كارم يحيى يكتب: يابلد “السيتسم واقع”.. مع دعوة لإعادة السند الورقي لشهادة البنك
بعد التعويم الأخير للجنيه المصري والإعلان عن شهادات جديدة في بنكي “الأهلى” و” مصر”، ذهبت إلى فرع البنك الأقرب الذي أودعت فيه كل مدخراتي. ولعل وعسى أن يسترني عائدها الشهري مع المعاش الهزيل بعد الستين.
الزحام يفوق ما عرفت وعشت طوال علاقتي مع هذا البنك منذ مطلع التسعينيات. صغار المودعين كحالي في حيرة. صحيح الجميع مذهولون “مخضوضين” من انخفاض قيمة الجنيه، ومعه ارتفاع جديد لأسعار السلع الضرورية الأساسية. لكنهم حيارى تائهين بين سحب مدخراتهم وشراء ” أي شئ” على أمل أن يحفظ القيمة وبين تغيير الشهادات ذات العائد الشهري الأقل ذات الثلاث سنوات بالجديدة شهريا أيضا ، لكن لعام واحد. ولا يعلم أي كان : وماذا بعده ؟.
الكل في مواجهة المجهول مع الغلاء. ولا أحد في قراره هذا أو ذاك عنده قدر من اليقين بالآتي. لكن البيانات الرسمية تعلن بفخر وارتياح وثقة عن بيع بمليارات الجنيهات كل يوم للشهادات البنكية الجديدة ذات العائد السنوي الأعلى، وإلى 18 في المائة. وهي في كل الأحوال، لا تقول كل المعلومات وماتبقى من حقائق. فلا أحد يعلم ـ وربما لايحق له أن يعلم ـ ماهي قيمة الشهادات التي قام أصحابها بكسرها لشراء الجديدة؟، وكم من المبالغ تم سحبها من البنوك بعد التعويم الأخير ؟.
كنت بدوري قد اتخذت قراري وتوكلت على الله أن أكسر الشهادات التي لم يمر على شرائها سبعة أشهر فقط، وأجل استحقاقها هو ثلاث سنوات وبعائد سنوي 11 في المائة. هكذا حسبتها قبل أن اتوجه إلى البنك في الصباح الباكر، فيفاجئني كل هذا الزحام. واكتشف أمام موظف البنك بأنني سأخسر 70 في المائة من عوائد السبعة أشهر السابقة. أي إنني سأفقد من مدخراتي في هذه الشهادات مبلغا أنا في غنى عن ضياعه ، وسأقنع بفائدة لاتتجاوز 3 في المائة سنويا عن الفترة السابقة مقابل احتباس ما أدخرت لسنوات ما بعد الستين العجاف.
أربكني هذا الاكتشاف، لكن ” ما باليد حيلة”. فعلتها كغيري “كسرت واشتريت”، وبأفق عام واحد ليس إلا، و”الله أعلم بماذا بعد؟ “. ولفت نظري اعتذار موظف البنك بأن ” السيتسم واقع “. وهكذا فهمت منه أن ” سيستم ” البنك للشراء معطل، وأن علينا إتمام عملية شراء الشهادات الجديدة عبر حسابي الشخصي الإلكتروني على موقع البنك. وهو الذي غالبا لا يفتح عندي. ربما بسبب أعطال الموقع ذاته، أو ضعف الإنترنت في منزلي.
وعلى أي حال، فقد كنت محظوظا وفق ماقال الموظف فتمت العملية وبسرعة عبر حسابي الإلكتروني. ومن باب “برو العتب” مع النفس، سألته قبل أن أغادر هل يعطيني سندا ورقيا بالشهادات الجديدة؟، فأجابني وكما توقعت :” ما حضرتك عارف يا أستاذ ما بنطلعش ورق للعملا من سنتين وزيادة”.
وحتى لا أهدر وقت عملاء كثيرين آخرين في الانتظار، امتنعت عن محاججته بأهمية السند الورقي كدليل مادي على شراء الشهادة البنكية بالنسبة للمتقدمين في العمر من أمثالي ولورثتهم، وبأن البنك نفسه يتعامل معنا بأوراق لا نحتاجها ويخصم مقابلها مبالغ غير مناسبة ومغالى فيها كمراسلاته بالبريد بشأن بحركة حساباتنا كل شهر أو ثلاثة أشهر، وكما يرى ويشتهى. كما كان بإمكاني أن أكرر على مسامع موظف البنك حججا بلا نهاية عن عدم الثقة في ضمان الحقوق المالية لدى البنوك بالتعويل على بيانات إلكترونية في بلد كمصر. وهكذا وصولا إلى ماقاله هو بلسانه لي للتو عن أن ” السيستم واقع”.
ولأنه بالأصل لا فائدة في أي محاججة أو مطالبة أو جدال، فقد غادرت في صمت الزحام والبنك، و” العوض على الله”. غادرت وأنا أمشى مع حلم يقظة بأنني أنشر في الجريدة التي كتبت وعملت بها منذ منتصف الثمانينيات داعيا لإعادة السند الورقي على شهادات بنوك الدولة رحمة بصغار المودعين وورثتهم.
واتجهت إلى مكتب شركة الهاتف المحمول لأجدد الباقة الشهرية. وهناك ردني عامل الاستقبال قائلا :” معلش يا أستاذ السيتسم واقع”. ولما كنت أحمل معي في هذا الصباح جوابا موجها إلى هيئة حكومية أريد إرساله كبريد مسجل، فقد توجهت بعدها إلى مكتب هيئة البريد المصري. لكن الموظف أخبرني بعدما قمت بكل الإجراءات المطلوبة وأضواء شاشة كومبيوتر المصلحة الزرقاء تنعكس على وجهه وعدسات نظارته بأن ” السيستم واقع “. وقنعت بالنتائج . وهذا لأنه بالأصل لافائدة من مراسلة هذه الجهة الحكومية ولا أمل في أن ترد أو تستجيب. لكن هكذا أفعالنا تأتي أحيانا وكأنها “برو عتب” مع النفس، وكما قلت سابقا.
.. إلا أنني وجدتني أقول للموظف هذه المرة مبتسما :
ـ ” صحيح .. يا بلد السيستم واقع .. بس ما تقولش لحد”.
الحرية لكل سجناء الرأي والصحفيين , الحرية لشبابنا وكهولنا المحبين لمصر,الحرية غذاء يعلو من قيمة الوطن ويحصنه