كريم محمد الجمال يكتب: مستقبل الثقافة العربية بين التطبيع والمقاومة
تمر الدول العربية حالياً بظروف صعبة للغاية وأزمات غير مسبوقة حيث تعصف بها رياح التغيير من جانب والتغريب والتغييب من جوانب أخري ،حيث افترق الناس حسب اتجاهاتهم الفكرية وتياراتهم الايدلوجية وأصبح المشهد العام في المنطقة غائم وغير واضح المعالم بشكل كبير، وبالأخص في الأوساط الثقافية حيث أنها المنوط بها التأثير في الوجدان الشعبي العربي وصياغة المفاهيم في العقل الجمعي لشعوب المنطقة بالمشاركة مع عوامل أخرى تمر أيضاً عبر بوابة الثقافة والمثقفين .
في الماضي القريب كانت قضية فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني القضية المركزية لكل الشعوب وأغلب الأنظمة والنخب السياسية والثقافية، ومع حدوث تحولات ضخمة في المنطقة بدأ يغلب تيار التغريب والتغييب وهو الابن الشرعي للرجعية العربية القديمة الموالية للاستعمار ضد تيار الثقافة والتوعية والثورة العربية، فاختلت الثوابت وضاعت القيم والمبادئ عند أغلب الأنظمة الحاكمة وكثير من النخب السياسية والاقتصادية الرأسمالية، لان ببساطة النضال من أجل حقوق الشعب الفلسطيني يتصادم مع مصالح هذه الفئات الحاكمة وأصحاب المصالح الاقتصادية المرتبطة بالغرب الداعم الرئيسي للكيان الصهيوني.
ومع الحالة التي نعيشها في العالم من نزاعات وتشظي وتسطيح في القضايا العالمية مع تغول الرأسمالية وزيادة التيارات العدمية والدعاوي الهدامة ،ومع غلبة تيارات العولمة وطغيانها علي الثقافة المحلية وضعف دور الدولة الوطنية أصبح الاتجاه في دولنا العربية نحو التصالح وإدعاء السلام بشكل ظاهري مع الكيان الصهيوني وفي حقيقته إهدار للحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني .
ومع حالة السيولة التي تعيشها كثير من دول المنطقة يصبح دور المثقف العربي محورياً واساسياً في مواجهة تلك المساعي لتصفية القضية الفلسطينية بتعبئة الجماهير العربية وتنظيم نضالها ومقاومتها الفعالة ، وحيث يمتلك الخليج أكبر قدرات مالية في الوطن العربي وبالتالي اكبر تأثير إعلامي وتحول الإعلام العربي إلي ابواق للأنظمة فإنه من الخطورة ترك الأمور تسير باتجاه التطبيع دون النظر التضحيات الكبيرة التي قدمتها الشعوب العربية في طوال صراعها مع الكيان الصهيوني ، وأكبر دليل على ذلك احتضان القضية الفلسطينية والمقاومة من القوي الشعبية والجماهيرية في المنطقة التي كانت ولازالت علي اختلاف توجهاتها الفكرية والايدلوجية بيئات حاضنة للمقاومة ومكافحة التطبيع ثقافياً وعزل دعاة التطبيع شعبياً وجماهيرياً.
كان المثقفون والأدباء والشعراء والفنانين العرب يسخرون فنهم وفكرهم من أجل فلسطين مثل غسان كنفاني ،سميح القاسم ،محمود درويش وإبراهيم طوقان من فلسطين مروراً بكل بلد عربي كان لفلسطين والمقاومة نصيب كبير من أعمالهم ، ولازال الشعب المصري يذكر أغاني عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وعبد الوهاب وغيرهم وأشعار أحمد فؤاد نجم ونجيب سرور وأمل دنقل و عود الشيخ إمام دعماً الصراع بين العرب وإسرائيل، وكذلك أغاني فيروز عن القدس وفلسطين وبعدها ماجدة الرومي وجوليا بطرس ، وفي سوريا الشاعر الكبير باسل الخطيب ونزار قباني وغيرهم ،وكل بلد عربي احتفي فيه الأحرار والشرفاء من المثقفين بنضال الشعب العربي ضد الهيمنة والاستكبار العالمي من الرأسمالية المتوحشة و الصهيونية والجماعات التكفيرية .
ومع كل تلك التحديات والمعوقات بين محور المهادنة والانطباح والتطبيع وبين من يتمسكون ويدعمون كامل حقوق الشعب الفلسطيني وغيره من القوي الوطنية العربية وبالأخص المثقفين تصبح الفترة المقبلة حاسمة في كتابة مستقبل المنطقة ومصير شعوبها ، ولذلك تتزايد أهمية المواقع المستقلة ووسائل التواصل الاجتماعي كآداة للتعبير عن الرأي ومساحة لتلاقي الأفكار والتفاعل بين مختلف الاتجاهات والبلاد العربية ، وهي محاولة لإنقاذ الثقافة العربية وتمسكها بأصالتها وتأثيرها من السقوط في براثن الرأسمالية والفن التجاري الهابط الذي يغيب الوعي ويخدم قوي التطبيع