كارم يحيى يكتب: أسئلة عن يوم الصحفي وسردية التمجيد الصماء
تحملني الصديق والزميل العزيز الراحل الأستاذ” عبد العال الباقوري” عندما أبلغته تحفظي الشديد على مانشيت جريدة ” الأهالى” االمعارضة الناطق باسم حزب “التجمع” وكان يرأس تحريرها حين صدرت الجريدة بعبارة “وانتصرت حرية الصحافة” فور إصدار القانون رقم 96 لسنة 1996 ليحل محل القانون 93 لسنة 1995 الشهير باغتيال الصحافة وحماية الفساد. تحملني رحمه الله، ولم يغضب. واحتفظنا بعلاقة زمالة وصداقة حتى رحل في 6 أغسطس 2017 وأنا خارج مصر فبكيته.
وبمناسبة 10 يونيو 1995 عيد الصحفي المصري ذكرى انعقاد الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين في مواجهة القانون الاستفزازي الذي مرره بليل برلمان الدكتاتور المخلوع “حسني مبارك” قبلها بأيام وتحديدا في 27 مايو وصدق عليه “مبارك” نفسه على الفور يحق لأجيال الصحفيين وأنصار الحريات والديمقراطية في بلدنا أن تعيد النظر فيما جرى ساعية للتحرر من شبهة المبالغات واصطناع تاريخ مجامل أقرب إلى الأساطير المتجاوزة والمخالفة للواقع.
وواقع الحال أن حصاد المعركة على مدى نحو العام الكامل بين القانونين 93 و 96 لم تكن انتصارا بينا أو حاسما أو حتى فارقا . ومن بين الأدلة على نسبية ما تحقق ومحدوديته كون أن نقابة الصحفيين وأنصار الحريات في المجتمع المصري اضطروا لخوض جولة جديدة ضد الحبس في قضايا النشر بحلول عام 2006 , وهذا بعدما توالى الحبس وأحكام الحبس في هذه القضايا على نحو غير مسبوق بعد ” هكذا انتصار”. وعلى الأقل عندما أصدرت الطبعة الأولى من كتاب “حرية على الهامش في نقد أحوال الصحافة المصرية ” مطلع عام 2004 كان بالإمكان احصاء ثمانية صحفيين دخلوا المحابس بالفعل منذ عام 1996. وهذا فضلا عن توالى وعود “مبارك” بالغاء الحبس في قضايا النشر دون الوفاء بها . ومما يتعين تذكره أيضا أن شهرا واحد في عام 2007 هو سبتمبر ـ وحتى بعد إدخال تعديلات على تشريعات الحبس في قضايا النشر الصحفي في العام السابق مباشرة ـ شهد إصدار أحكام حبس ضد خمسة رؤساء تحرير لصحف خاصة جديدة وحزبية “معارضة” دفعة واحدة.
و لعله يحق التساؤل عن جناية السردية الصماء التمجيدية حول 10 يونيو في التعتيم على واقع بائس استمر ووصل بنا اليوم إلى الأكثر بؤسا. ويمكننا هنا الحديث عن استمرار واستفحال أثر عقوبات الحبس في قضايا ” نشر أخبار كاذبة” التي يكتوي بها اليوم في السجون والمحابس آلاف المواطنين، وبينهم عشرات الصحفيين . ويمكننا الحديث هنا عن إبقاء القانون 96 على التشدد في السجن، وكذا الحبس الاحتياطي الذي جاء به القانون 93 فيما يعرف ” بإهانة رئيس الجمهورية”. كما يمكننا الإشارة اليوم إلى عجز نقابة الصحفيين عن رد العدوان على منع الحبس الاحتياطي ضد الصحفيين في قضايا النشر الصحفي بصفة عامة.
وحتى خارج العلاقات المباشرة مع سلطة الدولة، يستحق حصاد معركة الصحفيين ونقابتهم خلال عامي 95 / 1996 تقييما موضوعيا يتحدى السردية الصماء التمجيدية السائدة. ويكفي أن أشير هنا على سبيل المثال إلى أن القانون 96 ـ وهو حصيلة عمل بين ممثلي النقابة والسلطة السياسية ـ جاء بضمانة ” لايجوز فصل الصحفي من عمله إلا بعد إخطار نقابة الصحفيين بمبررات الفصل فإذا استنفدت النقابة مرحلة التوفيق بين الصحيفة والصحفي دون نجاح تطبق الأحكام الواردة في قانون العمل في شأن فصل العامل ” ( المادة 17). لكن مجلس النقابة الذي يقوده ممثلي المالك الأساسي لصناعة الصحافة رؤساء مجالس الإدارة والتحرير في الصحف القومية و من وصفتهم بالإقطاع الصحفي السياسي لعهد “مبارك” تعمدوا إهدار مطالبات وتوقيعات من الجمعية العمومية خلال معركة القانون بانشاء لجان نقابية للصحفيين داخل المؤسسات والصحف.. وحتى اليوم.
عشت كغيري من الزملاء الأعزاء وقائع معركة تصدي قطاع مهم من الصحفيين المصريين ونقابتهم للتعديلات الاستفزازية القاسية التي أدخلها القانون 93 لسنة 1995 على مواد عدة في قانون العقوبات وغيره من تشريعات وإهداره لضمانه عدم جواز الحبس الاحتياطي للصحفي لما ينسب اليه في الجرائم المنصوص عليها في عدد من مواد قانون العقوبات بشأن نشر مواد صحفية ( المادة 67 من قانون النقابة 76 لسنة 1970 ). عشت كغيرى وقائع المعركة من بدايتها إلى نهايتها، والتي سرعان ما اتضح انها نهاية مفتوحة وإلى اليوم. ولاتستحق إغداق مديح في غير محله على الرئيس “حسني مبارك” بوصفه انتصر لحرية الصحافة أو إدعاء مبالغات يكذبها الواقع والوقائع التالية عن نتائج هذه المعركة، أو حتى عن أدوار قيادات صحفية ، ودون وضع هذه الأدوار محل المكاشفة والشفافية والتحليل والنقد الموضوعي . وهذا بالطبع لا يقلل من جهود وأدوار زملاء أعزاء داخل مجلس النقابة حينها أذكر من بينهم الأستاذة “مجدي مهنا” و”رجائي الميرغني” و” صلاح عيسى” رحمهم الله و” يحيى قلاش” و” محمد عبد القدوس” و “صلاح عبد المقصود”.
وهذا فضلا عن العديد من الزملاء من أعضاء الجمعية العمومية خارج المجلس من أجيال متعددة. وحتى دور الأستاذ ” إبراهيم نافع ” النقيب حينها يستحق تاريخيا تحريره من السردية التمجيدية الصماء وأوهامها ومجاملاتها. وهنا نحتاج إلى تشريح يستند إلى الوثائق والشهود عن مخرجات حالة تضارب المصالح المؤكدة بين كونه نقيبا للصحفيين وبين أنه في الآن نفسه أحد رجالات النظام الاستبدادي الفاسد لـ “مبارك” وفي قيادة ومقدمة وواجهة منظومته الإعلامية الصحفية.
و في الذاكرة تنطبع رئاسة المرحوم الأستاذ “جلال عيسى” وكيل النقابة لاجتماع عاجل حاشد بمبنى النقابة القديم بحديقته لتنطلق شرارة مسيرة معارضة القانون 93 الحافلة بصراعات وخطوات للأمام وللخلف داخل الجماعة الصحفية بمصالحها المتضاربة، وحتى داخل النقابة ومجلسها. ومن أسف أن تسقط في الأغلب والمعتاد السردية التمجيدية السائدة حول رمزية 10 يونيو 1995 دور الراحل “عيسى” وشجاعته في اتخاذ زمام المبادرة في الاجتماع السابق على هذا التاريخ. وأظن وغيري أن الرجل ـ ولم يكن من المعارضة رسمية أو غير رسمية ـ قد دفع لاحقا غاليا ثمن هذا اللحظة. وفي الوقت نفسه الذي تعلى السردية ذاتها من دور الراحل الأستاذ ” نافع” نقيب الصحفيين رئيس مجلس إدارة وتحرير “الأهرام” ذاتها، ودون إحاطة بملابسات وتلون هذا الدور وحدوده وتفاعله مع الضغوط المحيطة به.
و أعتقد أننا وبعد مضي كل هذه السنوات ـ 27 عاما بحلول 10 يونيو 2022 ـ نحتاج إلى دراسة وتقييم موضوعي يستند إلى الوثائق الداخلية للنقابة، وكذا إلى تلك المحفوظة لدى جهات معنية بالدولة عن أداء مجلس النقابة ومكوناته وعناصره. وعلى سبيل المثال، ثمة أسئلة مشروعة عن انحسار زخم وضعط الجمعية العمومية على المجلس برمته وعلى اختلاف مكوناته و النقيب/ رئيس مجلس إدارة وتحرير “الأهرام” وأحد رجالات نظام مبارك ؟.. ولماذا حدث ؟ وما تأثير هذا الانحسار على نتائج المعركة وحصادها بحلول صيف 2016؟.. و لماذا لوحت جمعية 10 يونيو 1995 بالإضراب عن العمل في المؤسسات الصحفية والصحف إن لم يتم الغاء القانون فيما لم يجر بذل أي مجهود نقابي في هذا الاتجاه، و مع الإسراع في إهالة النسيان على هذا السلاح المشروع ؟.
نحتاج أيضا إلى دراسة وتقييم موضوعي لكيف قام عدد من رؤساء التحرير ومجالس الإدارة بشن حملة تنكيل وترهيب تالية مباشرة لجمعية 10 يونيو ضد العناصر النشطة في الجمعية العمومية والتي كانت تمثل قوة ضغط على النقيب والمجلس للدفع باتجاه مواصلة المعركة من أجل حرية الصحافة وجعلها أكثر جذرية ؟ .. وكيف ترجمت صفحات الصحف ـ وبخاصة “القومية” ـ الهجوم المعاكس الشرس للسلطة ضد حرية الصحافة؟.. وكذا الالتفاف على تنفيذ ضمانات هذه الحرية ومن أجل إبقاء القيود على الصحافة والصحفيين؟. وفي هذا السياق أيضا ، يحق بعد مضي هذا الزمن التمحيص في قرار مجلس النقابة ثم انضمام النقيب إليه بالتقدم بالاستقالة إلى الجمعية العمومية، ثم الإسراع وفي لحظات بتجديد الثقة بهم وتكليفهم بإدارة المعركة.
كما يستأهل طرح الأسئلة والبحث خارج السردية الصماء التمجيدية فهم كيف جرى صرف الجمعية العمومية ( دائمة الانعقاد ) بعد التحقق من رواية أخرى تقول بـتعمد ” إضعاف زخمها وحضورها”؟ .. وهل كان للجمعية العمومية بالفعل الكلمة الفصل والحاسمة في القبول بحصيلة المعركة ممثلة في القانون 96 لسنة 1996.. أم أن هناك في قيادة النقابة من أسرع بإغلاق القوس في غياب نقاش حقيقي للجمعية ودون إرادة واضحة منها تتأسس على هذا النقاش؟. وكما حدث من تغييب أو غياب الجمعية العمومية في ختام المعركة ضد حبس الصحفيين وفي قضايا النشر الصحفي في مواد السب والقذف وغيرها 6/2007 خلال عهد النقيب الأستاذ “جلال عارف” .
أسئلة 10 يونيو ـ وأظنه وعلى ضوء ما أشرت إليه سابقا لم يحقق وعوده ولم يتمكن من تفعيل أدوات ضغطه بما في ذلك الإضراب ـ تمتد إلى مدى مشروعية تكريم الراحلين الأستاذين “إبراهيم نافع” و”مكرم محمد أحمد” في يوم الصحفي هذا فيما هما يقينا بمثابة رمز لتشوه العمل النقابي بجمعهمها في الآن نفسه لمناصب رؤساء مجالس الإدارة والتحرير وللمؤسسات الصحفية المسيطر عليها من قبل سلطة الدولة؟.. فضلا عن افتقادهما إلى ممارسات تنحاز بوضوح وإصرار لحرية الصحافة كقيادات في صحف قومية لم تجرؤ يوما على نقد رأس السلطة التنفيذية . كما يثور هنا التساؤل عن تآكل وتغييب دور المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان ورجال القانون الأحرار في السردية السائدة الباقية لنا بمرور السنوات عن 10 يونيو ومعركة 95 / 1996. وهذا على الرغم مما يعلمه شهود تلك المرحلة عن الإسهامات المهمة لهم في دعم النقابة والصحفيين في معركة القانون 93.
بل وما يلفت النظر أيضا الآن أنك إذا بحثت عن قرارات الجمعية العمومية ليوم 10 يونيو 1995 لن تجد موقع النقابة قد أعتنى بتوثيقها وإتاحتها وإبرازها. ومن الواضح أن نص هذه القرارات وكوثيقة غائب عن شبكة الإنترنت، وحتى عن عديد من الكتب والمنشورات الورقية التي راجعتها، وبعضها صدر باسم نقيب الصحفيين حينها، وقد اتخذت من معركة القانون 93 لسنة 1995 عنوانا لها . وفي هذا مايفيد بسطوة منطق مشوه يقوم على تقديم الشخص والأشخاص على الموضوع وماهو موضوعي، ويحمل سمات العمل الجماعي ومن أسفل.
وعلى أي حال، ما أحوجنا بعد مضي كل هذه السنوات إلى مراجعة السردية التمجيدية السائدة بشأن 10 يونيو 1995 واختبارها بالوثائق والعلم والنقد الموضوعي وبجمع الشهادات من مختلف مكونات الجماعة الصحفية. ويوما ما في المستقبل إذا ما قدر للصحفيين المصريين أن تكون لهم نقابة مستقلة بحق وديمقراطية وتضم كل الصحفيين المحترفين العاملين في المهنة ربما يصبح ممكنا النقاش حول مواعيد أخرى تستحق على نحو أفضل عنوان ” يوم الصحفي” كإحياء ذكرى 31 مارس المزدوجة وبالغة الأهمية، وحيث إنطلقت مظاهرات الشعب المصري من أجل حرية الصحافة عام 1909 و تأسست نقابة الصحفيين نفسها عام 1941.
وفي كل الأحوال ، كل عام والصحفيين المصريين بخير، ولو على سبيل “المجاملة”، في ظل واقع شديد البؤس والتدهور عليهم وعلى الصناعة والنقابة . حل “عيد الصحفي”محملا بشبهات ومبالغات و أوهام تستحق التدقيق والمراجعة.
.. وبأي حال عدت ياعيد؟
9 يونيو 2022