في ذكراه الحادية عشرة: د. محمد السيد سعيد والبديل.. تجربة الانتصار للمبادئ: عندما تصنع انحيازاتك نصرك القادم
كتب – خالد البلشي
البداية كانت اتصال، فموعد، فلقاء، فتجربة ستبقى واحدة من أهم التجارب الصحفية والانسانية التي خضتها.
1- الاتصال
على الطرف الآخر من التليفون واحد ممن اعتبرهم الكثير من أبناء جيلي، أساتذة وملهمين لهم حتى لو لم يتعاملوا معهم بشكل مباشر، كانت كتابات الرجل الذي بادر للاتصال بي ومواقفه، كافية لأن انتفض واقفا عندما قال لي أنا محمد السيد سعيد، وأريدك أن تعمل معي في تجربة صحفية جديدة نعد لها. بتواضع بالغ قال ربما لن أستطيع أن أوفيك حقك المهني ولا المالي، بينما سارعت بالرد، شرف لي أن أعمل معك كانت فرحتي تسابق الكلمات، مع تأكيدات أنه يكفيني أن أعمل معه.
كانت معرفتي بدكتور محمد السيد سعيد هي معرفة قارئ بواحد من كتابه المفضلين، وصحفي بمصدر مهم من مصادر المعرفة، وابن اتجاه بواحد من معلميه وملهمي هذا الاتجاه، ومهتم بالسياسة بواحد من نبلاء السياسة وأصحاب الرؤى المتمسكين بمبادئهم، قابلته في مرات قليلة لكن الموعد الذي ضربناه للقاء في منتصف صيف 2006 كان هو الموعد الأول للتعامل المهني والانساني معه، جاء الموعد بعد شهور قليلة من تركي تجربة ملهمة منحتها كل ما استطيع من حلم بمهنة مختلفة وخرجت منها بأوجاع كبيرة حول الفارق بين الصورة المرسومة لدى القراء وحقيقة ما يقدمه البعض من مبادئ، هي تجربة الدستور والتي منحتها كل طاقتي مساعدا لرئيس التحرير ومشرفا على قسمي الأخبار والتحقيقات ومحققا وكاتبا لمقال أسبوعي وانتهى كل ذلك بسبب تناقض ما ندعو له مع ممارسات داخلية داخل الصحيفة.
وخلال الشهور الثلاثة بين تركي العمل بالدستور (حلمي الذي تحول إلى أزمة وجودية)، كنت قد خضت تجربة ثانية انتهت قبل ان تبدأ بعد تدخل عنيف من أمن الدولة، أوقف تجربة إصدار (الصباح) الاسم الذي اخترناه لتجربة لم تتخط حدود مقرها، ليتم وأدها في مهدها.
رغم آلام التجربة الأولى، كنت لا أزال أحمل نفس الحلم، ونفس الثقة، كان حلمي بصحافة توازن بين المبادئ والافكار، وتطرح شكلا مختلفا لازال يشاغلني بقوة، وكانت تجربة الحياة قد علمتني أن فقدان الثقة في شخص او مجموعة من الأشخاص لا يعني إهدار الفكرة العظيمة، أو إهدار الثقة في الآخرين.
2- الموعد
كان الموعد منتصف صيف العام 2006 ، كانت المرة الأولى التي اذهب فيها لـ 21 عبد المجيد الرمالي بباب اللوق، وكان اللقاء الأول مع دكتور محمد السيد سعيد، كرئيس وزميل عمل محتمل، اختار الدكتور وهو اللقب الذي اخترنا ان نسميه به طوال عملنا معه، أن يكون الموعد على أرض العمل التي لم تكن جاهزة بعد، لكن نظرة أولى على الاعداد لمسرح العمل كانت كافية لتكشف كيف انشغل صاحب المكان باعداد تفاصيل كل شيء ، أو بالإعداد لتجربته الحلم بدءا من الموقع المتوسط بقلب القاهرة، ووصولا لحلمه في خلق بيئة عمل مناسب تلائم اسم الموقع ولتكون بديلا لبيئات عمل أخرى، تسببت في رحيلي عنها، كان مقر البديل الذي خلقه محمد السيد السعيد بروحه، وانشغل بتفاصيله هو المعادل الموضوعي لكل ما رفضته، وكان الحرص على خلق النموذج البديل طبقا لرؤية الدكتور هو الحاكم لكل التفاصيل.
دخلت إلى مقر البديل كانت علب الدهان تنتشر بالمكان بينما كانت تغطي ارضيته خليط من قماش لحماية الارض من آثار الدهان وبعض من نشارة الخشب التي يستعملها الصنايعية، بينما كان الصنايعية ينتشرون في الغرف المختلفة لمقر البديل، كان هناك عناية باختيار الألوان بحيث تضفي على مكان العمل نوع من الالفة والبهجة وكان هناك حرص أن يتم اعداد المكان بحيث يخلق هذه الالفة، ويكون مناسبا للعمل بينما امتلأت واحدة من الغرف بمستنسخات عالية الجودة من لوحات عالمية لـ أشهر الفنانين التشكيلين المصريين، معدة لتعلق في المكان وتملأ جدرانه، علمت فيما بعد أن الدكتور محمد سيد سعيد هو من اختارها بمساعدة شقيقه الأكبر الفنان سيد سعيد، وأنه هو من تفرغ لاختيار الالوان وقف على يد عمال الدهان، دقيقة بدقيقة للوصول لدرجة معينة من اللون، ولاختيار الدرجات المتناسقة لكل غرفة، كان حريصا على أن يكون المكان اشبه بلوحة فنية، وكان مؤمنا أن البداية دائما هي خلق جو ملائم للعمل، للدرجة التي دفعته لتغيير دهان بعض الحوائط أو الغرف للوصول إلى درجة معينة، رأى فنانون ومتخصصون أنها الاكثر إراحة للعين أو تساعد أكثر على توفير حالة ملائمة للعمل، منذ اللحظة الأولى وقبل اللقاء، كان الحرص على التفاصيل هو عنوان البداية في التجربة التي لازلت أدق أبوابها، والحلم الذي وددت أن أتشارك في صنعه منذ لحظاته الأولى، وكان العنوان الذي يقف وراء العناية بكل هذه التفاصيل وخالق دستور المكان الجديد هو الدكتور محمد السيد سعيد.
صورة المكان والعناية بتفاصيله وبخلق بيئة ملائمة للحلم، أكملتها صورة المثقف المثالي الذى وقف شامخا صلبا فى مواجهة رئيس الجمهورية ليجأر فى وجهه بالحق، جاءت الذكريات التي سبقت اللقاء لتستعيد صورة الرجل الذي وقف أمام مبارك ليقول رأيه بكل صدق حول أوضاع البلاد، وليعطيه يدا بيد مشروعا مقترحا للإصلاح السياسى وضع فيه خلاصة خبرته فى البحث السياسى والعمل الأهلى، وبقدر ما خطفتني عناية الرجل بالتفاصيل كنت انتظر أن اسمع تفاصيل بروفة الحلم التي أعدها الدكتور، منتظرا مني أن اشاركه في انزالها لأرض الواقع.. لكن المفاجأة السعيدة أن الرجل الذي شغل نفسه باعداد مسودات كان ينتظر بايمان بالغ بافكاره ان نتشارك معا تطوير هذه الرؤية والافكار، وكان مستعدا أن يسمع ويتلقى النقد حتى من أصغر محرر اخترته لنتشارك سويا خلق نواة قسم التحقيقات في البديل. قبل أن يبدأ اللقاء كانت قناعة ما قد بدات تتسرب داخلي أن الحلم الذي طالما راودني يراوح مساحات التحقق.
3- اللقاء
بعد جولة في المكان، انضم لي فيها الدكتور بنفسه، عندما علم بوصولي، مصطحبا خريطة ما، لتوزيع الاقسام واماكنها طبقا لرؤيته وقتها، وهي الخريطة التي تبدلت عدة مرات بعدها استجابة لما رآه أخرون من الفريق – الذي أكتمل بعدها بشهور – ضرورات العمل واحتياجات الزملاء، اصطحبني الدكتور إلى الغرفة التي اختارها لنفسه، والتي كان حريصا ألا تكون الأكبر ولا الأكثر تميزا، على قدر حرصه أن تتوسط المكان بحيث يكون قادرا على التواصل مع الجميع وقريبا منهم، وهي الغرفة التي استجاب فيما بعد لاختيار بديل لها، توافقا مع رؤية زملاء آخرين لما قالوا أيضا أنه ضرورات العمل.
دخلت الغرفة يشغلني تناقض طالما راودني في المرات القليلة التي قابلت فيها محمد السيد سعيد، والتي كان أولها في مقر مركز القاهرة بجاردن سيتي، وأنا أعد تحقيقا لمجلة اليسار، كنت كلما رأيته يدور في ذهني سؤال واحد كيف صرخ هذا الرجل الدمس، الهادئ الطبع في وجه اللواء الذي أشرف على تعذيبه في سجن ابوزعبل، وقت اعتقاله عام 1989، “إضرب يا جبان”، وهي الحكاية التي كنت قد سمعتها من الاستاذ مدحت الزاهد رفيقه في الحبسة، وقت عملي بمجلة اليسار، وكيف تحمل بعدها كل التعذيب الذي أعقب ذلك، كنت أود أن اطرح عليه الكثير من الأسئلة وكنت في الوقت نفسه مشغولا بالطريقة الت اعرب له فيها عن سعادتي بالعمل معه دون أن يشوبها أي تملق، ولكن قبل أن افتح فمي واخرج من تساؤلاتي بادرني هو بالقول للمرة الثانية، أنه سعيد أني قبلت دعوته للعمل معه، وكرر اسفه أنه لن يكون قادرا على أن يوفيني حقي، عارضا علي مرة أخرى منصب رئيس قسم التحقيقات، والراتب المخصص له، معتذرا عن قلة الراتب والذي كان أقل من آخر راتب حصلت عليه في الدستور، مشيرا إلى انه وضع سياسة عادلة للأجور تتلافى كل الانتقادات عن الفوارق الشاسعة بين أعلى وأقل راتب، وكانت المفاجأة أن راتب الدكتور لم يتجاوز مرة ونصف راتبي ، وأن سقف الرواتب في الجريدة لن يتجاوز 5 آلاف جنيه في محاولة لتوجيه الميزانية لرفع رواتب المحررين وطالبني بالمساعدة في وضع حد أدنى للأجور يضمن عدالة توزيع الدخل، في اشارة منه لمعرفته السبب وراء ترك تجربتي المحبوبة في الدستور، وكان اقتراحي ألا يزيد اعلى راتب عن 5 أمثال أو 7 أمثال اصغر راتب.
كان الرجل قد أعد كل العدة ليصنع تجربة مثالية، لكن خذله في التجربة تصوراته عن السوق الصحفي وشكل الصحافة، كان يحلم بتجربة صحفية على مقاس كبرى التجارب الأوربية، لكنه لم يكن عليما باحتياجات غرف الاخبار والتحقيقات، وكان من موقعه ككاتب يميل لصحافة الرأي والتعليق، ظنا منه أنها ما يحتاجه المجتمع، وأنه يمكنه أن ينافس بصحافة رأي جادة ، كان هذا رهانه وربما نقطة الضعف في تصوره، لكنه كان مستعدا لتقبل النقاش حولها ولتغيير رأيه وتطويره من خلال المناقشات المعمقة التي فتحها مع الجميع، او من خلال التجربة التي كشفت أن المجتمع يحتاج للمعلومة قبل التحليل، وأن كثير من الفئات في هذا المجتمع تحتاج لمن يعبر عنها ولا تجده، وأن التحليل المفتقد لمعلومات هذه الفئات ربما لن يكتمل.
ختمنا اللقاء بموافقة غير مشروطة مني على كل ما طرحه حول طبيعة عملي وراتبي، إلا شرطين ، الأول رفضي عرضه بالبدء في الحصول على راتبي مع نهاية الشهر وتأجيله لوقت يحصل فيه الجميع على رواتب بعد بداية الاعداد الرسمي للتجربة، والثاني حريتي في اختيار فريقي، وأن أغلبه سيكون من الشباب صغير السن، مع وعد بلقاءات ممتدة لتقريب الرؤى، استجاب لها د. محمد السيد سعيد، وتحمل لانتقادات حادة من شباب صغير، ربما بعضهم لا يعرفون الكثير عن الرجل الذي يجلس معهم ولكن ذلك لم يمنعهم أن يوجهوا لرؤيته الانتقادات، انطلاقا من إيمانهم بمهنتهم على قدر ايمانه هو بقدرتها على التغيير. بالتوازي مع اللقاءات مع فريق التحقيقات بدأت سلسلة من الاجتماعات الاخرى بين الفريق الذي اختاره الدكتور لقيادة الصحيفة، في محاولة للاتفاق على السياسة التحريرية، ومع بداية اللقاءات بدأت معرفتي الكاملة بالرجل الذي صاغ بدايات التجربة الفريدة، ووضع لها أعمدتها، والتعرف على سماته الانسانية ومدى استعداده للنقاش وقبوله للنقد والمراجعة دون أن يفقد حسه الانساني.
وطوال تعاملي معه كان شاغلي الشاغل – ربما بسبب ما وجدته من تناقض بين الممارسات والافكار في تجربتي السابقة- ، هو عقد مقارنات دائمة بين أفكار الرجل الذي طالما قرأت له وممارساته، وكانت المفاجأة الأولى هو هذا القدر من الاتساق الذي دفع هذا الرجل أن يترك وظيفة ضخمة براتب أكثر ضخامة، وحلم كبير كرئيس لمركز دراسات اقليمي بالدوحة ليضع لنفسه راتب لا يصل إلى 10% من المعروض عليه، مقابل أن يبني حلمه بصحيفة مختلفة تعبر عن اليسار في مصر، لكن ظل الاختلاف بيننا هو رؤيته ورؤيتي لصياغة الحلم من حكم موقعينا من الصحافة، هذا الاتساق هو ايضا هو الذي دفعه أن يحضر معه في أحد الأيام مجموعة من الأدوية لزميل سمعه في اليوم السابق يشكو من أعراض مرض معين، أو يصطحب ثالث لمكتبه ليسمع منه، أو يستوقف زميل افرط في نقد أحد مواقف الدكتور من أزمة تواجه الجريدة ليسمع منه بهدوء ويستمع لمقترحاته، لم يكن محمد السيد سعيد مثاليا في كل تصرفاته لكن مثاليته نبعت من محاولته الدائمة أن يوزان بين افكاره وتصرفاته، وكانت الازمة التي لاحقته، هي إحساسه الدائم بالمسئولية عن كل شيء في التجربة محملا نفسه اعباء فشل إداري أو أخطاء بداية طبيعية، ومستجيبا في بعض الأوقات لابتزاز يحمله خسائر مالية كان لابد أن تحدث حتى تستوي التجربة على عودها، أو تقييم مبكر لشخص لا يدرك طبيعة تطور التجارب الصحفية، أو كيف تحفر لنفسها طريقا للبقاء خاصة إذا كنت حريصا على خلق مساحة جديدة وطرق سبل صارت غير مطروقة، والبحث عن جمهور جديد لنقل آلامه وأحلامه.
4- التجربة
منذ لحظاتها الأولى وكعادة البدايات، كانت التجربة مطاردة بمجموعة من الأزمات، بعضها ابن للمناخ العام، وبعضها بسبب عدم تجانس الفريق، والذي يحتاج لفترة طويلة حتى يصل للتجانس، وبعضها بسبب موقف النظام من الدكتور، وبعض ممن اختارهم لمشاركته صنع التجربة والذين كان أغلبهم مصنفين أمنيا في خانة العناصر الإثارية.
بدأ العمل فعليا مع بدايات شهر ديسمبر من العام 2006، بعد شهور من الاعداد والمناقشات والتأجيلات بسبب تعطيلات إدارية في مقدمتها رفض المجلس الأعلى للصحافة الموافقة على الرخصة والذي تحول لقضية في اروقة المحاكم قبل انطلاق صافرة البداية، كان الحلم في البداية الصدور مع بداية العام، لكنه تاجل أكثر من مرة ليتأخر معه موعد بداية العمل الفعلي من شهر اكتوبر كما اتفقنا إلى شهر ديسمبر، مع تحديد موعد جديد للصدور وهو شهر مارس، وهو الموعد الذي تأجل مرتين بعدها ليصاحبه تراخي الاداء رغم أننا وضعنا من بين الاختيارات اطلاق موقع البديل لحين الحصول على التراخيص، لكن جانبا كبيرا من الفريق باستثناء الجناح الشاب، في التجربة ، وبعض الكبار الذين اشتبكوا مبكرا مع الصحافة الالكترونية لم يكن مؤهلا للعمل الالكتروني، وكان محمد السيد سعيد يحاول ملاحقة كل الافكار لتمتد اجتماعات التحرير لساعات في نقاشات مطولة حول التجربة وكيفية الخروج بها، جاء الحكم بالحصول على الرخصة في موعد غير ملائم، على مشارف بداية صيف جديد، ليكون البديل أمام خيارين كلاهما مر، الانتظار لشهور جديدة للخروج في موعد ملائم، أو الاعداد للصدور الفوري، واستمع الدكتور للاراء وكان الخيار الثاني هو الانطلاق، واستغلال فترة الصيف للتطوير أولا باول، خلال فترة العمل كان الدكتور جاهزا لاطلاق قدرات الجميع بلا اي قيود او حدود، اسقط فكرة الرقيب الداخلي منذ اللحظة الأولى، لكنها تخلقت داخله بفعل التقييم المبكر للتجربة، والذي بدأ بعد اقل من اسبوعين من بدايتها، دفعه أحساسه بالمسئولية عن التجربة وعن أموال المساهمين فيها، لأن يقبل اشياء أعلن الجانب الشاب من الفريق رفضها بكل قوة، كان انحيازه لهذا الجانب ورؤيته، لكن تحميله المبكر للمسئولية عن كل التفاصيل دفعه لقبول تغييرات مبكرة، وصلت لحد اعداد بديل له فرض عليه من خارجتجربته وانحيازاتها.
كان الاختيار الاسهل هو الانسحاب لكنه بواقع المسئولية أكمل، متنازلا عن الكثير من تفاصيل حلمه، ومراهنا على نضج التجربة، ووسط كل هذه الضغوط، ظلت الرؤية التقدمية للصحافة هي الحاكمة، وظل انحيازه لصالح المحررين، ولصالح فتح نقاش دائم مع الجميع، حتى مع اول غضب في مواجهته اشعلته تدخلات الملاك، جاء ليحاور المحررين الغاضبين، ويسمع منهم، ومع الوقت يتم فرض شخص جديد للرقابة على الصحفي الاخر الذي تم اختياره من قبل الملاك، بينما تتصاعد أزمة محمد السيد سعيد الداخلية ورهانه ان تنضج التجربة من داخلها وان تشق طريقها.
اختار محمد السيد سعيد وقت الأزمة التي صنعها تقييم مبكر، وتدخلات غير العالمين بالصناعة، أن يراهن على الشباب الصغير، وعلى غضبه، فاطلق له العنان، في طرق مرسومة ضد القهر والفساد وضد التعذيب الذي ذاق مرارته، وضد الشيخوخة التي لحقت بالدولة والتي تهاجم تجربته الوليدة، وضد تحالف القهر والفساد وعسكرة الدولة، وانتصارا للشباب والفقراء، وللعلم في مواجهة ترهل دولة مبارك، وظهر ذلك بوضوح في حملات البديل المبكرة لكن العيب كان في افتقاد التجربة للشكل الصحفي وعدم ترك الفرصة الكاملة له للتشكل بهدوء.
المفارقة إنه في الوقت الذي بدأت التجربة تصنع ملامحها، جاءت تدخلات الملاك لتعطل نمو الفكرة لصالح الشكل وتستنسخ تجارب شائهة على حساب المضمون، بينما تركت ديمقراطية محمد السيد سعيد وقبوله للنقد مهما كان حادا الفرصة للتجربة لتنضج داخليا، بفعل تصارع الرؤى والافكار داخلها، ومع الوقت خلقت البديل شكلها الصحفي بفعل رهانات واضع أساسها، وايمان مترسخ من مجموعة الشباب داخلها بدور مختلف للصحافة ظلوا احرص على اكتماله في مواجهة التداخلات.
وبينما تنضج التجربة بشكل سريع متخذة من كسر الاسقف المنخفضة سلاحا تواجه بها رؤى تحاول النيل منها، وفيما وجدت البديل ضالتها وجمهورها في مواجهة القمع وأشكال السيطرة القديمة، لتكتمل هذه الرؤية وتحدد انحيازاتها الكاملة مع تصاعد حركة الجماهير من المحلة وصولا لاحداث 6 ابريل والتي اختارت البديل بفريقها الشاب أن تكون صوتا لها بعد أقل من 9 شهور من انطلاقها، تأتي الأقدار بما لا تشتهي السفن، فبينما يشب عود التجربة نافضة عنها تدخلات كادت أن تنال منها مبكرا، مستعينة بروح جديدة ورؤية منحازة للناس كانت تنضج بشكل يومي من 6 ابريل لحكم العبارة وحتى سقوط صخرة الدويقة والازمة الاقتصادية العالمية، وبينما تتحول مواجهتها للتعذيب وزبانيته لحملة دائمة، كان المرض قد بدأ يهاجم جسد الرجل الدمث واضع اسس التجربة، بفعل الضغوط المبكرة عليه واحساسه بالمسئولية المضاعف.
لمدة تتجاوز الثمانية شهور قسم الدكتور نفسه بين آلام تزداد يوما بعد يوم وحلم بدأ في النضوج متابعا تفاصيله، واحساس يتضاعف بالمسئولية مع كل نمو للتجربة، والارتكان لرأي من واصلوا معه، والاهتمام بتفاصيل الجميع الانسانية، وقبول بالنقد الحاد والذي وصل في بعض الاحيان لنقاشات حول موقفه من الانتقادات الموجهة له قبلها جميعا بصدر رحب، كان المرض ينال منه في بعض الاحيان فيجبره على ملازمة السرير لفترة طويلة، لكنه لا يمل عن مغالبته باقتناص اي فرصة راحة للتواجد ورعاية التجربة، والتي بدأ يشعر أنها في طريقها للاستواء على عودها، في مرحلة من المراحل قبل الرجل أن يستعين بمساعد وان يحدد له راتبا أعلى مما يتقاضاه هو، وفي مرحلة تالية تدخل لتعديل ذلك عندما قررت الاستعانة بزميل لملأ فراغ كبير صنعه تدخل الملاك براتب أعلى مني ومنصب أعلى، ليقف في وجهي بكل قوة رافضا أن أكرر ما فعله حتى لو كان الهدف هو استمرار التجربة، فعدل من راتبي ووضعني في موقعي ومكانتي الأعلى، مصرًا على عدم التنازل مرة أخرى، بينما كانت البديل تصنع جيلها الجديد، تحت أعين الدكتور، كان المرض يهاجم بشراسة، وبينما أختار جانب من الملاك البحث عن رئيس تحرير من الخارج، لقيادة التجربة بعد أن كشفت التحاليل عدم قدرة الدكتور على الاستمرار، كان اختيار فريق التحرير ان يكمل مع الحفاظ على اسم الدكتور كعنوان التجربة حتى يهزم المرض ويعود لنا من جديد، بينما تدخل الدكتور ليساند للمرة الأخيرة معلنا رهانه على شباب التجربة وداعما اختياري لاكمل طريقا بدأته معه، ربما كان الموقف الأشد صعوبة على الجميع، كنت قد اتفقت مع ملاك التجربة أن نكمل ما بدأناه سويا وان يظل اسم الدكتور رئيسا للتحرير بينما اتولى المسئولية عنه كرئيس تحرير تنفيذي لحين عودته لنا مرة أخرى من رحلة علاج تمني ألا تطول، وحددنا موعدا لاعلان الأمر لفريق التحرير.
كانت المفاجأة عندما حضر الدكتور ليعلن للجميع أنه مصر أن يعطي التجربة لأصحابها وانه وقت الشباب، ملقيا بالمسئولية كلها على عاتقي، ومعلنا الاستقرار على اختياري كرئيس تحرير لأول مطبوعة يومية لليسار، كان الخبر صاعقا، حملني الدكتور ما لا أحتمل ووضعني وجيلي في مواجهة المسئولية، استندت لحائط غرفة الاخبار التي اجتمعنا فيها لاعلان القرار وانفجرت في نوبة بكاء عنيفة، بينما اختلطت مشاعر زملائي بين غضب شديد ضد ظروف أجبرت الدكتور أن يترجل وامتنان لصاحب ضربة البداية عندما أصر على الانتصار لجيلهم، واحساس بالمسئولية عن الحفاظ على التجربة والانطلاق بها، وهو ما تحول بعدها لطاقة عمل انتجت عشرات الانفرادات والحملات الصحفية، وإصرار على إثبات أنفسهم وانهم على قدر الثقة بهم وربما الأحق بقيادة مرحلة جديدة، كان اختيار الدكتور ربما استشرافا لمرحلة جديدة ورؤية لجيل جديد يتشكل، لكن ظلت خبرته وملامح التجربة التي صنعها وانوائها دوافع لاكمال المسيرة بعدها.
ربما تظل البديل عنوانا لرحلة محمد السيد سعيد، التي انتهت جسديا قبل 11 عاما، وعنوانا لانتصاره لاختياراته وافكاره، واتساقه مع مبادئه حتى الرمق الأخير من الحياة، كانت البديل هي حربه الأخيرة التي انهكته، لكنها الحرب التي انتصر فيها معلنا تسليم الراية لجيل جديد، بينما كان هذا الجيل يجاهد لصنع تجربته، مستعدا لمواجهات أخرى وانتصارات وهزائم متعددة، ومؤمنا أنه مهما كان عنف الانكسار فإن الانتصار الاكبر قادم حتى لو صنعه القادمون منا.