كارم يحيى يكتب : كفى إهدارا لأعمار وحقوق الصحفيين.. فصل آخر مع لجنة القيد

أعرف .. أعي وأشعر ..
أعرف جيدا ماذا يعني حرمانك سنة تلو اخرى من الالتحاق بعضوية نقابة الصحفيين المصريين، الوحيدة التي تحتكر تمثيل المهنة في البلد. وهذا في انتهاك صارخ لمبدأ وحق التعددية النقابية. وهي من بين مبادئ وحقوق إنسانية كونية مضمنة ومضمونة في اتفاقات ومعاهدات وقعت عليها الدولة المصرية منذ عقود.
فأنا من جيل لم يلتحق العديد من الدارسين الموهوبين بينه بالنقابة لسنوات طوال. بل وغادر بعضهم المهنة تماما. وهم كانوا الأكثر استحقاقا. وهذا فيما كانت نقابة الصحفيين فاتحة ذراعيها بالأحضان متلهفة لكل صاحب “واسطة” وحظوة، ولكل “طيع مطيع” على دين “نافق رئيسك الذي ينافق الرئيس”. ولم يكن يستغرق قبول هؤلاء إلا بضع شهور وربما أسابيع طالما كانوا من ” المرضي عنهم “.
شخصيا تخرجت من كلية الإعلام جامعة القاهرة (قسم صحافة ) في نهاية عصر الرئيس السادات ..وتحديدا صيف 1980. ومع إنني لم أمارس إلا هذه المهنة وكنت منذ سنواتي الباكرة فيها أجيد الترجمة الصحفية من الإنجليزية، إلا أن النقابة لم تقبلني عضوا ” تحت التمرين ” .. هكذا إلا في عام 1994 . أي بعد 14 عاما بالتمام والكمال . تنقلت خلالها بين صحف عدة .

وأعترف أنني ربما اتحمل جانبا من مسئولية هذا التأخير لكوني استقلت في بداية حياتي المهنية من جريدة ” الأهالي ” ـ قرب نهاية عام 1982 غير مكترث بأنني كنت قد تقدمت بأوراق الالتحاق بالنقابة. وإن ظللت على قناعة ـ وإلى اليوم ـ بالموقف الذي اتخذت ( الاستقالة) دفاعا عن طبيعة العمل الصحفي و تميزه عن قيود ” الوظيفة البيروقراطية” وتمرده على مايشتم منه شبهات علاقات استتباع وخضوع . فإلى جانب أثر ” الواسطة ” في عهد “مبارك” المديد على تركيبة جداول عضوية نقابة الصحفيين كانت وظلت هناك قاعدة أخرى حاكمة مكملة لهكذا فساد. وأقصد بها تلك ” الورقة ” الصادرة عن رئيس التحرير أو رئيس مجلس الإدارة التي تطالب بها النقابة المتقدمين لجدول المتمرنين أو المنتقلين إلى جدول المشتغلين كشرط لازم للقبول . وفي هذا ما يكرس ” صناعة الصحفي الطيع المطيع “، ويجعل الباب مفتوحا فقط أمام هذه النوعية من الصحفيين إلا من رحم ربي. وفي هذا وذاك ـ على ما اعتقد ـ ما حرم المهنة من مستحقين لعضوية النقابة من خيرة أجيال عديدة ممن يتميزون بالاستقلالية ..وهي جوهر وروح مهنتنا.

واقع الحال أن أبعاد التخلف كثيرة في قضية القيد بنقابة الصحفيين المصريين. لا يتعلق الأمر وحسب بالعدوان على مبدأ وحق وحرية التنظيم والتعددية النقابية بنص في الدستور يناقض نصا آخر، وبالمحاكم والبوليس وبالتحريض في الجمعيات العمومية وبيانات مجالس النقابة.

ولا تقتصر أبعاد التخلف أيضا على أن تسكن نقابة الصحفيين وعلاقات العمل الصحفي أخلاقيات ( ماقبل النقابات )، و كما هي كانت في القرون الوسطي في طوائف الحرف ( المعلم/ الأسطى والصبيان ). بل تمتد أبعاد هذا التخلف وحتى اليوم إلى عدم الاعتراف بصيغة ( الصحفي الحر / الفري لانسر ) الذي يسوق انتاجه حيثما شاء واستطاع دون الارتباط بعلاقة عمل دائمة مع صحيفة أو مؤسسة بعينها . وكذا عدم الاعتراف بالتطور الحاصل في صحافة العالم وعندنا نحو الصحافة الالكترونية دون الورقية، وبعيدا عن تصنيفات الإصدار اليومي والأسبوعي والشهري المعتمدة حتى اليوم في نقابة الصحفيين المصريين .

نظرة وبدون الدخول إلى التفاصيل نحو قضية قيد الصحفي في قانون النقابة رقم 76 لسنة 1970 ( وبخاصة المواد من 13 ـ 20) وأيضا إلى لائحة القيد المنشورة على الموقع الإلكتروني لنقابة الصحفيين المصريين ( تتكون من 31 مادة) تعزز الاستنتاجات السابقة. كما تضيف إليها ماهو ملحوظ ويدعو للأسف والاستغراب من نزوع إلى التأكيد ـ رغم مرور الزمن ـ على كأن النقابة اتحادا بين الصحف أكثر منها اتحادا للصحفيين بحكم المبدأ أن العضوية فردية وليست جماعية. هذا الداء الكامن في إنكار حق ( الصحفي الحر / الفريلانسر ) في التقدم لعضوية النقابة يمتد ويترسخ مع لائحة القيد ( تعود إلى عام 2015 ) في العديد من المواد والاشتراطات. ومن بينها هذه الاشتراطات المفروضة على علاقة الصحيفة بالنقابة (مالية وغير مالية) كي يجري فتح الباب أمام الصحفيين العاملين بها للتقدم لعضوية النقابة . صحيح أن بعض هذه الاشتراطات تتوخى الحفاظ على حقوق الصحفي كعقد العمل والحد الأدنى للأجر. وهو أمر محمود . لكن ليس من المنطقي أن يحل العقاب بالصحفي الشاب ويحرم من حقوق الحماية النقابية ويظل خارج مظلة نقابة الصحفيين لأمور تتعلق بصاحب العمل، وليس به هو شخصيا وبممارسته للمهنة . فالنقابات في العالم ـ ياخلق ياهوه ـ تسعى للمسارعة إلى ضم ممارسي المهنة إليها قدر استطاعتها وحمايتهم في مواجهة أصحاب العمل والإدارة، ولا تتركهم لقمة سائغة وفي الهواء الطلق بلا حماية لأن صاحب العمل ينتهك حقوق زملاء آخرين لهم أو لا يدفع للنقابة التزامات مالية عليه إزاءها ( كنسبة من الإعلانات).

ولعله من العجب العجاب أن تجاهر نقابة بأنها تسعى للضغط على صاحب عمل أو إدارة عبر معاقبة من يعمل لديه فتحرمه من حمايتها . ومن العجب العجاب أن تأتي لائحة القيد “بكوتا” سنوية بعدد محدد من الصحفيين لكل صحيفة تمنع مازاد عنه من الانضواء تحت مظلتها وحمايتها ( المادة 9 لا يجوز أن يتجاوز عدد المقبولين سنويا 30 صحفيا من الجريدة اليومية و 15 من الأسبوعية و 5 من الشهرية). وفي ذلك ما يزيد أيضا من التمكين لعلاقات العمل ماقبل الحديثة، و حيث يبقي في يد رئيس التحرير أو صاحب العمل أو إدارة الجريدة ( امتداد الشيخ المعلم رب الحرفة) تحديد واختيار من سيمنحهم خطاب أو ( ورقة ) التقدم للالتحاق بعضوية النقابة ومن سيؤجلهم ويحرمهم منها.
عجب عجاب أن تنتقم نقابة الصحفيين المصريين من العاملين المستحقين لعضويتها بدعوى الضغط على صاحب العمل. وهي بذلك تدفع بهؤلاء الصحفيين ـ وهم بالأصل في وضع ضعيف بل الأضعف داخل علاقات العمل ـ إلى مزيد من انتهاك حقوقهم، وتجردهم من أدوات وأسلحة النقابة في الضغط والتفاوض إزاء رب العمل .

وزد فوق كل هذا أنه من المؤسف والمعيب أن تأتي لائحة القيد لتنتقص وتتناقض وتعتدي على نصوص وحقوق في قانون النقابة الصادر قبلها بنحو 45 سنة وفي ظل نظام سياسي وتشريعي يفاخر بالشمولية، وقد وضع بالأصل نصوصا تجعل من الاتحاد الاشتراكي ووزارة الإرشاد القومي سلطة مراجعة على قوائم المتقدمين لعضوية نقابة الصحفيين. وقد زال كل من الاتحاد والوزارة والحمد لله بمقتضى ” الأمر الواقع”. حقا من المؤسف والمعيب أن تأتي المادة 4 في اللائحة هذه لتقيد وتحبس وتسجن حق التقدم للجنة القيد بمرتين سنويا . وفي ذلك عدوان صريح على المادة 13 في قانون النقابة التى تلزم اللجنة بأن تصدر قرارها خلال ستين يوما في سياق تقدم مفتوح طوال ايام السنة اليها بطلبات العضوية .

ومن المؤسف أن تتجاهل اللائحة وممارسات لجنة القيد أيضا ماورد في المادة 13 بالقانون :” يخطر الطالب بقرار اللجنة خلال أسبوعين من تاريخ صدوره بخطاب مسجل بعلم الوصول ….”، وكذا ما ورد في نص مادة القانون ذاتها بأن يكون “الإخطار بالرفض مسببا”. بل أيضا أن تعتدي المادة 11 في لائحة القيد على ماورد في قانون النقابة ( المادة 13) فتمدد أجل إخطار المتقدمين بقرارات لجنة القيد من أسبوعين إلى ثلاثة.
ومن المؤسف والمعيب أيضا أن تنتهك المادة14 في لائحة القيد المادة التي تحمل نفس الرقم في قانون النقابة. فمادة النقابة تعطي الحق لمن صدر قرار برفض قيده بأن يتظلم خلال ثلاثين يوما من تاريخ إبلاغه بالقرار أمام الهيئة الاستئنافية التي يرأسها أحد مستشاري محاكم الاستئناف. لكن المادة 14 في اللائحة تأتي لتقحم بين هذا وذاك تظلما أمام لجنة القيد نفسها خلال ستين يوما قبل اللجوء الى الهيئة الاستئنافية. والأنكي من كل هذا هو ما يجرى في الممارسة العملية حيث يتعمد ممثلا النقابة ( عضوان من المجلس ) عدم الحضور عند انعقاد الهيئة الاستئنافية فلا يكتمل تشكيلها، ويظل الصحفيون الطاعنون على قرارات لجنة القيد بالرفض محرمين من ممارسة هذا الحق في مراجعة قرارات اللجنة سنة تلو أخرى.. وياللعار في سلوكيات لا علاقة بها بالنقابية وحقوق الزمالة.. ولا بالاستقامة والنزاهة الأخلاقية.

ولعله من المضحك إلى جانب المؤسف والمعيب في سياق التساؤل عن “احترام النصوص” عندما نعلم ونلاحظ أن شغل النقيب الحالي منصب رئيس هيئة الاستعلامات الحكومية ( بدرجة نائب وزير ) لاينتهك وحسب قانون نقابة الصحفيين ( عن الصحفي المشتغل الذي لا يباشر مهنة أخرى غير الصحافة في المادة 6 فقرة ألف ) وقرار جمعيتها العمومية في مارس 2019 ، بل وينتهك أيضا المادة 22 من لائحة القيد ذاتها التي تنص على أن التفرغ للعمل الصحفي شرط من شروط اكتساب العضوية واستمرارها.

وكأننا وفي هذا الوضع البائس بأبعاده المتعددة كنا في حاجة إلى اضافة الغلو في انعدام شفاقية أداء وقرارات لجنة القيد . و أزمة قرارات اللجنة الأخيرة ـ المفتوحة على انتقادات وجيهة لتصريحات منسوبة إلى اللجنة بأن هذه القرارات لا يحق لمجلس النقابة مراجعتها وبما تعكسه من عقلية الغلو في الاستبداد والتفرد بالسلطة التي تضرب سلوكيات المسئولين في المجتمع اليوم من القمة إلى القاعدة وبما تحتمله هذه القرارات من تأويلات بقبول عضويات ورفض أخرى وفق حسابات سياسية سلطوية ـ تدعو لمراجعة ثقافة (ما قبل النقابات) التي تتحكم في أداء مجالس نقابة الصحفيين ولجنة القيد بها. وهي مراجعة يجب أن تشمل فلسفة العلاقة بين النقابة والصحفيين في عموم المجتمع أعضاء وغير أعضاء . كما يجب أن تشمل الى جانب مراجعة النصوص والممارسات معالجة ومداواة هذا المرض اللعين الذي تفشى بين قطاعات من أعضاء الجمعية العمومية في ” أن تدخل النقابة وتغلق بابها خلفك” توجسا من ضياع الاستئثار ببضع امتيازات عينية أو مالية من سلطة الدولة يختص بها الأعضاء، كبدل التدريب والتكنولوجيا الشهري.

حقا .. نحتاج إلى مراجعة شاملة في الفكر والثقافة والنصوص وممارسات المجالس ولجان القيد، وأيضا سيكولوجية الصحفي عضو النقابة وقناعاته. وكفى إهدارا لحقوق وأعمار الصحفيين خارج النقابة، وهم في مسيس الحاجة إلى حماية نقابية ـ ولو معنوية وقد أصبحت متناقصة ـ في عهد ارتفعت فيه تكاليف ومغارم العمل الصحفي وبخاصة الميداني في بلادنا خلال السنوات الأخيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *