في الذكرى الـ46 لها.. حيثيات الحكم ببراءة ١٧٦ متهمًا في انتفاضة الخبز: سببها الوحيد القرارات الاقتصادية برفع الأسعار
المصريون يلاقون العنت للحصول على طعامهم وشرابهم ويجابهون الصعاب وهم يواجهون صعود الأسعار وثبات الدخول
القاضي حكيم منير صليب: المعاناة كانت تختلط بحياتهم.. والأحداث متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب
خروج الأعداد الهائلة من الشعب للطرقات والميادين كان توافقيا وتلقائيا محضا.. وإذا بالجموع تتلاحم معلنة سخطها وغضبها
كتبت- ليلى فريد
“مما لا شك فيه أن تلك الأحداث الجسام التي وقعت يومي 18 و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار، فهي متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب، ولا يمكن في مجال العقل والمنطق أن ترد تلك الأحداث إلى سبب آخر غير تلك القرارات، فلقد أُصدرت على حين غِرّة وعلي غير توقع من أحد، وفوجئ بها الناس جميعا بمن فيهم رجال الأمن، فكيف يمكن في حكم العقل أن يستطيع أحد أن يتنبأ بها ثم يضع خطة لاستغلالها ثم ينزل إلى الشارع للناس محرضا ومهيجا”، كان ذلك جزءا من حيثيات حكم البراءة الذي أصدره المستشار حكيم منير صليب، لصالح عشرات المقوض عليهم في انتفاضة الخبز التي وقعت مثل هذا اليوم منذ 46 عامًا.
وبسبب هذا الحكم المنصف الذي لم يستجب لرغبات الرئيس الراحل أنور السادات في التنكيل بمن خرجوا في المظاهرات، حفر القاضي الذي رحل في10 فبراير 2004 اسمه بين الخالدين ومازال حيًا في ضمير الوطن، وستردد الأجيال المتعاقبة سيرته الطيبة ونزاهته التي أعادت الأمور إلى نصابها الصحيح.
حكم منير ببراءة ١٧٦ متهم في الانتفاضة، وقد بدأت المحاكمة يوم أول ابريل سنة 1978، واستمرت جلساتها في الانعقاد على مدى سنتين، وكان خلالها على عبد الحكم عمارة وزميله المستشار أحمد حسن بكار مع حكيم منير صليب على قلب رجل واحد.
المحكمة قالت في حيثيات حكمها: المحكمة وهى تتصدى لتلك الأحداث بالبحث والاستقصاء لعلها أن تستكشف عللها وحقيقة أمرها لابد أن تذكر ابتداء أن هناك معاناة اقتصادية كانت تأخذ بخناق الأمة المصرية فى ذلك الحين وكانت هذه المعاناة تمتد لتشمل مجمل نواحى الحياة والضروريات الأساسية للإنسان المصرى، فقد كان المصريون يلاقون العنت وهم يحاولون الحصول على طعامهم وشرابهم ويجابهون الصعاب وهم يواجهون صعودا مستمرا فى الأسعار مع ثبات مقدار الدخول.
وتابعت: ثم إن المعاناة كانت تختلط بحياتهم اليومية وتمتزج بها امتزاجا فهم مرهقون مكدودون فى تنقلهم من مكان إلى آخر بسبب أزمة وسائل النقل وهم يقاسون كل يوم وكل ساعة وكل لحظة من نقص فى الخدمات وتعثر فيها، وفوق ذلك كان أن استحكمت أزمة الإسكان وتطرق اليأس إلى قلوب الناس والشباب منهم خاصة من الحصول على مسكن وهو مطلب أساسى تقوم عليه حياتهم وتنعقد آمالهم فى بناء أسرة ومستقبل، وسط هذه المعاناة كان يطرق أسماع المصريين أقوال المسؤولين والسياسيين من رجال الحكومة فى ذلك الوقت تبشرهم بإقبال الرخاء وتعرض عليهم الحلول الجذرية التى سوف تنهى أزماتهم وتزين لهم الحياة الرغدة الميسرة المقبلة عليهم.
وأضافت: بينما أولاد هذا الشعب غارقون فى بحار الأمل التى تبثها فيهم أجهزة الإعلام صباح مساء إذ بهم وعلى حين غرة يفاجأون بقرارات تصدرها الحكومة ترفع بها أسعار عديد من السلع الأساسية التى تمس حياتهم وأقواتهم اليومية، هكذا دون إعداد أو تمهيد، فأى انفعال زلزل قلوب هؤلاء وأى تناقص رهيب فى الآمال وقد بثت فى قلوبهم قبل تلك القرارات وبين الإحباط الذى أصاب صدورهم ومن أين لجل هذا الشعب ومعظمهم محدود الدخل أن يوائموا بين دخول ثابتة وبين أسعار أصيبت بالجنون، وإذا بفجوة هائلة تمزق قلوب المصريين ونفوسهم بين الآمال المنهارة والواقع المرير، وكان لهذا الانفعال وذلك التمزق أن يجدا لهما متنفسا، وإذا بالأعداد الهائلة من هذا الشعب تخرج مندفعة إلى الطرقات والميادين وكان هذا الخروج توافقيا وتلقائيا محضا، وإذا بهذه الجموع تتلاحم هادرة زاحفة معلنة سخطها وغضبها على تلك القرارات التى وأدت الرجاء وحطمت الآمال.
وواصلت: حاولت جهات الأمن أن تكبح الجماح وتسيطر على النظام، ولكن أنى لها هذا والغضب متأجج والآلام مهتاجة، ووسط هذا البحر الهادر وجد المخربون والصبية سبيلا إلى إرضاء شهواتهم الشريرة، فإذا بهم ينطلقون محرقين ومخربين ومتلفين وناهبين للأموال وهم فى مأمن ومنجاة وقد التهبت انفعالات هاته الجموع وتأجج حماسهم عندما تعرض لهم رجال الأمن المركزى بعصيهم ودروعهم وقنابلهم المسيلة للدموع، فكان أن اشتعلت الأحداث وسادت الفوضى ولم يكن من سبيل لكبح الجماح وإعادة الأمن والنظام إلا فرض حظر التجوال ونزول رجال القوات المسلحة إلى الميدان وأمكن حينئذ، وبعد جهد خارق استعادة الأمن والنظام.
وقالت المحكمة في حكمها التاريخي: الذى لا شك فيه وتؤمن به المحكمة ويطمئن إليه ضميرها ووجدانها أن تلك الأحداث الجسام التى وقعت يومى 18 و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار فهى متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب.
انتفاضة الخبز:
في يوم 17 يناير 1977 أعلن نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية الدكتور عبدالمنعم القيسوني، في بيان له أمام مجلس الشعب، مجموعة من القرارات الاقتصادية منها رفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية، وبذلك رفع أسعار الخبز والسكر والشاى والأرز والزيت والبنزين و25 سلعة أخرى من السلع الهامة في حياة المواطن البسيط.
وقوبلت هذه التصريحات بموجة غضب عارمة، حيث بدأت الانتفاضة بعدد من التجمعات العمالية الكبيرة في منطقة حلوان بالقاهرة في شركة مصر حلوان للغزل والنسيج والمصانع الحربية وفى مصانع الغزل والنسيج في شبرا الخيمة وعمال شركة الترسانة البحرية في منطقة المكس بالإسكندرية.
وبدأ العمال يتجمعون ويعلنون رفضهم للقرارات الاقتصادية وخرجوا إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة تهتف ضد الجوع والفقر وبسقوط الحكومة والنظام رافعة شعارات منها:
“ياساكنين القصور الفقرا عايشين في قبور”، و”ياحاكمنا في عابدين فين الحق وفين الدين”، و”سيد مرعى يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه”، و”عبد الناصر ياما قال خلوا بالكم م العمال”، “هو بيلبس آخر موضة وإحنا بنسكن عشرة ف أوضة”، “لا اله الا الله السادات عدو الله”.
انتقلت المظاهرات للجامعات وانضم الطلاب للعمال ومعهم الموظفين والكثير من فئات الشعب المصري في الشوارع والميادين القاهرة والمحافظات يهتفون ضد النظام والقرارات الاقتصادية.
ونزل إلى الشارع عناصر اليسار بكافة أطيافه رافعين شعارات الحركة الطلابية، واستمرت هذه المظاهرات حتى وقت متأخر من الليل مع عنف شديد من قوات الأمن، وتم القبض على مئات المتظاهرين وعشرات النشطاء اليساريين، ونزل الجيش المصري لقمع المظاهرات وأعلنت حالة الطورايء وحظر التجول من السادسة مساءا حتي السادسة صباحا، وكان هذا أول نزول للقوات المسلحة، واحتحاك بالشارع المصري بعد حرب أكتوبر.
جاء المظاهرات الكبيرة بعد الانفتاح الذي بشر به السادات وتبناه هو التوجه نحو الغرب، والانتقال إلى الرأسمالية والاقتصاد الحُرّ، وتخفيف قبضة الدولة على الشؤون الاقتصادية والإنتاجية.
كان هذا الانفتاح انقلابًا على “الاشتراكية” التي انتهجها سلفه جمال عبد الناصر (1918- 1970) منذ قيام ثورة يوليو 1952، حيث كان للدولة الدور الأكبر في إدارة الاقتصاد والهيمنة على عناصر الإنتاج وأدواته بـ”قصد” تحقيق العدالة الاجتماعية، وتذويب الفوارق بين الطبقات.
وجاء مردود هذه السياسات متمثلا في الثراء الفاحش لفئة أو طبقة محدودة، دون أي عوائد تُذكر لهذا الانفتاح على العامة، وانتشرت بسرعة الصور المعبرة عن زيادة الفوارق في بداية ظهور تعددية أنواع التعليم، والخدمة الصحية الخاصة، ومظاهر كثيرة للبذخ. وبالجملة كان الانفتاح بداية لتدهور معيشي، طال الكثيرين، وراح يتسع حتى يومنا هذا بشكل غير مسبوق.
هذا الانفتاح جرى وصفه وإشهاره بأنه “سداح مداح”، والتوصيف للكاتب الصحفي الراحل أحمد بهاء الدين.
رافق تلك التغيرات التي أحدثها الانفتاح، إصرارُ السادات على التسلط وتأكيد النموذج الأبوي لنظام حكمه، بترديده الدائم لفكرة أنه رب العائلة وكبيرها، وغيرها على شاكلة أخلاق القرية وعيب وما إلى ذلك من مفردات كان يستعملها وكأنه عمدة من الزمن القديم يدير بلدة صغيرة في الريف.
واشتهرت الانتفاضة التي خرجت لرفض الغلاء لاحقا باسم “ثورة الخبز”، إلى أن هدأت الأمور بتراجع السادات مبكرا عن قرارات رفع الأسعار وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل الزيادات.
وأحدثت هذه الانتفاضة جرحا نفسيا غائرا لدى “السادات”، وراح يصفها على الدوام بأنها “انتفاضة حرامية”، وظل مُصرًّا على هذه التسمية، حتى نهاية حكمه باغتياله في 6 أكتوبر عام 1981.