محمد البطاوي يكتب: نقابة المهندسين وانتخابات تركيا
على طول طريق الردهة المفروشة بأوراق الاستفتاء التي تمثل إرادة المهندسين، كانوا يخطون بأقدامهم يدهسون إرادة زملائهم.. كان مشهدًا بربريًا؛ كأنهم همج قادمون من ماضٍ سحيق لا يعترف إلاّ بقانون الغاب، ولا يقرون شيئا اسمه إرادة وانتخابات وحرية أو أي شيء.
المؤسف أن تلك المشاهد الهمجية تأتي بعد أيام من انتخابات رئاسية تركية شهدت مرحلتين مثيرتين، كان الرئيس على وشك الرحيل وفقا لاستطلاعات رأي قبيل الانتخابات بأيام، وحال أقل من نصف في المئة بينه وبين النجاح في المرحلة الأولى. لم نر يومها أنصاره يفعلون تلك الأفعال الهمجية ذاتها، رغم أنها انتخابات أكثر أهمية ومفصلية، فهي ليست كانتخابات نقابية مثلا.
تركيا ليست دولة بعيدة عنا، بيننا وبينها في الجغرافيا مياه البحر المتوسط، وبيننا وبينها في التاريخ مسافة ليست شاسعة في تاريخ الانقلابات العسكرية أيضا، في الثقافة وأشياء أخرى ربما نكون أقرب، لكنه رغم الفاصل الانتخابي القصير بين كلا الاستحقاقين الانتخابيين (الرئاسي والنقابي) بدت الهوة كبيرة بيننا.
قال بعض المراقبين إن انتخابات نقابة المهندسين كانت موقعة جمل جديدة، عندما استشعر أنصار النظام أن مساعيهم بسحب الثقة من النقيب المحسوب على تيار الاستقلال، وأن جموع المهندسين اختارت تجديد الثقة في النقيب، كسروا صناديق الانتخابات وبعثروا الأوراق وداسوا إرادة زملائهم بالأحذية.
هل كانت تلك النهاية المأساوية رسالة، إخطار مسبق للشعب المصري الذي تابع انتخابات تركية بمزيج من الانبهار والتقدير، لأولئك الذين تمنوا انتخابات مماثلة في مصر؟ هل هي نموذج مصغر ورسالة بعلم الوصول بأن الإرادة المزعومة ستكون تحت الأحذية إذا لم تكن رهن إشارة رضا وطوع فريق ما؟
كان المشهد مسيئا للغاية، ليس إلى وجه بعض أنصار الشبيحة، ولا حتى إلى نقابة المهندسين برمتها، أو حتى مسيئا إلى وجه السلطة والنظام.. المشهد الهمجي كان مسيئا إلى وجه الوطن، الذي لا يزال بعض أبنائه يلجؤون إلى البلطجة وقوانين الغاب والهمج لفرض إرادتهم ودعس إرادة ورغبة الأغلبية بأحذيتهم، بينما نظراؤهم على الضفة الأخرى من المتوسط يتحلون بقدر أكبر من “التحضر” وقبول الخلاف والنزول على رأي الأغلبية.
تخيل معي أيها القارئ أننا الآن نقول على دولة أخرى مقابلة لمصر التي بدأت حضارتها منذ فجر التاريخ أكثر تحضرا، هل تشعر بالألم ذاته والغصة نفسها؟
أشار نقيب المهندسين طارق النبراوي بأصابع الاتهام إلى حزب مستقبل وطن المساند للسلطة المصرية والمحسوب عليها، قال إن بلطجية الحزب الموالين للأمين العام للنقابة هم من قاموا بتلك الاعتداءات.
بلطجية الحزب، يا له من مصطلح مثير للذكريات، يعيد إلى الأذهان ممارسات الحزب الوطني الحاكم قبيل ثورة يناير 2011، كانوا محترفين في تزوير أي انتخابات أو إفسادها، نفس الممارسات تقريبا، مع فارق تغيير اسم الحزب ووجوه قياداته.
لم يتعلم الحزب (ذو الاسم الجديد) من أبيه (ذي الاسم القديم) أن الانتخابات ربما تكون ضمانة بقاء واستمرار، تخسر انتخابات لتطور نفسك وتدرك أخطاءك، وربما تعود في وقت لاحق، تخسر انتخابات لكنك لا تخسر الوطن.
في تركيا مثلا خسر حزب العدالة والتنمية انتخابات المحليات (مقارنة بنتائجه في الانتخابات السابقة) تراجعت مقاعده، وفقد السيطرة على مجالس مهمة.. خسر في إسطنبول التي كانت معقله الأهم، قبل بالنتائج وتعلم وأدرك أن ربما مع طول بقائه في السلطة بدأ ينفصل عن اهتمامات الناس ومشاعرهم.. أعاد إنتاج خطابه وعدل من بعض أولوياته ليتمكن من العودة.
لكن رفض الانتخابات وقمع الآراء واحتكار السلطة بالقوة أدى بالحزب الوطني في مصر إلى الثورة والحل والعداء.
متى يدرك الأغبياء أن الديمقراطية والانتخابات والصناديق هي ضمانة لهم أولا، حتى في حالة خسارتهم، يخرجون بأوراق الانتخابات أم بحجارة الثائرين؟ بإمكانية العودة أم بعداء الإقصاء والرفض؟
لعله كان من الأفضل للجميع لو قبل الخاسرون معركة سحب ثقة النقيب، وأعلنوا احترامهم إرادة زملائهم، وضربوا مثالا أبيض في قبول إرادة الجمعية العمومية ويبدؤوا العمل على سد الثغرات وملء الفراغات، أن يبرهنوا عمليا على أن أجندتهم مهنية في النقابة.. وليست حزبية، وأن اهتمامهم بالمهندسين لا بالسلطة، وأن الأولوية هي مصلحة زملائهم لا تلميع صورهم والتشبث بمقاعدهم.
لكن كل طاغية أعمى، ولو كان صغيرا، حتى لو كان ذلك الطاغية مجرد عضو مجلس نقابي، أو مجرد أمين في وحدة محلية، إذا طغى وتجبر ظن أنه إله هذه الوحدة أو النقابة، وأنه يعرف مصلحة النقابة أو الوحدة أو اللجنة أفضل من أهلها الذين لا تعني آراؤهم له شيئا، وصاح قائلا: “ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”.