مجدي عبد الحميد يكتب : الحرب الروسية – الأوكرانية.. زاوية رؤية مختلفة
يبدو للوهلة الأولي أن الصراع الدائر الآن علي الحدود الروسية – الأوكرانية وكأنه أحد النزاعات المناطقية التقليدية بين دولتين بينهما مشكلات تاريخية وحدود مشتركة وفقط، أو هكذا يتم محاولة تصويره والترويج له، دولة كبيرة تمتلك القوة ولديها أطماع توسعية تسعي للسيطرة علي جارتها التاريخية الصغيرة التي لا حول لها ولا قوة، فهل هذا المنطق البسيط الساذج، حتي لو كان ظاهره يتضمن جزء من الحقيقة، بكاف لتفسير ما يجري ؟
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي القديم وتفكيك مكوناته والانفراد المؤقت لأمريكا كقطب وحيد يقود العالم الرأسمالي والاعلان الرسمي عن هزيمة أحد المحاولات الكبري التي استمرت قرابة المائة عام منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وارهاصاتها الفكرية الكبري علي مدي قرن آخر أسبق والتي لم تنجح في التغلب علي قهر الانسان لأخيه الانسان والانتصار لافكارها النبيلة الساعية لخلق عالم اكثر آدمية لاسباب عديدة، منها النظري وايضا في التطبيق العملي، والصراع لم يتوقف لحظة واحدة لاشباع اطماع السيطرة والنهم الرأسمالي المتوحش الكائن والمكون الأصيل للفكرة الرأسمالية نفسها من ناحية، والسعي الطبيعي الغريزي لدي الانسان للبقاء والاستمرار والفكاك من هيمنة وقهر والنزعات المتوحشة للانسان والتي بلورها بكل وضوح ونقاء مفكري وصانعي ومطبقي الرأسمالية في صورتها النقية شديدة الوضوح والصراحة في مراحلها الحالية والنهائية من ناحية أخري.
ومع الاعتذار عن عدم الدخول الان في المقدمات التاريخية والسياقات الكثيرة التي اوصلتنا الي اللحظة الراهنة، تلك المقدمات التي تحتاج الي الكثير من الشروحات والتوضيح والتي اعتقد ايضا انها معلومة بقدر كبير لنا جميعا بحكم معايشتها من ناحية والالمام بمقدماتها التي جرت وقائعها خلال الخمسين سنة الماضية من ناحية اخري، ففي اعتقادي ان ما يجري الان هو وبدرجة من الجرأة في الطرح ذروة لأزمة النظام الرأسمالي العالمي، ربما تأخرت قليلا، ربما تم تأجيلها ومحاولة تجنب حتميتها لسنوات طوال، وربما يحاول اقطابها تمريرها بأقل قدر ممكن من الخسائر، ليس من قبيل الحرص علي البشر، بقدر الرعب من النتائج النهائية التي قد تؤدي الي تدمير مكتسباتهم وتصدع النظام بأكمله تمهيدا لجولة جديدة من جولات صراع الانسان الحديث من أجل البقاء والاستمرار، جولة لا يعرفون أو حتي يتخيلون أبعادها وشكلها الجديد.
ان ما يجري الان هو من حيث الجوهر وبغض النظر عن نوعية الاسلحة والادوات المستخدمة حرب عالمية مكتملة الاركان، حرب سيكون لها الكثير من النتائج والتغييرات الجذرية في شكل الحياة علي ذلك الكوكب، وهذا لا يعني بالضرورة ان ذلك سيتم وينجز بالغد القريب، ولكنه بدأ ولن ينته قبل ان تحدث تغييرات كبري مهما طال أمد تلك الحرب، لأنها ببساطة، قد تبدو ساذجة بعض الشئ من فرط بساطتها، تشير الي ان ازمة النظام الرأسمالي، فكرا وممارسة، جابت آخرها ولن تنجح معها جميع محاولات الترقيع، فالثوب قد تهتك تماما بفعل الطمع الوحشي الملازم للفكرة نفسها من ناحية والعري الذي أصاب الأغلبية الكاسحة من البشر والذي لم يعد ذلك الثوب بقادر اكثر من ذلك علي تغطيته، فهي مسألة وقت ليس أكثر.
لا نستطيع القول بأن هذا الصراع هو صراع بين الغرب الرأسمالي الذي يحمل لواء الدفاع عن قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، في مواجهة شرق يدافع عن ويتبني قيم العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر حتي لو كان علي حساب التضحية بقيم الحرية وحقوق الانسان، فهو في الحقيقة صراع بين أطراف تحمل نفس القيم والمبادئ والاسس الرأسمالية غير العادلة والتي توحشت بشكل اصبح يشكل كابوسا مزعجا للانسانية جمعاء، صراع من داخل وبين أطراف ايديولوجية واحدة، ولا يوجد اي مبرر سياسي او اخلاقي او انساني يجعلنا ننحاز مبدئيا لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع، وانما ننظر اليه في سياقه التاريخي ولحظته الراهنة ودلالاته وكيف يستخدم ويتم توظيفه كأحد الأدوات التي يستخدمها ذلك النظام لحل أزماته التي تولدها وتخلقها تفاعلاته الداخلية، ثم ما هي الاثار المترتبة عليه وانعكاساته علينا جميعا.
هكذا سعي الاوكران بكل ما أوتو من قوة وشوفينية مقيتة وغباء لا يحسدون عليه، وكأنهم دخلوا مسابقة كبري للفوز بذلك الشرف، شرف أن تكون الاراضي الاوكرانية هي مسرح العرض الكبير والذي قد يكون العرض الاخير لتلك المرحلة من مراحل أزمة النظام الرأسمالي العالمي و سعي جميع الأطراف للخروج منها بأقل قدر ممكن من الخسائر، والذي سيؤدي حتما لاعادة ترسيم خريطة العالم.
ان صناعة وتجارة السلاح وتأجيج وخلق بؤر للصراع في انحاء كثيرة من العالم لم تعد كافية كما لم يعد لها مبرراتها القوية ولم تعد مخرجا مناسبا لمعالجة مشكلات العالم الاقتصادية وتخفيف ازمة النظام الرأسمالي العالمي، فلم تعد الحروب الصغيرة المتعددة في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية تشكل مخرجا او منفذا طبيعيا لازمة ذلك النظام، ولم تعد الاقتصادات القائمة علي صناعة وتجارة السلاح والمخدرات والادوية بقادرة علي الخروج بالعالم الرأسمالي من ازماته.
لم يعد امام الاقطاب المتناحرة من بدائل اخري سوي الاقتراب اكثر واكثر من المواجهة المباشرة.
فهل يكون ذلك الصراع نهاية لتحالفات قديمة وبداية لتشكل تحالفات من نوع جديد وخاصة مع غياب الابعاد الايديولوجية منه ؟
هل سيفرز الصراع تحالفات من نوع جديد قائمة علي المصالح والابعاد الجيوسياسية ؟
هل من الوارد ان ينجم عن هذا الصراع صحوة بأن مشكلات البني ادمين علي هذا الكوكب تكمن في جوهر العلاقات التي افرزها ورسخها النظام الرأسمالي بانماطه المتعددة شديدة الجشع والطمع والتي لم تعد تصلح لاستمرار الحياة علي ذلك الكوكب ؟
عشرات الاسئلة المصاحبة للازمة الروسية – الاوكرانية الحالية والتي ستمتد اثارها لتطال اوروبا غربا وتتمدد شمالا وجنوبا وشرقا وغربا الي جميع انحاء العالم.
السؤال الكبير والاكثر الحاحا الان والذي يطرحه ذلك الصراع هو، حول مفهوم العدالة الانسانية. عدالة فرص الحياة المتكافئة للبشر سكان ذلك الكوكب البائس، تلك العدالة التي زاد اختلالها بمعدلات باتت غير محتملة الاستمرار، ولا اقول غير مقبولة فقط، لانها بالفعل كذلك طول الوقت ولكنها باتت غير محتملة وبالتالي غير قابلة للاستمرار اكثر من ذلك.
هل سينجم عن ذلك الصراع مواجهة شاملة، او مواجهات تتسع رقعتها جغرافيا وتمتد اعمق نحو جوهر وطبيعة النظام الذي افرزها ؟ أم سيتم محاصرتها وينجح النظام الرأسمالي القائم في تجاوزها مثلما يفعل دائما ؟ وحتي ان نجح في تجاوزها هذه المرة، فهل تعد إيذانا باقتراب انفجار ذلك النظام من داخله واعادة تشكيل الحياة علي اسس جديدة اكثر عدالة ؟
اسئلة كثيرة يطرحها الصراع الجاري حاليا علي الاراضي الاوكرانية وليس احد بمنأي عنها، وان غدا لناظره قريب.