “أن يعض الكلب إنساناً فهذا شيء عادي، أما أن يعض الإنسان كلباً فهذا هو الخبر”.
كل يوم يمر الطيبون علينا نعتبرهم طبيعة الأشياء كشروق الشمس كل يوم، نتذكر طيبتهم فقط حينما يموتون.