كارم يحيى يكتب: اليوم العالمي لحقوق الإنسانِ.. لا تنسوا الصحفي”محمود عزمي” وأنفسكم
أين مصر والمصريون من اليوم العالمي لحقوق الإنسان الموافق لتصديق الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948 على ” الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، و الذي يعد بمثابة الأب للمواثيق الدولية التالية في هذا الشأن؟.
هذا السؤال يكتسب أهميته على ضوء التدهور الذي شهدته حقوق المواطن المصري في السنوات الأخيرة على الأصعدة كافة، السياسية والمدنية، وأيضا الاجتماعية والاقتصادية.
فالوثيقة العالمية الأساس والتي تقع في ديباجة و30 مادة لم تغفل ومبكرا عن ضمان الحق في العمل في شروط عادلة والأجر المتساوى عن عمل متساوي والحماية من البطالة ( المادة 22 ) و الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة على أصعدة المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية ( المادة 25 )، وكذا الحق في التعليم المجاني ( المادة 26 ). وهذا إلى جانب الحقوق السياسية والمدنية كالحق في الحرية والأمان الشخصي، وتجنيب كل إنسان شرور ممارسات الاعتقال التعسفي والتعذيب والمعاملة والعقوبة القاسية أو الحاطة من الكرامة، مع ضمان الحق في محاكمة عادلة مستقلة منصفة علنية، وتوفير كافة الضمانات للدفاع عن النفس، وكذلك حماية كل إنسان ضد التدخل التعسفي في الحياة الشخصية وحماية مراسلاته وحقه في الاحتفاظ بجنسيته أو تغييرها.. إلخ .
نعم من يعود إلى نص وثيقة 10 ديسمبر 1948، والتي كانت الدولة المصرية من بين 58 عضوا بالجمعية العامة للأمم المتحدة وقعت عليها بداية ـ يجد فيها ردا كافيا شافيا على منطق رسمي صادم ساد في مصر خلال السنوات التسع الأخيرة يدعى بأن “حقوق الإنسان العالمية”لا تعني بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وتقتصر على السياسية وحدها . ولعلنا هنا وفي مصر هذه السنوات نحتاج للتذكير بوثائق مكملة لهذا الإعلان التاريخي تختص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدمتها العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي أقرته الجمعية العامة في 16 ديسمبر 1966.
وهذه الوثيقة وغيرها صدقت عليها الدولة المصرية واعترفت بها .
والأكثر مدعاة للأسف إلى جانب ممارسات يومية تنتهك مختلف الحقوق وتنتقص منها ـ بدلا من ان تحسنها وتزيد منها كما تدعو ديباجة الإعلان العالمي 1948 ـ أن يصطدم المصريون مؤخرا بمنطق رسمي يضيف إلى هذه المراوغات بين السياسي والاجتماعي الزعم بإخراج مصر وأهلها من منظومة حقوق الإنسان الكونية ، وبدعوى “أننا لسنا كأوروبا أو أمريكا .. ولا يمكن للعالم أن يسير على نهج واحد ويقول أنه الأمثل”. وكأن مثل هذا اللامنطق كفيل أمام العالم بالتغطية على أعداد معتقلي وسجناء الرأي وقائمة طويلة من الانتهاكات لحقوق الإنسان لا تتوقف عند الإخفاء القسري وانتهاك خصوصيتهم بتفتيش هواتفهم على قارعة الطريق.
وهو منطق ـ بل لنقل لا منطق ـ يعتدي صراحة على كل كلمة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبما في ذلك المادة الثانية التي تنص على أنه ” لكل إنسان حق التمتع بهذه الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان دون تمييز من أي نوع”، وبما في ذلك عدم جواز التمييز على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمى له الشخص.
ومع اليوم العالمي لحقوق الإنسان وفي ظل وذورة سنوات عجاف في مصر على هذا النحو يجب أن نستدعى إسهام مصر والمصريين في صياغة هذا الإعلان التاريخي، والذي قررت الأمم المتحدة أن تحتفي به على مدى عام كامل وحتى حلول الذكرى الخامسة والسبعين ( اليوبيل الماسي) في 10 ديسمبر 2023 بفاعليات وبرامج تحت عنوان :” الكرامة والحرية والعدالة للجميع” وشعار ” انهضوا ودافعوا عن حقوق الإنسان”.
في وثائق الأمم المتحدة عن فترة الإعداد لهذا الإعلان التاريخي التي استمرت لنحو العامين والسنوات التالية لها مباشرة يبرز اسمين اثنين على مستوى العالم العربي، وهما: اللبناني “شارل مالك ” والمصري ” محمود عزمي” الصحفي فالدبلوماسي المولود في قرية ” شيبة قش” بمحافظة الشرقية عام 1889 والمتوفي عام 1954.
و بالأصل وقبل دوره الدبلوماسي المقدر في الأمم المتحدة، توثق كتابات “عزمي” المنشورة في صحف مصرية بين عقدي العشرينيات الأربعينيات من القرن العشرين على نحو خاص دفاعه المجيد عن حرية الصحافة. الصحافة التي أطلق عليها مبكرا وصف “السلطة الرابعة”، وكان واعيا وداعيا لدورها الأساسي في محاسبة كل سلطة وانتقادها.
و فوق هذا ، منح “محمود عزمي” الصحفي صعيد الممارسة المهنية ” المحرر الدبلوماسي” مكانته في الصحافة المصرية والعربية، وابتدع مصطلحات مثل “الأممية” و ” التدويل” و”الإعلام” . وإليه أيضا يرجع الفضل في وضع قانون نقابة الصحفيين الأول قبيل تأسيسها عام 1941، والارتقاء بالمهنة بالدعوة لإنشاء أول مؤسسة أكاديمية لتدريس الصحافة في مصر، هي “معهد التحرير والترجمة والنشر”، والذي بدأ بالدراسة لخريجي الجامعات لعامين بعد “البكالريوس” و” الليسانس” اعتبارا من عام 1940. وكان “عزمي” من بين كادر التدريس الأول المؤسس ، مع اسماء أعلام كـ “طه حسين” و”مصطفى مشرفة” و” محمد مندور” والمؤرخين “شفيق غربال” و”عزت عبد الكريم”. ولـ “عزمي” سلسلة محاضرات رائدة في العمل والكتابة الصحفية تم جمعها في كتاب بعنوان ” مبادئ الصحافة العامة”، وقد اصبح متوافرا على شبكة الإنترنت.
ولعل إسهامات “عزمي” في الصحافة المصرية وجدت تقديرا من “حافظ محمود ” نقيب الصحفيين الأسبق بين عامي 65 و 1967، فتذكره بتسع صحفات في كتابه “عمالقة الصحافة” الصادر عن “كتاب الهلال” عام 1974 ضمن 22 صحفيا من جيل عاصره هو في شبابه دفع المهنة للأمام مع ثورة 1919 وفي أعقابها. كما قدر “لعزمي” أن يجد من يهتم بدراسته أكاديميا في كلية الإعلام جامعة القاهرة، فناقشت الدكتورة “نجوى كامل” رسالتها للماجستير في قسم الصحافة خلال عام 1981 تحت عنوان ” محمود عزمي الصحفي”. وهي الرسالة التي صدر ملخص لها لاحقا في كتاب من سلسلة من دار المعارف تحت عنوان “محمود عزمي رائد الصحافة المصرية”. وعلاوة على هذا هناك كتاب مهم بعنوان ” محمود عزمي رائد حقوق الإنسان في مصر” لزميلنا الباحث الجاد النابه “هاني نسيرة” بـ” الأهرام” صدرت طبعته الأولى من مركز القاهرة لحقوق الإنسان في عام 2006 ، مع تقديم من الراحل الدكتور ” محمد السيد سعيد”.
والمراجع الثلاث السابقة فضلا عن مواد أخرى تشير إلى نشاط “محمود عزمي” المبكر من أجل تأسيس حركة حقوق إنسان مصرية إنطلاقا من باريس عام 1931 ( الشعبة المصرية لحقوق الإنسان)، وذلك في إطار الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان. وجاءت هذه الحركة في مواجهة صعود الدكتاتورية بمصر مع حكومة “إسماعيل صدقي “.
وهذا قبل توفده وزارة الخارجية المصرية عام 1949 لتمثيل الدولة في لجنة تداول الأنباء بالأمم المتحدة،وحيث تقدم بمشروعه لتفعيل المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يثرى حرية تداول الأنباء ويدرء خطر الرقابة عنها. كما يعود إليه الفضل بعد انتخابه رئيسا لهذه اللجنة في إقرار المجلس الاقتصادي الاجتماعي للأمم المتحدة عام 1952 مشروع “عهد الشرف الصحفي” كأول ميثاق لأخلاقيات المهنة على نطاق عالمي، والذي كان قد تقدم به عام 1950 خلال عضويته لهذه اللجنة وتوج الصحفي والدبلوماسي المصري نشاطه في هذا المضمار بالأمم المتحدة بانتخابه في مارس 1953 رئيسا للجنة حقوق الإنسان، وتم تجديد انتخابه عاما آخر.
وفي هذا السياق، يذكر كتاب الدكتورة “نجوى كامل” في ص 133 ما يعد ردا على حملات اليوم المناهضة لحقوق الإنسان المصري تحت شعارات ” التدخل الخارجي” حين يكشف عن تقدم “محمود عزمي ” من موقعه في رئاسة هذه اللجنة بمشروع اتفاقية عن حق المواطن في أي بلد في شكوى حكومته إلى الأمم المتحدة فيما يصيبه من مظالم وانتهاكات لحقوق الإنسان. ووفق ما جاء في الكتاب :” رأي محمود عزمي أن من واجب الأمم المتحدة أن تتلقى شكاوى المواطنين في شتى الدول على شرط أن تكون مقدمة عن طريق النقابات والجمعيات المعترف بها دستوريا وقانونيا في الدولة التي تصدر منها الشكوى، وعلى ان تثبت هذه اللهيئات أنها استنفدت كل الوسائل المشروعة لتدفع ما وقع على المواطن من ظلم وانتهاك لحق من حقوق الإنسان. وعندئذ يكون واجب الأمم المتحدة أن تتلقى الشكوى وتقوم بالتحقيق فيها بواسطة هيئة تؤلفها من أفراد يتوافر فيهم النزاهة والخبرة. فإذا انتهت إلى التأكد من صحة الشكوى وسلامتها تقوم الأمم المتحدة بدور الوساطة (المساعي الحميدة) لدى الحكومات لتصحح الخطأ وترفع الظلم وفق ما تقضى به حقوق الإنسان”. ولعل هذا ما تجسد لاحقا وفي عام 1966 في “البروتوكول الاختياري الملحق بالحقوق المدنية والسياسية” ، وفق ما أشارت إليه كتاب الدكتورة ” نجوى كامل”.
ولم يكن جهاد ” محمود عزمي” من أجل حقوق الإنسان على الصعيد الدبلوماسي وفي الأمم المتحدة وحدها . فقد عمل على نشر ثقافة حقوق الإنسان وإعلانها التاريخي بين أبناء وطنه. ففي عام 1950 أصدر في القاهرة كتابا فريدا باللغة العربية بعنوان “حقوق الإنسان”. شرح فيه ملابسات وضع الإعلان العالمي ونصوصه الثلاثين. وفي مقدمة هذا الكتاب تحدث عن مشاركته ممثلا لمصر في الاجتماعات المبكرة للمجلس الاقتصادي الاجتماعي للأمم المتحدة منذ 1946 ثم جلسات المنظمة الدولية في باريس لصياغة ووضع وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي الذكرى الأولى 10 ديسمبر 1949 ، ألقى محاضرة ضافية عن هذه الوثيقة التاريخية ، فيما سجل في مقدمة كتابه ” حقوق الإنسان” كيف أفردت الإذاعة الحكومية من القاهرة فقرة مهمة له صباح هذا اليوم، وكيف ساهمت وزارة المعارف في الاحتفال بالذكرى الأولى له بتعميم معلومات عنه في الإذاعات المدرسية؟. فضلا عن حفل أقامته كلية الحقوق بجامعة القاهرة في هذا اليوم.
توفى الصحفي والدبلوماسي وأحد آباء حقوق الإنسان في مصر والعالم العربي والعالم” محمود عزمي” بأزمة قلبية في 3 نوفمبر 1954 على منبر الأمم المتحدة رئيسا لوفد مصر وهو يدافع عنها وعن حقوقها في مواجهة عدوان صهيوني إسرائيلي أسفر عن إصابة اثنين من الصيادين من أبناء وطنه في حادثة اشتهرت باسم السفينة ” بات جاليم ” عند مدخل خليج العقبة وفي المياه المصرية، وعلى مقربة من جزيرتي تيران وصنافير المصريتين.
رحل ولم ير مشروع الدستور الديمقراطي لجمهورية مصر ( 53 / 1954 ) النور أبدا. وهو الذي شارك في صياغته عضوا بلجنة الخمسين ( عضوا بلجنة الحريات والحقوق والواجبات إلى جانب طه حسن وعبد الرحمن بدوي)، و قبل أن يغادر إلى مقر الأمم المتحدة في فبراير 54. وكان قد صرح وفق كتاب “نسيرة” للصحافة في القاهرة بأن مشروع الدستور يستلهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ومع كل هذا للأسف لم يحظ “محمود عزمي” بالاهتمام اللائق بإسهامه على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية من أجل الحريات وحقوق الإنسان. وربما يرجع ذلك إلى عوامل عديدة من بينها الانقلاب على قيم ومبادئ وضمانات الحقوق والحريات في وطنه على مدى كل هذه السنوات ولليوم.
ولعل مع مناسبة استعدادات العام السابق لاحتفال الأمم المتحدة باليوبيل الماسي ( 75 سنة ) للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يظهر من بين بيننا في مصر هيئة أو جماعة أهلية أو ائتلاف ما يتنبه ويجعل من ( 10 ديسمبر 22 ـ 2023) كذلك عاما للاحتفاء بذكرى “محمود عزمي”.
.. وهل يمكن أو يصح أن ننسى دور مصر وابنها الصحفي “محمود عزمي” ؟.