كارم يحيى يكت: في وداع بيليه.. في ذمة الله والتاريخ و ذاكرتنا
رحم الله بيليه أسطورة كرة القدم العالمية
القادم من أمريكا الجنوبية ( البرازيل).
كان وسيظل قطعة لا تنتزع من ذكريات جيلي ..وهنا في مصر.
عندما بلغت 14 سنة جاء إلى القاهرة
ليلعب مباراة ودية مع “الأهلى” انتهت بفوز فريقه ” سانتوس ” البرازيلي
بخمسة أهداف للاشئ. وكلها جاءت في الشوط الثاني.
ولن يمحى من ذاكرتي منذ تابعت المباراة في بيت أمي وأبي عبر شاشة التلفزيون العربي ( المصري) الأبيض والأسود” بتعليق الكابتن ” محمد لطيف””
مشهد بيليه بعد دقائق عديدة من الشوط الثاني وهو يرفع ذراعه لأعلى ويده تشير بـ ” هيا .. ياللا”.. وبعدها تماما تهاطلت الأهداف على مرمى النادي الأهلي وكأنه كان يبلغ فريقه بأن “زمن مجاملة المضيف ” قد انتهى.
“وبأننا عملنا معه واجب رد الجميل وكفى.. وعلينا الآن العمل”.
كان الهدف الأول بالنسبة لي غريبا ساحرا،
احتفظ به لليوم في ذاكرتي. الجناح الأيسر وربما الأيمن ” إيدو” يلعب ضربة حرة من “فاول” على هيئة قوس ” موزة”،
فتدخل مرمى الأهلى على نحو لم يكن متصورا. لصعوبة زاوية التصويب وتطرف موقع الضربة.. وربما كانت ” الشوطة الموزة” حينها مصطلح يبتدعه
للمرة الأولى المذيع المحبوب شعبيا على نحو يتخطى العصبيات الكروية كابتن ” لطيف”، وعلى الرغم من أنه من رموز الأقلية الأكبر ” الزمالكاوية” و مقارنة بأغلبية ” الأهلاوية”.
وبعدها أحرز بيليه بنفسه هدفين،
كان قد وعد قبل المباراة بهما.
…
كان بيلية بالنسبة لنا في هذه السنوات وعبر الصحف المصرية الورقية محدودة الأوراق نتيجة ظروف الحرب والاستعداد لإزالة آثار العدوان وصفحاتها الرياضية بمثابة رمز وبطل من عالم الجنوب. وكأنه “علامة عالمية مسجلة” تنتمي إلى الأفارقة أصحاب البشرة السمراء. هو يأتي أيضا من عالم مازال إرث الاستعمار والتحرر منه يشغله بقوة.
وكان حينها عدد من الدول الأفريقية مازال يجاهد لنيل الاستقلال الوطني.
وكنا إلى جانب قضيتنا الأولى فلسطين وتحرير سيناء وكافة الأراضي العربية المحتلة نتابع منذ طفولتنا عبر الصحف وموجات الراديو ونشرات التلفزيون هذا العالم الصاخب بهذه الصراعات والتضحيات والرموز.
فقد نضجت مع جيلي مبكرا مع هزيمة 1967 وعمري أقل من تسع سنوات حين حلت الكارثة الكاشفة.
…
ولا أذكر أنني كنت واعيا بما ترزح تحته البرازيل من حكم عسكري دكتاتوري للجنرالات بغيض ودموي ومدعوم من الرأسمالية الأمريكية، حين جاء ” بيليه” ليلعب في القاهرة عام 1972، ويهزم بكل هذه الأهداف الجميلة النادي الأهلى الذي لا أشجعه.
وفيما بعد بعقود قرأت عن إنه كان يتجنب السياسة، ويؤخذ عليه صمته إزاء الدكتاتورية في بلاده وسائر مجتمعات أمريكا اللاتينية.
وربما كان خائفا بدوره . وربما قام الجنرالات ( في تلك الفترة حكموا بين 64 و 1985) بتوظيفه في بلاده لإذكاء “وطنية زائفة مصطنعة”، وبدورنا قاسينا منها ومازلنا في مجتمعاتنا بالمنطقة العربية لليوم .
وبالطبع لم أكن حين جاء للقاهرة قد قرأت بعد كتاب “إدوارد جاليانو” بترجمة صالح علماني إلى العربية “كرة القدم بين في الشمس والظل”، أو حتى رواية “باغندا” للأديب التونسي ” شكرى المبخوت” عن الاختفاء الغامض المريب لنجم الكرة الشهير في بلاده والأسمر اللون أيضا في بلاده خلال زمن الدكتاتورية.
ولم أكن بالطبع كتبت مقالا في موقع “بالأحمر” الإلكتروني المحجوب في مصر تحت عنوان :”مبروك للترجي وهارد لك للأهلى : محاولة لقراءة أبعد من مباراة كرة قدم”. وقد تساءلت بين سطوره عن العلاقة بين جماهيرية أندية الناس العباد ( الغلابة / الزوالي) وبين اعتبارها “دولة”. تلك الكلمة المشحونة بظلال الصلة الأوثق بالسلطة والحكام و” القطط السمان” و”ديناصورات السياسة “.
وفي هذا السياق تنبهت إلى أن فرق كرة قدم شعبية طالما كانت هدفا لسطوة الطغاة. وفي النادي الملكي الأسباني “ريال مدريد” خير مثال خلال عهد الدكتاتور “فرانشسكو فرانكو”. كان ناديه المفضل في أوج تفوق وتألق فريقه لكرة القدم زمن نجومه “بوشكاش” و”دي استيفانو”و ” خنتو” بين عقدي الخمسينيات والستينيات بالقرن العشرين. وكذا كان حال ديكتاتور شيلي ” أوجستو بينوشيه” الذي فرض نفسه على رئاسة أوسع الأندية شعبية في بلاده ” كولو كولو”.
.. أقول ربما كان “بيليه” خائفا بدوره على حياته وعائلته وموهبته من دكتاتورية جنرالات البرازيل .
أقول ربما.
.. لكني على يقين بأن هذا الصبي الذي كنته في عام 1972، كان على وعي بأن بيليه شديد القرب من انحيازاته وميوله الاجتماعية. وقريب جدا هنا منا في مصر والوطن العربي وأفريقيا .
…
كنت أعلم أنه عانى في طفولته من الفقر والحرمان، وأنه اشتغل ماسحا للأحذية في شوارع مدن البرازيل.
لعلني كنت حينها وقبل أن يلعب على استاد (ناصر / القاهرة) ويسجل هدفيه الساحرين المشفوعين في الذاكرة بآهات صوت كابتن “لطيف” المميز المحبوب أراه في المعاناة والحركة الدائمة الدؤوبة للكثير من الأطفال ماسحي الأحذية في شارع “التروماي” بالعباسية بين عقدي الستينيات والسبعينيات. وهم يتنقلون بصناديقهم وجلاليبهم المتسخة الممزقة بين ضفتي الشارع الوسيع أمام بيت تسكنه جدتي لأمي.وهذا بينما كنا نقرأ في مدارسنا الحكومية عن “ثورة ” و”دولة ” ترفعان شعارات “الاشتراكية” و” الديمقراطية الاجتماعية” و”تحالف قوى الشعب العامل ” و” تذويب الفوارق بين الطبقات” و”إرفع رأسك يا أخي”.. الخ.
.. و ظل الأطفال ممسكين بذاكراتي لليوم يتنقلون أمامي بحثا عن زبون ( بيه ) قد يتوقف ليلمع حذاءه، مخاطرين بحيواتهم البائسة المعذبة بالقفز أمام وبين وعربات ” التروماي” المسرعة.
ولا أعرف هل شاهدت فيلما في دار للسينما بعنوان “ماسح الأحذية” قبل قدوم بيليه للقاهرة أم كان هذا بعده بقليل؟. وربما كان الفيلم للمخرج الإيطالي ” فيتريو دي سيكا”.
.ربما ..
كل ما أتذكر اليوم عن هذا الفيلم أنه كان كنقل وبث مباراة “سانتوس” و”الأهلى” بالأبيض والأسود، وأنني خرجت من السينما باكيا غاضبا.
…
بعدما علمت صباح اليوم 30 ديسمبر 2022 ومن القاهرة برحيله عن 82 سنة، تمعنت فيما أدرك الآن بأنه لعب لعلم البرازيل وعمره 15 أو 16 سنة، وأنه يكبرني بنحو 18 سنة فقط. ومع هذا استطاع أن يمتعني ويبهرني وجيلي على بعد آلاف الأميال ومن القاهرة.
…
رحم الله بيليه
كان من رموز عالم الستينيات والسبعيينات
التي تعلقنا بها مع “محمد على كلاى ” و” إرنستو تشي جيفارا” و”بن بركة ” “وبن بله” و”جورج حبش” و” عرفات”.
واسماء فدائيات وفدائيي الثورة الفلسطينية بلا حصر.. وأيضا “مانديلا”.
كان هذا هو بالنسبة لي عصر الجماهير التي تملأ ساحات السياسة وملاعب كرة القدم.
..
وفي ليلة وفاة بيليه كنت أشاهد ملاعب تكاد تخلو من الجمهور في مباراة محلية تنقلها قنوات التلفزيون. وفي الصباح عندما علمت برحيله واستعنت بتكنولوجيا عصر ثورة معلومات القرن الحادي والعشرين في مشاهدة ” فيديوهات” على شبكة الإنترنت عن مباراة “الأهلى” و”سانتوس” على استاد ( ناصر / القاهرة) 1972 ألحت على الذهن عبارة لـ “جاليانو” في كتابه، تقول :
” يعرف اللاعبون بدورهم بأن اللعب بدون تشجيع أشبه بالرقص دون موسيقي”.
.. وحينها قلت لنفسي: رحم الله بيليه لعله استمع هو أيضا بقدر ما أمتعنا.
6m