كارم يحيى يكتب: عن زميلنا “عماد الفقي” وتاريخ القسوة في “الأهرام” (2).. سامي منصور ورضا هلال واعتقالات سبتمبر 81
هذه واقعة القبض على الصحفي سامي منصور.. كيف تم التعامل معه في المؤسسة وقت أزمة اعتقاله واتهامه بالعمالة؟
فصل أخر من “القسوة في الأهرام” تتمثل في واقعة اختفاء الصحفي رضا هلال والصمت الذي يسود في المؤسسة كلما جاء ذكره
أرشيفات “الأهرام” وقت اعتقالات سبتمبر تفضح القسوة في التعامل مع صحفيي المؤسسة الذين لم يسلموا من الأحداث وطالهم الاعتقال والتشريد
أخشى من عودة لـ”اللاشيء” وللنسيان حتى نفاجأ مستقبلا وقريبا أننا أمام مأساة أكثر من “عماد” هنا وهناك
رحم الله
الأستاذ عماد الفقي
زميلي في “الأهرام”
وغفر له ..
موجع رحيله على هذا النحو المؤلم الصادم.
الانتحار في حد ذاته موجع
فما بالنا بالانتحار من مبنى الأهرام فجرا وعلى هذا النحو بالغ البشاعة.. والقسوة أيضا
*
قبس مؤلم من هذه القسوة في تاريخ “الأهرام” المنسي أعود الآن لأتذكره مع وجع الرحيل المؤلم الصادم للزميل الأستاذ “عماد الفقي”. لا شيء على صفحات الجريدة أو في ذكرياتها الشفوية وتاريخ النميمة بها يفسر لماذا جرى إخفاء واعتقال زميلنا الراحل الدكتور” سامي منصور” لأيام في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك؟، ما كان أيضا هو الصمت والقسوة. وفي الأغلب وأفضل الأحوال، نميمة مؤذية عن “اتهام في قضية تجسس مع دولة أجنبية” إذا تحدث من ندر في جمل تلغرافية وبصوت خافت غير مسموع إلا بين اثنين.
واليوم ما يعلق بذهني ويوقظ مشاعري أنه كان اعتقالا غامضا مخيفا يشيع مناخ رعب وضد إنسان طيب ووطني غيور على بلاده. وأتذكر الآن أنني كنت أتردد حينها من آن لآخر على الرجل في عزلته بغرفته في الطابق السادس، وحيث صفحة “الحوار القومي” التي كتبت لها وعملت بها منذ تأسيسها مطلع عام 1986.
ومحفور في الوجدان والذاكرة هذا الصباح الباكر الذي وضعت يدي فوق مقبض غرفته، فلم يفتح. سألت عنه عامل البوفيه بالطابق فأجاب بطريقة مريبة: “ماشفتوش”. لم يكن عندي هاتفه بالمنزل لأسأل عليه وهو رجل يكبرني بأكثر من عقدين من الزمان. رجل مهذب خفيض الصوت رقيق المشاعر معتد بنفسه من تركة سنوات “هيكل/ عبد الناصر”. وهي سنوات على الرغم من مساوئها وبصماتها الرديئة على علاقات العمل داخل المؤسسة تعد الأفضل بما جاء بعدها. هو الأستاذ “سامي منصور” موجود في “الأهرام” على هذا النحو / العزلة.
نادرا ما ينشر أو ينشرون له، ولا يظهر في أي اجتماعات ولا في صالة الدور/ الطابق الرابع أبدا. قليل جدا من يزور مكتبه أو يقوم هو بزيارته. هكذا هو “محتفظ به ” في المؤسسة وكأنه بمثابة ” أيقونة ليست للعرض”، وبعد سنوات كان فيها ملء السمع والبصر والنفوذ والنشر في “أهرام هيكل”. واعتقد اننا إذا عدنا إلى الأرشيفات الورقية للجريدة لن نجد كلمة واحدة صادقة تفسر هذا الاعتقال المخيف. ولا آمل بسذاجة أن أجد من كتب ليستنكر ويدين ما لحق بالزميل المخضرم.
مثال آخر عن القسوة في “الأهرام” ومن إدارته/ قيادته وبين أهله. وهذه المرة يحتفظ به التحقيق المنشور عام 2007 للزميل “جويل كمبانيا” موفد “اللجنة الدولية لحماية الصحفيين بنيويورك” إلى القاهرة والجريدة/ المؤسسة ومسئول قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باللجنة حينها، وذلك لتقصى حقيقة اختفاء أو إخفاء زميلنا الأستاذ “رضا هلال”، وذلك بعد الحدث بنحو أربع سنوات. وكما قال “كمبانيا” لي وكتب ونشر في تحقيقه فقد اندهش للصمت الذي يحكم قبضته على زملاء “رضا هلال” في “الأهرام” إزاء اختفائه في 11 أغسطس 2003 وحتى بعد مضي هذه السنوات. كان “كامبانيا” يشكو من عدم التعاون مع التحقيق الذي جاء خصيصا إلى القاهرة لينجزه، وهو موقف سلبي ومريب شارك فيه رئيس تحرير “الأهرام” آنذاك الأستاذ “أسامة سرايا” وأصدقاء “رضا” وزملاؤه المقربون، وبخاصة في “الديسك المركزي” ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية. ويبدو أنني- وللأسف- كنت الوحيد من داخل “الأهرام” الذي جرؤ على التحدث إليه عن “هلال” ومصرحا بنشر اسمي، مع أنني طالما لم أكن أوافق زميلي- الذي أصبح مختفيا- في آرائه أو تتوافق نظرتنا للسلطة وعلاقتنا بها داخل المؤسسة الصحفية وفي الدولة.
وإذا حتى ما عدنا إلى أعداد صحيفة ” الأهرام” مع أيام اختفاء “رضا هلال” المريب وقبل أن يحل الصمت تماما ـ باستثناء تلك الأيام من ربيع 2011 بفضل ثورة يناير ـ لاكتشفنا ما تخلل النشر في صيف 2003 من تضليلات وشائعات غير مؤكدة وجرائم مهنية وفي حق الزمالة. وإلى حد توجيه القراء إلى مبررات أخلاقية أو بالضبط “غير أخلاقية” تسئ للزميل الضحية ذاته. ولعله كان المهم والأهم عند سلطة النشر في الجريدة حينها هو إبعاد أي شبهات عن تورط السلطة السياسية/ الأمنية. أو على الأقل الامتناع عن مناقشة هذه الشبهات، ولو تطلب الأمر تشويه الزميل اخلاقيا وبدون دليل. وأظن وأتذكر أن قسم “الحوادث ” وعبر ما ينقله عن مصادره الأمنية بدون نقاش أو تقديم روايات مختلفة ومضادة كان أداة مهمة في هذا التوجه المؤسف. لكن وفي النهاية فإن كل هذه المادة “التشويهية” مرت وأجيزت من زملاء ” رضا هلال” في الديسك المركزي.
من تاريخ القسوة أيضا ما تفضحه أرشيفات ” الأهرام” وتصرح به. وفي فترة ما وقبل نحو ست أو سبع سنوات من بلوغي الستين ومغادرة الجريدة/ المؤسسة عدت إلى صفحات الجريدة خلال حملة الرئيس “السادات” على معارضيه واعتقال نحو 1500 من رموزهم وتشريد آخرين في سبتمبر 1981، ومن بينهم صحفيون من “الأهرام”. وأظن أنه من المفيد لو تصدت دراسة تحليل لمضمون “الأهرام” في مثل هذه الفترات من الاضطهاد والاستهداف السلطوي السياسي/ الأمني ضد كتابه وصحافييه وبأيدي وأقلام زملائهم أنفسهم. وبالطبع هذا الأمر يصدق أيضا على تاريخ العديد من صحفنا المصرية. بل وإلى اليوم ومستقبلا. وهذا لأن فضيلة الاعتذار على صفحات هذه الصحف ذاتها غائبة، ومعها غياب التحقيق والمحاسبة المهنية والنقابية والقضائية.
*
أخشى أن يتلاشى الاهتمام بحدث انتحار زميلنا الأستاذ ” عماد الفقي”، وينتهي بعد أيام أو أسابيع إلى لا شئ.. إلى النسيان. حقا.. جرأ الحدث العديد من الزميلات والزملاء على البوح عن بؤس أحوالهم الاقتصادية وعلاقات العمل وبيئته غير الصحية غير السوية، وكذا البوح بشأن بؤس النشر، بل وانعدامه مع تغييب المهنية ليس في الأهرام وحدها. بل في عموم الصحافة المصرية التي يبدو أنها تعيش السنوات الأسوأ بعد انكسار ثورة يناير بحلول صيف 2013 وما تلاه. لكني أخشى من عودة ” للاشئ” وللنسيان، حتى نفاجأ مستقبلا وقريبا أننا أمام مأساة أكثر من “عماد” هنا وهناك.