كارم يحيى يكتب: عن الزميل عماد الفقي وتاريخ القسوة في “الأهرام”.. (9) السلفية الوهابية والعلمانية المزيفة وترسيخ السلطوية
الأهرام بدأ وتطور قبل تحولات مصر السبعينيات محافظًا في السياسة متحررا في الفكر والثقافة ثم أصبح محافظًا في السياسة والثقافة والفكر والفن جميعها
في مطلع التسعينيات صلاة الجماعة أثناء العمل شغلت كل ممرات الأدوار إلى حد عرقلة الحركة وأضيف إليها رفع الآذان في الطرقات
أصداء التنوير والحداثة والجرأة ظلت تلمع من حين لآخر في عهد محمد حسنين هيكل مثل نشر “أولاد حارتنا” وكاريكاتير جاهين المنتقد للغزالي
“تمييزا على خلفية الدين” كان من بين أسباب منع الراحل هاني شكر الله من رئاسة تحرير “الأهرام ويكلي” عام 2003
رئيسي أراد إحراجي لأنني لا أشارك في صلوات الجماعة فتعمد تغيير جدول عملي ليأتي بي في شفت الجمعة خلال الصلاة
نشرت مقالا بعد ثورة يناير2011 ناديت فيه بالسماح بالزواج المدني بجانب الزواج الديني والنص قوبل بعاصفة من الاعتراضات
مدير تحرير علق بعنف لفظي يقترب من التكفير على نشري تغطية خبرية من تونس لمظاهرة مؤيدي المساواة في الميراث
الحداثيون في العقود الثلاثة الأخيرة غلب عليهم أيضا ذات الثقافة والنزعة للممارسات الأبوية والبطريركية تجاه السلطة
رحم الله
الأستاذ عماد الفقي
زميلي في “الأهرام”
وغفر له ..
موجع رحيله على هذا النحو المؤلم الصادم.
الانتحار في حد ذاته موجع .
فما بالنا بالانتحار من مبنى الأهرام فجرا وعلى هذا النحو بالغ البشاعة .. والقسوة أيضا .
*
قبل نحو العقدين توصلت إلى افتراض مفاده أن “الأهرام” بدأ وتطور قبل تحولات مصر السبعينيات والثمانينيات “محافظا في السياسة متحررا في الثقافة والفكر والفن”، ثم أصبح “محافظا في السياسة والثقافة والفكر والفن جميعها”. كان “الأهرام” الذي ولد في الإسكندرية المدينة الكوزموبوليتانية في القرن التاسع عشر ( 75/1876) مختلفا عن هذا الذي عشته منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين.
عرف “أهرام آل تقلا” نشر كتابات تنويرية جريئة لأعلام الثقافة الحداثية عند العرب بين القرنين التاسع عشر والعشرين من أمثال “شبلي شميل” و”فرح أنطون” و”خليل مطران” والإمام “محمد عبده” و”يوسف البستاني” و”نقولا رزق الله”. وغيرهم العديد ممن فتحوا آفاق الثقافة واللغة العربية على العلم والحضارة والثقافة والفنون الأوروبية. وهو انفتاح لم يخل من فهم الظاهرة الاستعمارية ومناهضتها.
ولعل أصداء التنوير والحداثة والجرأة كأضواء تأتي من بعيد ظلت تلمع بين حين وآخر في عهد الأستاذ محمد حسنين هيكل بـ”الأهرام”، وبخاصة بين سنوات مصر 57 و 1967. وعلى سبيل المثال يمكننا أن نشير هنا إلى الاستمرار في نشر رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا” وكاريكاتير صلاح جاهين الناقد للشيخ محمد الغزالي وللرجعية من منطلق ديني إسلامي. وفي كل هذا ما يجرى تفسيره بأنه “من بقايا مصر الليبرالية أو شبه الليبرالية” والتكوين الثقافي والمعرفي لنخبتها قبل 1954.
ويمكننا افتراض أن الأسماء التي تكتب في صفحات الرأي بـ”الأهرام” منذ ثلاثة عقود ويزيد ـ في الأغلب ـ أقل جرأة وعمقا وأكثر انسحاقا وتبعية وتملقا إزاء السلطات في الدولة والمجتمع من الأعلام ” لويس عوض” و”توفيق الحكيم” و” يوسف إدريس” و”زكي نجيب محمود”، وغيرهم من بقايا تكوين المرحلة شبه الليبرالية قبل 1954، والتي ظلت أقلامهم تنير صفحات الجريدة حتى مطلع عقد التسعينيات. ولعل من آخرهم الأستاذ “لطفي الخولي” والدكتورة عائشة عبد الرحمن ” بنت الشاطئ”.
*
عندما بدأت علاقتي بالعمل والكتابة والنشر في “الأهرام” منتصف عقد الثمانينات من خلال تأسيس صفحة “الحوار القومي” برئاسة الأستاذ لطفي الخولي ومع زميلي الكبيرالأستاذ “حسين شعلان” ـ وكانت منتفحة بالأساس على كتابات زملاء في مركز الدارسات السياسية والإستراتيجة بالمؤسسة وعلى نخبة سياسية وثقافية وأكاديمية خارجها ـ لم يكن قد تبقى من تأثيرات “الكوزموبوليتانية” بين صحفيي “الأهرام” إلا ما ندر. ربما وفقط الزميلة الأستاذة “ساجيني دولارماني” ذات الأصول الهندية بالقسم الخارجي . ومن أسف أن ألاحظ اليوم أن كل الأقسام التي عملت بها ومنذ عودتي “للأهرام” من خلال القسم الخارجي بـ”الأهرام المسائي” بداية عام 1992 حتى صفحة “دنيا الثقافة” باليومي اعتبارا من يناير 2007 مرورا بقسم الشئون العربية إبريل 1998 فصفحة “الحوار القومي” 2005 وكلاهما باليومي أيضا خلت من زميل ولا أقول رئيس غير مسلم الديانة.
ومن اللافت أيضا أن أتذكر تمييزا على خلفية الديانة المسيحية كان من بين الأسباب المفسرة لمنع الزميل الراحل الأستاذ “هاني شكر الله” من تول مستحق لرئاسة تحرير “الأهرام ويكلي ” بالإنجليزية في عام 2003 بعد وفاة مؤسسها الراحل الأستاذ “حسني جندي”. أو على الأقل يمكن القول بأن التمييز على أساس الديانة كان ملموسا في تقبل قطاع لافت من صحفيي “الأهرام” لحرمان “شكر الله” مما يستحق.
كما أتذكر محاولة إلغاء تعيين وتثبيت زميل عزيز بالقسم الخارجي لليومي حول هذا العام أو قبله بقليل بتبرير ـ ومن زملاء في الجريدة ـ كونه مسيحيا .. ويساريا أيضا كـ”هاني شكر الله”. وقد ساهمت بدوري مع زملاء آخرين حينها في التصدي لهذا التمييز. ولعب الصديق الراحل الأستاذ “عبد العال الباقوري” رحمه الله، وكان وقتها وكيلا لنقابة الصحفيين، دورا مقدرا في إعادة الحق إلى صاحبه، ومن خلال إتصالاته مع الراحل الأستاذ “إبراهيم نافع” رحمه الله رئيس مجلس إدارة وتحرير “الأهرام” ونقيب الصحفيين المصريين حينها. وهو موقف يحسب لـ”نافع”.
*
عندما عدت”للأهرام” مطلع عقد التسعينيات، وجدت ظاهرة صلاة الجماعة أثناء العمل قد اتسعت وشغلت تقريبا كل ممرات الأدوار (الطوابق)، وإلى حد عرقلة الحركة من وإلى المكاتب على الجانبين. بل وأضيف إليها رفع الآذان لاستدعاء المصلين. وهذا على الرغم من استحداث مصليتين اثنتين على الأقل في خلفية الطابقين الثالث (حيث المطابع وصالات التتجهيز والإعداد السابقين للطباعة مع التصحيح والمراجعة) والرابع حيث صالة التحرير والقلب التحريري للجريدة. وبالأصل فإن من صمم مبنى الجلاء الذي تم افتتاحه عام 1968 أظنه لم يهدف إلى اقحام صلوات الجماعة الخمس ولا ليوم الجمعة داخل مؤسسة صحفية كـ”الأهرام”، فلم يخصص بين مرافقه مسجدا. واللافت أن ذاكرة الأجيال السابقة في “الأهرام” تحفظ أن مبنى الجلاء نفسه كان قبل عقد الثمانينيات يعرف تقديم بعض المشروبات الكحولية كـ”البيرة” في كافيتريا الدور الثاني عشر للزملاء أو لضيوفهم.
وشخصيا نالني من هذا الالتزام الديني الإسلامي المستحدث نصيب. ولو كان طريفا. ومع إنني ليس لي موقف ضد الدين والتدين. إلا أن واحدا من رؤسائي في قسم الشئون العربية أراد ـ لسبب ولدافع ما لم يكن له علاقة بالإسلام والله ـ إحراجي، وبعدما لاحظ أنني لا أشارك في صلوات الجماعة الخمس. وماحدث أنه تعمد تغيير جدول عملي، ليأتي بي إلى شفت (وردية) يوم الجمعة من كل أسبوع ظهرا. فماكان منى إلا أن واصلت العمل خلال صلاة الجماعة، أو كنت أخرج مع زميلتي الدكتورة “إيناس طه” لكافيتريا الرابع لاحتساء القهوة.
ولقد تحدثت معي مرة في هذا الأمر ممتدحة شجاعتي في مواجهة “ثقافة الجماعة/ القطيع”، فأخبرتها ببساطة بأنني لا أقاطع صلاة الجمعة خارج “الأهرام”، وحيث اعتدتها مع والدي منذ الطفولة، لكنني لا أود ولو بيني وبين نفسي أن أوضع في شبهة تملق إنسان أو جماعة ما، وحتى لو استهدفوا إظهاري بأنني غير مؤمن أو عاص.
لكن صداما خفيا ما مع أصحاب النزعة السلفية الوهابية كان له محطاته في علاقتي بـ”الأهرام . وأنا هنا واعى وأميز بين سلفية تبالغ في المظهرية والطقوسية والشكلية وما يصحبها من “طاعة أولى الأمر” يتقدمهم القيادات في المؤسسة الصحفية مع الامتناع عن التجرؤ بأي نقد لصالح العمل والمنتج الصحفي وبين سلفيين مختلفين قابلت جانبا منهم في ميدان التحرير بعد خلع الدكتاتور “مبارك”، ومن بيهم ما عرفوا إعلاميا بـ”سلفيي كوستا”. ويمكنني هنا أن استرجع وقائع تنطوى على خشونة في التعامل من جانب زملاء لم أجد لها تفسيرا حينها، وإن كنت اليوم ـ وحيث أصبح بالإمكان أن أرى بوضوح ودراية أكبر ـ يمكن إحالتها إلى مشاعر سلبية من ذوي النزعة السلفية تجاه زميل يشاع عنه بأنه “يساري”، ناهيك عن امتناعه عن صلاة الجماعة داخل المؤسسة الصحفية.
بالطبع لن أخوض في أمور من قبيل أن تدخل فتلقي عبارة “صباح الخير” أو حتى “السلام عليكم” فلا يردون عليك، وبدون أي مبرر يستند إلى وقائع سابقة أو احتكاكات نتيجة العمل. بل سأشير على نحو خاص لما واجهه نشر مقال لي محدود المساحة بعد ثورة يناير2011 ناديت فيه بالسماح بالزواج المدني في في مصر، إلى جانب صيغ الزواج الديني . والمقال عنوانه “الله محبة”، وقد انطلقت فيه من قصة قصيرة للأديب الراحل “إحسان عبد القدوس” نشرها في مصر عقد الخمسينات عن روميو مسيحي قبطي من حي “شبرا” وجوليت مسلمة من حي “السيدة زينب”. وعلى الرغم من تفهم المسئولة عن الصفحة حينها الزميلة الأستاذة “سناء صليحة” وإجازتها لنشر المقال، فإن النص قوبل بعاصفة من الاعتراضات بعدما خرج من مسئولية الصفحة، وظل يتعرض لتدخلات بالحذف مع جهود لمنعه بالكامل حتى وصل إلى المطبعة.
وربما المصادفة هي التي جعلتني استشعر مرة أخرى رقابة الزملاء من ذوي الميول السلفية الوهابية والمحافظة مع مغادرتي للعمل بـ”الأهرام” ببلوغ الستين. وكنت قد أرسلت للنشر من تونس حوارا مع الباحثة المتميزة في تاريخ الفكر الإسلامي “نسرين بوزازي” عن رسالتها للماجستير وكتابها الذي يناقش مفهوم الجبر بين الديني والسياسي على ضوء الصراع بين ملوك بني أمية والمفكر “الجهم بن صفوان”. واتضح لي عندما عدت للقاهرة واستفهمت من الزميلة الجديدة المسئولة عن الثقافة بالأهرام اليومي حينها بشأن عدم النشر، استحالة الاقتراب من مناقشة “الجبر” على صفحات الجريدة على أي نحو كان، وأظن أن الزميلة أشارت مع اعتذار مهذب وعدم اقتناع منها إلى نفوذ “الأشاعرة”.
وقبلها وبأسابيع معدودة، صدمني أن زميلا يشغل منصب مدير تحرير في “الأهرام” اليومي صديق معي بموقع التواصل الإجتماعي “الفيس بوك” قد علق بعنف لفظي يقترب من التكفير على نشر صفحتي تغطية خبرية أرسلتها “للأهرام” من تونس لمظاهرة مؤيدي المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة. وأكرر تغطية إخبارية، وأضيف أنني قمت تاليا بتغطية إخبارية مماثلة لمسيرة لمعارضي هذه المساواة في تونس.
ولقد اندهشت حينها لدخول الزميل العزيز إلى صفحتى وتعليقه على هذا النحو، وهو في موقع مدير تحرير، فيما لم يحرك ساكنا أبدا على مدى شهور سابقة وأنا أنشر على الصفحة ما يفيد يوميا أنني يئست من الأمل في تعامل مهني لمسئولي النشر في “الأهرام” مع ما أرسل من تونس، فلجأت إلى نشر نصوص الأخبار كما أرسلها مع عنوان “من حقك أن تعرف وبمهنية” مع نص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وكأن الزميل العزيز الفاضل ظل يصم آذانه ويميت ضميره المهني عن استغاثاتي اليومية، ولم يستيقظ إلا عندما نشرت خبرا عن مسيرة تطالب بالمساواة في الميراث، وأكرر هو مجرد خبر بالصور لا يحمل رأيا مع أو ضد.
في كتاب “حرية على الهامش: في نقد أحوال الصحافة المصرية” الصادر بداية عام 2005 أشرت في الفصل/ الدارسة الموثقة تحت عنوان “الطيعون المطيعون: في انتقاء الصحفي وترويضه” إلى مفعول عوامل عدة في تعزيز سطوة علاقات الطاعة الأبوية (البطركية) داخل الصحف المصرية اعتبارا من المرحلة الناصرية ومع صعود العسكريين إلى الحكم وموت أو جفاف السياسة والثقافة التعددية.
ومع انحيازي التام لحق الجميع من مختلف الطبقات في التعليم إلى أعلى المراحل والعمل بمهنة الصحافة وفي مؤسساتها الكبرى ـ لكن بالطبع استنادا إلى معايير التأهيل العلمي والكفاءة لا الطاعة والنفاق ـ فقد قلت نصا في الدراسة / الكتاب: “يصبح الإحساس بثقل الجميل المسدي لـ (الأبناء بالتبني) ـ أي من غير ذوي الواسطة أو أهل القربى ـ أشد وطأة. وخصوصا عندما يطوق هذا (الجميل المزيف) أعناق موظفي الإدارة والخدمات أو ذوي الأصول الفلاحية الملحوظة، وممن يمثل لهم الالتحاق بمهنة كالصحافة حراكا وظيفيا واجتماعيا ينقلهم من طبقة إلى أخرى”. وأضفت في الهامش:”تجد الأخلاقيات الأبوية مرتعا خصبا لها في المجتمع بعامة، وحيث لا يزال غالبية المصريين حديثي الاستقرار بالمدن، ولم يسكنوها لأجيال عديدة. وتظل إلى حينه بعض السمات الفلاحية جلية في سلوكيات ولهجات من جاءوا حديثا إلي القاهرة واشتعلوا بالصحافة.
ويعتقد بعض الصحفيين المخضرمين أن السمة الفلاحية الغالبة على جموع الصحفيين المصريين كان ويظل لها بالغ التأثير على علاقات العمل بالمؤسسة الصحفية وعلى الأداء المهني، وسواء انعكس ذلك في الخضوع للرؤساء وتملقهم وفي اللجوء إلى المكر والمخادعة أو في تجنب المواجهة الصريحة وتوجيه النقد وفي العجز عن إدارة حوار يقوم علي الندية”(*) .
وبالطبع فيما سبق فرضيات عامة ليس إلا، ومع الأخذ في الاعتبار كون كل تعميم له استثناءته هنا وهناك . لكن ما يستحق المناقشة مستقبلا هو تأثير ما يمكن أن نطلق عليه انتقال “الأهرام” الذي كان مدينيا “كوزموبوليتانيا” إلى حالة من “الترييف” المصحوبة بميول محافظة وسلفية. تماما مثلما جرى بشأن غيره من مؤسسات المجتمع المصري على مدى نحو سبعة عقود. وهو أمر يستحق الانتباه والدراسة سواء على مستوى المحتوى المنشور على صفحاته ومطبوعاته أو التحولات التي طرأت على علاقات العمل ونمو ملامح “الأبوية/ البطركية ” وثقافة الطاعة والولاء. ناهيك على تفشي الشبق والتفاخر بالمراكز والمسميات السلطوية والتسلطية مع هرم المناصب المصطنع والمبالغ فيه والفارغ في الأغلب بين محرري “الأهرام”. وكأن صعود درجاته مع كل درجة أو خطوة بمثابة “ترقية طبقية” إلى أعلى في المجتمع والدولة، وليس داخل المؤسسة وحدها. وبالطبع في جوهر كل هذا التخلف تكمن آفة عصور الاستبداد والفساد عند المصريين، وهي وضع وتقديم كل ما هو شخصي أمام كل ما هو موضوعي .. أي إعلاء الشخص على الموضوع.
وفي الجوهر هنا أيضا أن يكون ويصبح هذا الصعود وفي سياق التخلف والاستبداد والفساد مطلوبا وكأنه شرطه التورط ممارسات غير مهنية وغير أخلاقية، بما في ذلك تعميق اغتراب الصحيفة عن المجتمع واغتراب علاقات العمل. ناهيك عن ممارسات فجة بالغة القسوة كالاستعداد لطعن الزملاء وغيرهم في الظهر وعلى صفحات ” الأهرام” ومطبوعاته بكل افتراء وحماقة. و طالما كانوا مستهدفين من السلطة أو مطلوبين للاستهداف.
*
والفرضية الأخرى التي أود أن أطرحها هنا تتعلق بالبون الشاسع بين مظاهر حداثة يتسم بها عدد من صحفيي وكتاب “الأهرام” وبين ترسيخ ثقافة مضادة ونقيض للحداثة تتجاوز المتدينين السلفيين إلى غيرهم. فهؤلاء ” الحداثيون” أيضا ـ وفي العقود الثلاثة الأخيرة ويزيد ـ غلب عليهم ذات الثقافة والممارسات الأبوية/ البطركية تجاه السلطة داخل المؤسسة الصحفية وخارجها. ويمكن العودة إلى كتابات هذا النوع من “الحداثيين” ـ والذين يتميزون بدورهم بالمظهرية والشكلانية ـ لاختبار مدى إخلاصهم بحق لقيم الحداثة واحترام حقوق الإنسان والحريات والحق في نقد كل مقدس سلطوي. وبشأن مدى توافر الجرأة والشجاعة في مواجهة الاستبداد والتسلط والتخلف بالدولة وداخل المؤسسة الصحفية “الأهرام”.
ويحضرني على سبيل المثال ليس إلا حيرتي عندما طالعت في جريدة “القدس العربي” حوارا منشورا في صيف 2003 للدكتور “أسامة الغزالي حرب” أحد قيادات “الأهرام” ومركز دراساته حينها يفسر خلاله ترشحه لانتخابات عضوية مجلس نقابة الصحفيين على الرغم من مجاهرته بعدم اهتمامه بالشأن النقابي مطلقا بأن رئيسه الأستاذ “إبراهيم نافع” رئيس مجلس إدارة وتحرير “الأهرام” (يعني الأب/ البطرك) هو الذي طلب منه كي يكون إلى جانبه كنقيب للصحفيين المصريين، وأنه (أي الدكتور حرب) لايمكن أن يخذله أو يرد له طلبا. ولقد ذهبت إليه عندما طالعت الحوار، وسألته بكل محبة ولطف عن كيف تصدر هذه العبارات ماقبل الحداثية ممن يوصف بأنه من بين رموز الليبرالية والحداثة في مصر اليوم؟.
*أخشى أن يتلاشى الاهتمام بحدث انتحار زميلنا الأستاذ “عماد الفقي”، وينتهى بعد أيام أو أسابيع إلى لا شئ .. إلى النسيان. حقا.. جرأ الحدث العديد من الزميلات والزملاء على البوح عن بؤس أحوالهم الاقتصادية وعلاقات العمل وبيئتة غير الصحية غير السوية، وكذا البوح بشأن بؤس النشر، بل وانعدامه مع تغييب المهنية ليس في الأهرام وحدها. بل في عموم الصحافة المصرية التي يبدو أنها تعيش السنوات الأسوأ بعد انكسار ثورة يناير بحلول صيف 2013 وماتلاه. لكني أخشى من عودة “للاشئ” وللنسيان، حتى نفاجأ مستقبلا وقريبا أننا أمام مأساة أكثر من “عماد” هنا وهناك.
(*) كارم يحيى، حرية على الهامش: في نقد أحوال الصحافة المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى من دار المحروسة عام 2005، ص 60 و61 و 77، والطبعة الثانية من دار العين عام 2012 ، ص 74 و90.