حسن البربري يكتب: لأول مرة الصعيد يتصدر الاحتجاجات العمالية ووزارة العمل تكتفي بالرصد
لم يكن غريباً أن تتصاعد الاحتجاجات العمالية في مصر خلال الأشهر الأخيرة خاصة بعد موجة التضخم الأخيرة و ارتفاع أسعار السلع و الخدمات نتيجة رفع الحكومة لاسعار البنزين لكن الجديد والمختلف والمثير للانتباه حقا هو أن الصعيد تصدر المشهد هذه المرة في سابقة تاريخية إذ سبقت مدن الصعيد القاهرة والدلتا ومدن القناة في تسجيل موجات واسعة من الاعتراض العمالي الأمر الذي لم يحدث بهذه الكثافة من قبل في تاريخ الطبقة العاملة المصرية وهي لحظة تكشف حجم الاختناق الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه آلاف الأسر في الجنوب وتكشف في الوقت نفسه حجم العجز والتخبط داخل وزارة العمل التي بدلا من أن تتعامل مع هذه الاحتجاجات باعتبارها جرس إنذار طبيعي وتعبيرا مشروعاً عن ضيق العمال لجأت إلى أساليب إدارية شكلية وسريعة الهدف منها إغلاق الملفات واحتواء الغضب بدلا من حل أسبابهِ
فجأة ظهر كتاب دوري جديد صادرعن وزارة العمل يحمل عنوان مرصد الاحتجاجات العمالية ويطالب المديريات بسرعة رصد الاحتجاجات وتجميع بياناتها وإرسالها للإدارة العامة لعلاقات العمل ليس بهدف التدخل السريع أو البحث عن حلول عادلة ولا حتى باعتبار هذه التحركات مؤشراً لخلل في علاقات العمل بل باعتبارها معلومة يجب حصرها ثم وضعها على مكتب الوزير في تقرير شهري او ربع سنوي وكأن الوزارة تلعب دور مراقب من بعيد لا يعرف ولا يريد أن يعرف ما الذي يدفع العامل للوقوف خارج بوابة المصنع او للتجمهر في ساحة الورشة او لقطع الطريق أمام مقر الشركة احتجاجاً على تأخر الرواتب او التسويات او عدم تطبيق قانون العمل الجديد
هذا الكتاب الدوري الذي حرص على الصياغة الشكلية ونبرة الأوامر لم يقل كلمة واحدة عن دور الوزارة الطبيعي في حماية العمال ولم يحدد أي آلية للتدخل ولا لأي خطوة يمكن أن تعيد للعامل أبسط حقوقه بل اكتفى بتحميل المديريات عبء الرصد والمتابعة وتسجيل الاحتجاجات على نموذج اداري جاهز وصامت كأن المطلوب بناء قاعدة بيانات تراقب الغضب بدلاً من قوانين تحمي العامل أو إدارة نشطة تمنع وصول الأزمات إلى مرحلة الانفجار
الوزارة التي من المفترض أنها الجهة المكلفة بتطبيق قانون العمل الجديد وحماية علاقات العمل وضمان التوازن بين العامل وصاحب العمل تبدو الآن غارقة في حالة من التخبط الواضح فهي تارة تنشغل بملفات شكلية وتارة تتعامل مع تحركات العمال باعتبارها ازعاجاً يجب احتواؤه وتقييده وتارة تصدر كتباً دورية لا تحمل شيئاً سوى رسالة واحدة هي أن دور الوزارة أصبح أقرب إلى دور المراقب الأمني لا دور الجهة التنفيذية المسؤولة عن إنفاذ القانون وهي رسالة خطيرة لأنها تكشف كيف أصبحت نظرة الوزارة إلى الاحتجاج العمالي باعتباره تهديداً وليس حقاً قانونياً أصيلاً
اللافت أن موجة الاحتجاجات التي بدأت في صعيد مصر كشفت هذا الضعف سريعاً ففي الوقت الذي كانت فيه المئات من العمال في مصانع الغزل أو الورش الحرفية أو الشركات الخدمية يعترضون على تدني الأجور وغياب التأمين وتزايد الضغط المعيشي كانت الوزارة تصدر قراراً ينشغل بكيفية تسجيل الاحتجاج بدلاً من كيفية منع أسبابه كانت تحصي الغضب بدلاً من معالجة جذوره كانت تتعامل مع العامل باعتباره رقم احتجاج وليس صاحب حق
الصعيد الذي طالما اعتبره البعض منطقة هادئة أو غير قادرة على تشكيل موجة ضغط كان هذه المرة أكثر وعياً وأكثر قدرة على التنظيم وأكثر حضوراً في المشهد ومنح بذلك درساً مهماً مفاده أن الاختناق الاقتصادي لا يعرف جغرافيا وأن صبر الناس مهما طال سوف ينفد وأن العامل في قنا أو سوهاج أو بني سويف لا يختلف عن العامل في المحلة او شبرا الخيمة او الإسماعيلية وأن استمرار تجاهل حقوقهم سوف يدفعهم للاحتجاج مهما كان حجم القيود
ومن هنا يصبح القرار الذي أصدرته الوزارة دليلاً على أزمة أعمق من مجرد كتاب دوري فهو يعبر عن غياب الرؤية داخل الوزارة وغياب الإرادة السياسية لإرساء علاقات عمل عادلة وغياب الكفاءة في التعامل مع الأزمات المتصاعدة وربما يعبر أيضاً عن خوف رسمي من توسع هذه الاحتجاجات وهو خوف لا يُعالج بالقرارات الإدارية وإنما يعالج بأبسط الأمور وهي احترام قانون العمل وتطبيقه واحترام العامل وحقوقه وتوفير بيئة عمل آمنة وكريمة
إن ما يحدث اليوم هو لحظة فاصلة تظهر فيها هشاشة سياسات وزارة العمل وتكشف فيها احتياجات العمال وتفضح فيها خطورة استمرار النهج الإداري البارد الذي لا يرى في العامل سوى خانة في تقرير بينما يرى العامل في نفسه قيمة وحقاً وحياة كاملة تستحق أن تُصان لا أن تُراقَب.


