كارم يحيى يكتب: معركة المحامين التونسيين ضد زيادة الضريبة واللحظة المصرية.. المكتسبات والخسائر والانتخابات الأخيرة (2 ـ 2)
أصاب عميد الهيئة الوطنية للمحامين بتونس الجديد الأستاذ “حاتم المزيو” حين صرح لوسائل الإعلام في بلاده يوم 8 ديسمبر 2022 بأن أي زيادة في الضرائب على زملائه ستؤثر على المواطن ” الحريف” ( المقصود الموكل أو زبون المحامي) بالدرجة الأولى. وأضاف إن عمادة المحامين تريد الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد، وأشار إلى تواصلها مع وزيرة المالية ، لكنها لن تتوانى عن خوض العديد من التحركات الاحتجاجية.
وهكذا يأتي هذا التصريح امتدادا لبيان مجلس الهيئة بتاريخ 2 ديسمبر 2022 المنفتح على معاناة المواطنين التونسيين وهمومهم، والناقد للاتفاق الأخير مع صندوق النقد الدولي، وعواقب سياساته كرفع الدعم عن سلع أساسية وخصخصة شركات عامة.
أعباء التقاضي
في تونس
و تبين لي بعد سؤال عدد من المحامين التونسيين، وبينهم المحامي المخضرم الصديق الأستاذ ” محمد الجلالي” بسيدي بوزيد، أن تونس لاتعرف لليوم تقريبا رسوما يدفعها المتقاضون عند رفع الدعاوى أمام المحاكم، تيسيرا لحق المواطن في التقاضي. وهذا على خلاف الحالة المصرية حيث زادت هذه الرسوم في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، وعلى نحو يهدد هذا الحق. كما أبلغي “الجلالي” في الوقت نفسه بجانب سلبي يتمثل في ارتفاع عدد الدعاوى المرفوعة أمام مختلف المحاكم إلى متوسط نحو 3 ملايين دعوى في العام، ما يعد رقما مرتفعا بالنسبة لسكان يقدر عددهم بنحو 11 مليون نسمة، بينهم نحو 7 ملايين بالغ يحق له التقاضي. وفي رأي ” الجلالي” فإن هذا الارتفاع يعكس تدهور العلاقات الاجتماعية وسهولة اللجوء إلى القضاء معا.
وثمة دراسة لـ”مركز دعم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان بتونس” صدرت عام 2021 بعنوان ” الولوج إلى العدالة في تونس: الأطر والإشكالات” تفيد أيضا بأن اللجوء للقضاء مجاني (ص 34 و 35) . وتشير الدراسة المتاحة على شبكة الإنترنت إلى جملة نصوص قانونية تعزز الحق في إنابة أو توكيل محام مجانا في حال ما كان المتقاضي عديم الدخل، وذلك من خلال “مؤسسة الإغاثة العدلية”. لكن في كل الأحوال كان بإمكاني أن ألاحظ خلال فترة إقامتي بتونس مراسلا “للأهرام” بين 16 و 2018 بطء إجراءات التقاضي وحسم المنازعات، وصعوبات تنفيذ الأحكام، وذلك على غرار الحالة المصرية. وهو مانبهت إليه أيضا دراسة “دعم” في سياق عراقيل ” الولوج للعدالة” هناك.
مكتسبات
الثورة المهدرة
في تونس بعد الثورة جرى إصدار قانون جديد بمرسوم للمحاماة في عام 2011 يحمل رقم 20.ويعد في رأي العديد من المحامين أكثر تقدما من السابق عليه في عام 1989. لكن عمادة المحامين التونسيين تقدمت في عام 2018 بمشروع قانون يتضمن مكاسب أكبر للمهنة ولأعضائها، ومن بينها ما إعطاء امتيازات ضريبية للمحامين الشبان، وتوسيع ولاية المحامين وجوبا على معاملات كإبرام العقود وغيرها ( ويمكن العودة بهذا الشأن إلى مقال كريم المرزوقي ، بين مرسوم 2011 ومشروع العمادة 2018 .. الجديد في تنظيم مهنة المحاماة، موقع المفكرة القانونية الإلكتروني، 7 يناير 2021). وفي تقييم الباحث ” إريك جوب” في كتابه ” المحامون في تونس من الاستعمار إلى الثورة 1883 ـ 2011″، و الذي أشرنا إليه في الجزء الأول من هذا المقال، فإن المرسوم بقانون رقم 20 ” يعد تتويجا لنضالات المحامين المستقلين والمعارضين للسلطة وثمرة نضال سياسي”.
مكاسب المحامين التونسيين بعد الثورة تستمد أساسا ومعها انتظارات القانون المأمول من نص الفصل 105 من دستور 2014، والذي عزز إلى حد ما في الممارسة حصانة المحامي ومرافعاته أمام المحاكم والقضاة. وتنص هذه المادة على أن ” المحاماة مهنة حرة مستقلة تشارك في إقامة العدل والدفاع عن الحقوق والحريات. يتمتع المحامي بالضمانات القانونية التي تكفل حمايته وتمكنه من تأدية مهامه”. وعلى هذا النحو جرى “دسترة” المحاماة والمحامين، وبعدما كان الدستور التونسي السابق لا يأتي على ذكرها. وفي الممارسة العملية سمح ويسمح هذا النص الدستوي بحماية المحامي في مرافعته ومذكراته من ملاحقات وعقوبات بدعوى إهانة القاضي والقضاء، وعلى نحو لم يكن قائما من قبل. ولقد روى لي المحامي والباحث الشاب الأستاذ ” كريم مرزوقي ” (*) على سبيل المثال مرور وصف محام لقاض في مرافعته أمام المحكمة العلنية بأنه ” قاضي يأتمر بتعليمات السلطة، و دون أن يتعرض لملاحقة أو عقاب.
ويضاف إلى هذا مكسبان آخران بعد الثورة. الأول .. هو تمثيل المحامين للمرة الأولى في المجلس الأعلى للقضاء وبالانتخاب مباشرة من مجتمعهم، وذلك بثمانية محامين من إجمالي أعضاء المجلس المشرف على شئون القضاء العدلي والإداري والمالي البالغين 45 عضوا. والثاني ..ما يمكن اعتباره التمثيل اللافت للمحامين على رأس هيئات مستحدثة للدولة التونسية مؤثرة في الانتقال إلى الديمقراطية، ومنها على سبيل المثال “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد “، والتى ترأسها على التوالي الأساتذة ” عبد الفتاح عمر” رحمه الله و” سمير العنابي” و”شوقي طبيب”، وجميهم من المحامين. بل كان الأخير عميدا سابقا لهيئتهم.
لكن المكتسبات المشار إليها سابقا أطيح بها أو أصبحت مهددة بإجراءات فوقية من الرئيس “قيس سعيد” منذ بدء مسار 25 يوليو 2021. فقد ألغى دستور 2014 واستحدث في 25 يوليو 2022 آخر من عندياته أسقط منه أي نص يتناول المحاماة معيدا المهنة وأصحابها إلى ماكان من غيا ب وتجاهل في دستور ما قبل الثورة. كما ألغى في 6 فبراير 2022 المجلس الأعلى المنتخب للقضاء بدعوى أن الانتخابات جاءت بـ ” المحاصصة السياسية والحزبية”، وعين بنفسه مجلسا مؤقتا يغيب عنه أي تمثيل للمحامين. وجاء “دستور الجمهورية الجديدة” لقيس سعيد بمجالس عليا للقضاء لكل من العدلي والإداري والمالي وحسب. وترك للقانون لاحقا كيفية تشكيل هذه المجالس من دون مظلة مجلس أعلى جامع لها ( الفصل 119). وفضلا عن هذا حول القضاء من “سلطة مستقلة” إلى “وظيفة مستقلة” ( الفصل117). وعلاوة على هذا وذاك، ألغى التمثيل المقرر للمحامين في المحكمة الدستورية، والتي تسببت الصراعات الحزبية خلال وجود البرلمان بين 14 و 2021 في تعطيل تشكيلها، وقبل أن يسهم بدوره الرئيس ” سعيد ” نفسه في هذا التعطيل بنصيب مقدر.
عهد و”مآثر” العميد
السابق” بودربالة”
وتجاه انقضاض رأس السلطة التنفيذية على هذه المكتسبات وكذا إقالتة 57 قاضيا في 2 يونيو 2022، وقف عميد المحامين السابق “إبراهيم بودربالة” خلال ولايته مؤيدا وظهيرا للرئيس “قيس سعيد”، ومن موقع الموالاة المطلقة، وإما بالصمت أو بإعلان التأييد. ولقد ظل “بودربالة ” إلى جانب ” الرئيس” إلى الثمالة لتمرير الدستور الجديد، و بعدما شارك للنهاية في اللجنة التي عينها لوضع الدستور، ودون أن يحصل على موافقة من مجلس الهيئة. وبينما خرج رئيس اللجنة ذاتها الأستاذ “الصادق بلعيد” ليكشف عن إدخال الرئيس ” سعيد ” تعديلات وصفها بأنها “خطيرة وتؤدي إلى حكم ديكتاتوري” على مشروع الدستور الذي قدمه، استمر “بودربالة ” في موالاته للنهاية.
طوال هذا المسارالذي يصفه تونسيون معارضون ومستقلون بـ “الإنقلابي” لم يصدر عن الهيئة الوطنية للمحامين بتونس بيانات باسم مجلسها. بينما اجتهد العميد ” بودربالة ” في إطلاق سيل من تصريحاته المؤيدة. وربما غلب الصمت والترقب على المجلس مجاراة لتيار مؤثر كان في الشارع والإعلام يهاجم ما كان قبل 25 يوليو 2021 ويصفه بـ ” العشرية السوداء”. وهذا بصرف النظر عن مصداقية وصحة هذا المصطلح وعواقبه التي تحيل إلى اعتبار ما كان قبل الثورة أفضل مما جاء بعدها على مستوى الحريات وبناء الديمقراطية.
إلا أنه في العديد من المحطات، برزت معارضة بين المحامين لما اعتبروه إنقضاضا على مكتسباتهم الدستورية و الحريات والحقوق وتقويضا لاستقلال القضاء والقضاة وهدما لبناء مؤسسات الدولة بشق الأنفس خلال مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية. وثمة في هذا السياق، مواقف تخالف وتنتقد العميد “بودربالة” من الجمعية التونسية للمحامين الشبان. وأيضا بيانات لعشرات من المحامين بعد اجتماعاتهم بمقر تنظيمهم النقابي ” دار المحاماة ” ذاته، وكما في بيان ناقد في 7 فبراير 2022 لتصريحات من وصفوه ” برئيس سلطة الانقلاب” من داخل مقر وزارة الداخلية ليلا بحل المجلس الأعلى للقضاء.
واللافت في هذا السياق ، ما نبهني إليه المحامي والباحث الشاب “كريم ” في محادثة طويلة بشأن المواقف المتميزة لكل من عميد فرع تونس العاصمة الأستاذ “محمد الهادفي ” ومثيله في فرع سوسة الأستاذ ” هشام عبد الله” و المعارضة لإجراءات الرئيس “سعيد” التي تسحب مكتسبات المحامين بعد الثورة والناقدة أيضا للمواقف الموالية للعميد ” بودربالة”. وتكمن أهمية فرع تونس في أنه يضم نحو نصف المحامين بالجمهورية التونسية وبالهيئة الوطنية للمحامين. وبالفعل صدرت بيانات من مثل هذه الفروع تختلف مع موالاة “بودربالة” لرأس السلطة التنفيذية وتعارض استهدافه لاستقلال القضاء والقضاة.
والواقع أن الخلاف في المواقف مع التعبيرات المتباينة عن هذا الخلاف امتد أيضا إلى تخلي العميد ” بودربالة ” عن تقديم الدعم القانوني والنقابي لمحامين أصبحوا أمام المحاكم العسكرية أو غيرها على خلفية الاختلاف السياسي مع السلطة التنفيذية . وهنا على نحو خاص يحضر الموقف من إصدار حكم بالحبس من قاضي عسكري على عميد المحامين الأسبق الأستاذ ” عبد الرزاق الكيلاني”.
وفي تفسير ” المرزوقي” لخط ” بودربالة” يقول بأنه معروف منذ عقد السبعينيات بأنه من ” القوميين العروبيين الموالين للسلطة ورئيسها” وأنه كان مواليا للرئيس المخلوع ” زين العابدين بن على”. وهذاعلى خلاف طراز مختلف من “القوميين العروبيين المعارضين أو المستقلين” كالعميد الأسبق ” البشير الصيد” ممن أسهموا في الدفاع عن الحريات والحقوق.
ولعل من “مآثر” العميد ” بودربالة” أنه زاد فوق كل هذا التمديد في ولايته لشهرين إضافيين ودعا للانتخابات في سبتمبر 2022 ، وحتى يمر استفتاء “قيس سعيد” المثير للجدل والخلاف في 25 يوليو على الدستور الجديد.
من نتائج
انتخابات سبتمبر
جاءت انتخابات الهيئة الوطنية للمحامين بتونس بالأستاذ ” حاتم المزيو” عميدا جديدا، وهو من شغل في التركيبة القيادية السابقة منصب “الكاتب العام” .. أي المنصب الثاني بعد الأستاذ “بودربالة”. وكان قد خاض جولة ثانية في مواجهة الكاتب العام الذي يسبقه الأستاذ “بو بكر ثابت”. وكلاهما محسوب على عائلة “القوميين العروبيين” أيضا، ولكن بمعناها الواسع غير الملون بالانتماء لحزب معين . فيما حل ثالثا الأستاذ “محمد الهادفي” اليساري الذي يقالإنه مدعوم من “النهضويين” ( نسبة إلى حزب النهضة الإسلامي) عميد فرع العاصمة وأبرز رافعي لواء الدفاع عن الحريات والحقوق بين قيادات المحامين بعد 25 يوليو،وبنحو 500 صوت مقابل 1400 للأول و1230 للثاني.
ويفسر “كريم” نجاح ” المزيو” بكونه استطاع الظهور بأداء إنساني متميز في إغاثة وإعانة زملائه المحامين خلال محنة جائحة “كوفيد 19/ كورونا”. كما أنه على الرغم من تجنبه المجاهر بصدام مع ” بودربالة” حتى تردد انه مدعوم منه في الانتخابات، إلا أن العميد الجديد استطاع كذلك أن يكسب من بين صفوف ما أصبح يسمى بعد الثورة بـ “التيار المهني المستقل ” بين المحامين والعابر والمتجاوز للكتل الأيديولويجة من قوميين عروبيين ويساريين وإسلاميين وتجمعيين ( نسبة إلى حزب التجمع الحاكم في عهد بن علي وقبله بورقيبة).
ومن نتائج انتخاب الـ 14 عضوا مركزيا في انتخابات 14 سبتمبر 2022 استمرار 4 في تركيبة مجلس الهيئة ضمن 8 ترشحوا له، ونجاح ما بين 3 و4 محسوبين على ” إسلاميي النهضة”. وإذا كان ” المرزوقي ” في مقاله بـ ” المفكرة القانونية” الذي أشرنا إليه في الجزء الأول قد كتب عقب هذه الانتخابات مباشرة أن العميد الجديد ومجلسه سيكون أمام خيارين : إما مواصلة الخضوع لهيمنة السلطة التنفيذية على خط العميد السابق “بودربالة” أو الانتصار لرسالة المحاماة واستعادة دورها الوطني وفي الدفاع عن الحريات والحقوق وتصحيح البوصلة، فإن ” المزيو” سرعان ما أظهر مؤشرات على اختلاف لافت، وذلك حين انضم للدفاع عن العميد الأسبق “الكيلاني” على خلاف الموقف السلبي لسلفه.
كما يظل تقييم المحامي والباحث الشاب ” كريم”خلال الحوار الخاص معه مهما بشأن عميد فرع تونس العاصمة الجديد الأستاذ “العروسي زقير” حين قال :” هو من التيار المهني غير الأيديولوجي بالأساس، لكن له مواقف حقوقية مبدئية”. وكذا بشأن تقديره لأن غالبية مجلس الهيئة الوطنية للمحامين الجديد يختلف عن خط “بودربالة”. وفي هذا السياق، يتعين الإشارة إلى أن الكاتب العام الجديد للهيئة الأستاذ ” حسان التوكابري” وإن كان بين المجلس السابق، إلا أنه كانت له تصريحات علنية ضد المشاركة في لجنة دستور “قيس سعيد” .
مصاعب مالية ومعيشية
قد ينطبق على المحامين حال معظم المواطنين التونسيين الذين يشكون من أن سنوات بعد الثورة التي جاءت بالحريات لم تغير كثيرا من واقع معاناتهم الاقتصادية والمعيشية. وبالطبع كما في الحالة المصرية تتفاوت أحوال المحامين في هذا الشأن، وخصوصا مع تحولات التسعينيات التي أشرنا اليها سابقا وبروز ظواهر “السمسرة” و ” شركات المحاماة ” التي تتعامل مع الأجانب، ناهيك عن تطور نوعية الجرائم الاقتصادية، وبخاصة تلك التي يتورط فيها رجال أعمال من الوزن الثقيل. ولاشك أن ظلال وباء “كوفيد 19/كورونا ” ألقت بسلبياتها على أوضاع قطاع كبير من المحامين، والذين وجدوا أنفسهم أمام “موسم قضائي هزيل”. وهذا وإن كانت هيئة المحامين قد صرفت إعانة شهرية لشباب المحامين ( نحو 200 دينار تونسي )، وهو في كل الأحوال مبلغ ضئيل.
ووفق ما قال لي المحامي الشاب “كريم ” فإن موارد التنظيم النقابي للمحامين تمر بأزمة على الرغم من الطوابع والتمغات التي يجرى تحصيلها إجباريا في المحاكم. وهناك عجز مزمن في أموال “صندوق الحيطة والتقاعد” في ظل كون الهيئة الوطنية للمحامين لاتتلقي أي دعم حكومي أو من الدولة. وهذا العجز يتسبب في ضعف وتأخر خدمات العلاج والأدوية والنمو البطئ لجراية التقاعد (المعاش النقابي)، والتي تقدره بنحو 1800 دينار تونسي لمن عمل لنحو 30 سنة سنة أو أكثر بالمهنة.
أزمة الضرائب الأخيرة
في خلفية الأزمة الراهنة بين المحامين والحكومة في تونس مشروع قانون المالية الجديد لعام 2023، وما يتسرب عن أنه يزيد من الأداءات ( الضرائب ) وتحديدا ضريبة القيمة المضافة من 13 إلى 19 في المائة على أصحاب المهن الحرة. وبالطبع هناك ضغط على الحكومة التونسية جراء الأوضاع الاقتصادية المأزومة و والتزامات تعهدت بها لصندوق النقد الدولي ومع الاتفاقية الجديدة منتصف أكتوبر 2022.
لكن أزمة هذه المرة وعلى خلاف السنوات السابقة تتميز بأنها تأتي في ظل غياب البرلمان الذي كان ـ وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة له ـ يناقش بجدية واستفاضة قانون المالية والميزانية وينجح في إدخال تعديل على بعض بنوده. وأيضا تأتي الأزمة هذه المرة مع غياب الشفافية التي كانت تصحب عمل الحكومة والبرلمان، وحيث ظلت جلسات مجلس نواب الشعب علنية مذاعة على الهواء مباشرة في التلفزيون الوطني دون رقابة وحتى إغلاقه وتعطيله وحله . ولذا فإن الحديث والحجج المعتادة المتعلقة بإتهام العديد من المهنيين ـ وبينهم أهل مهنة المحاماة ـ بـ “التهرب الضريبي” قد تبدو هذه المرة أقل اقناعا للمهنيين المتضررين من زيادة الضرائب. وبلاشك فإن التهرب الضريبي حقيقة، لكن السؤال هنا هو : ألا تؤدي زيادة الضرائب إلى المزيد من هذا التهرب؟.
وفي تونس، فإن المحامي كما في مصر والعديد من دول الجنوب لايخضع لرقابة ضريبية فعالة وقوية. لكن من جانب الآخر ، فإن المشكلة الأكبر هي في تهرب “الحيتان الكبرى “، وبخاصة من فئة “رجال الأعمال المحاسيب ” الذين يتمتعون بعلاقات مع رجال الدولة وسلطاتها. بل والمشكلة الأخطر تكمن في هذا الشعور العام بغياب ” العدالة الضريبية ” أولا وبالأصل .
في مرات عديدة سابقة وبعد الثورة، نجح المحامون وغيره من أرباب المهن الحرة بتونس في الانتصار إزاء مواجهة محاولات حكومات متعاقبة فرض زيادات في الضريبة سيتحملها المواطن في النهاية. لكن في هذه المرات السابقة، كانت مساحة الحريات أوسع، وكان هناك برلمان يناقش مشروعات الحكومة المالية ويدخل تعديلاته عليها، وخصوصا وأن دستور 2014 الملغي حاليا كان يقضى بأن ترأس المعارضة لجنة المالية في البرلمان . وفوق هذا وذاك، فإن الانتخابات التشريعية القادمة في 17 ديسمبر الجاري 2022 على الأرجح ستفسر عن “برلمان” أقل توافقا ومصداقية مع قاعدة “لا ضرائب بدون تمثيل”.
ومع هذا، فإن وعي وخطاب الهيئة الوطنية للمحامين بتونس المنفتح على قضايا وهموم المواطنين المعيشية من شأنه مع ماتبقى من هوامش حرية التعبير والصحافة أن يرجح تجاوز هذه الأزمة أيضا بأقل قدر من الخسائر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) “كريم المرزقي” محامي وباحث وكاتب تونسي شاب عمل من قبل في ” هيئة الحقيقة والكرامة ” المكلفة بملف العدالة الانتقالية بتونس بعد الثورة. وخلال إقامتي بتونس كمراسل “للأهرام” بين عامي 16 و 2018، وقد تصادف أن إنطلق افتتاح الجلسات العلنية لضحايا الاستبداد والفساد التي نظمتها الهيئة مع بداية هذه الإقامة. وحينها تعرفت على “كريم” وإخلاصه لقضايا الحقوق والعدالة الانتقالية، والتي للأسف اعتور مسارها سلبيات وعقبات من داخل الهيئة وخارجها حالت دون تحقيق الأهداف المنتظرة منها. لكن علاقتي لم تنقطع بهذا الشاب بعدما انتقل للعمل والتفرغ للمحاماة في بلاده مع مواصلة اهتمامه بالشئون العامة . ويدين هذا المقال ، وبخاصة هذا الجزء الثاني، بالفضل لحوار طويل دار بيننا على البعد وأنا في القاهرة يوم 4 ديسمبر 2022 ، فضلا عن كتاباته وإسهاماته، ومن بينها مقالان له تحت عنواني : ” هل تعود المحاماة لدورها في صد التسلط ؟” ، المنشور بموقع ” الأجندة القانونية، بتاريخ 10 سبتمبر 2022 ، و” قراءة في انتخابات هيئة المحامين : هل تعود المحاماة الرسمية إلى الجادة ؟، المنشور في موقع” أولتراس تونس” بتاريخ 14 سبتمبر 2022