في الذكرى العاشرة لـ موقعة الجمل د. منى مينا تكتب عن دروس ثورة 25 يناير: توهان التوجه والتباس المعارك
10 سنوات على موقعة الجمل ..كل سنة وكل المتعطشين للعيش والحرية والعدالة والكرامة طيبين، في الذكري العاشرة لثورة يناير بدأ الكثيرون يحاولون تحليل سبب الهزيمة ..نعم يجب أن نواجه أنفسنا بشجاعة ونعترف بالهزيمة..
طبعا أنا من المنحازين للأمل أن تكون الهزيمة مؤقتة .. لذلك يبقى تحليل الأسباب واستخلاص الدروس المستفادة مهمة ضرورية وملحة، لانجاح السعي لأحلامنا ولحقوقنا التي لا يمكن التنازل عنها في الحرية والعدالة والكرامة.
لماذا ثار المصريون ؟
ثار المصريون في فهمي لأنهم وصلوا لأنهم “مش عارفين يعيشوا” معاناتهم اليومية مع الغلاء والبطالة والفساد والقمع وانهيار الخدمات بلغت درجات رهيبة.. وكانت واقعة مقتل خالد سعيد كالقشة التي قصمت ظهر البعير .. مع سد الطريق أمام أي محاولات إصلاح .. ثم جاءت نافذة الأمل التي فتحتها ثورة الياسمين في تونس … إذن هناك أمل في حياة جديدة كريمة ..
ثار المصريون أملا في هذه الحياة الكريمة .. ورفعوا شعارات تنادي بالعيش والحرية والعدالة والكرامة …ولكنها للأسف ظلت شعارات شديدة العمومية، ولم تتجسد في أي مطالب أو برامج إقتصادية اجتماعية ..
قد تكون الصورة المنشورة مع البوست مثالا على ذلك .. حيث سقطت سهوا من صياغة ما إطلق عليه “مطالبنا” أي مطالب لها بعد إقتصادي إجتماعي، وتركزت المطالب على البعد السياسي ..
ونجحت الثورة فعلا في الاطاحة بمبارك .. ولكن تعاقبت بعده حكومات كثيرة لا تختلف عنه في التوجه ..
وخدعنا بتغيير الوجوه .. ولكن ظلت الحكومات المتعاقبة تنحاز وتنفذ نفس السياسات .. حتى وإن كانوا يوما ما معنا في ميدان الثورة ..
ليكون الكلام أوضح سأضرب مثالا بالمطالب المشروعة للأطباء ولقطاع الصحة الذي أتعامل مع تفاصيله الدقيقة منذ سنوات طويلة..
منذ أكثر من عشرين عاما يطالب الأطباء بحقهم في أجور عادلة ومعاملة كريمة .. يأتي الرد على هذه المطالبات دائما بإنها مطالب عادلة و لكن “مش وقته” دائما الوقت غير مناسب .. وإذا علا صوت المطالبة تعتبر “عمل عدائي ولا يقدر ظروف الدولة” وقد تعتبر “عمل ضد الدولة”.
كانت هذه هي الردود التي واجهتنا دائما أيام مبارك .. واستمرت أثناء كل الحكومات التي تلته بما فيها حكومة الإخوان اللذين يفترض أنهم كانوا يوما ما معنا في الميدان.
يسير بالتوازي مع حقوق الأطباء المطالبات الخاصة برفع ميزانية الصحة وتحسين الخدمات الصحية للمواطنين .. نفس المطالب نرفعها و ندلل عليها دون استجابةمن حكومات متعاقبة ..تختلف في المسميات ولكن لهم نفس الموقف المتجاهل لحق المصريين في الصحة ..
لا يختلف الموقف إذا ما نظرنا لحقوق المعلمين ولقطاع التعليم ..
ولا لحقوق العمال ومحاولات الحفاظ على الصناعة الوطنية ..ولا للسياسة الضريبية وسياسات الأجور والمعاشات، ولا لأوضاع الفلاحيين ..
إذن إختلفت حكومات ما بعد الثورة ولكن كان لها جميعا – بما في ذلك حكومة الإخوان- موقف واحد بنفس الحجج أحيانا حرفيا ..ضد مطالب العدالة الإجتماعية .. ضد أمل الشعب في الحياة الكريمة .. وهذا في رأي يضعهم جميعا في معسكر واحد ضد تطلع الشعب للحياة الكريمة ..ضد مطالب الثورة ..
وهاجم الكثيرون من مدعي الثورية مطالب العدالة الاجتماعية لفئات كثيرة، واستحدثوا تعبير “مطالب فئوية” وهو تعبير خبيث يوحي بأنها مطالب أنانية ضيقة .. متناسيين أن الخبز والعدالة الإجتماعية عمود فقري لمطالب الثورة .. وإحتياج اساسي للملايين التي ثارت تنشد العيش والحرية ..
لا أنسى أيضا قبل الثورة، عندما توجهت بطلب دعم مطالب الأطباء وقطاع الصحة، لعدد من المفكرين وكتاب الرأي البارزين، واللذين كانوا بعد ذلك من نجوم “الحركة الوطنية للتغيير” ، لا أنسى أن الكثير منهم لم يتحمسوا لتقديم أي دعم ، وقالوا ما فهم منه أنهم يعتبرون هذه المطالب رغم عدالتها “غير مهمة” أو “غير مهمة الآن” .. نفس فكر “مش وقته” .. الذي يتجاهل أن أي “حركة وطنية للتغيير” يجب أن يكون لها برنامج إقتصادي إجتماعي ..
سقط كذلك بعض الثوار في نفس الفخ .. دخلوا في طاحونة الصراع السياسي .. ولنتذكر المناقشات السفسطائية الطويلة عن “الدستور أولا أم الإنتخاات أولا ؟” .. إنجرف الثوار بعيدا عن المعاناة اليومية لملايين المصريين اللذين ساندوا الثورة، تركنا الملايين لمعاناتهم الطاحنة، والتي تضاعفت مع الغياب المتعمد للأمن وانفلات البلطجة، فتركتنا هذه الملايين بدورها .. وتحولت أغلبيتها لاعتبار أن الثورة “هوجة” لا ناقة لها فيها ولا جمل .. لم تجني منها إلا مزيدا من المعاناة والتعرض للمخاطر اليومية .. وبذلك إنكسر الرابط الملهم الساحر بين “العيش والحرية ” وبين “مطالبي وأحلامي الشخصية وأحلام الحرية والعدالة للجميع” ..
..
إختصارا أعتقد أن عدم ترجمة شعارات الثورة لمطالب وبرنامج إقتصادي إجتماعي واضح، أسهم في توهان التوجه وإلتباس المعارك ..وساعد في بعد الثورة عن أصحاب المصلحة في إنتصارها لأنهم يحتاجون للعدالة والكرامة التي تبشر بها .. وأضاع قدرتنا على الفرز بين من يقف فعلا مع مطالب الثورة في التغيير ..ومن يقف ضد الحكومة الحالية لأنه يريد فقط أن يطيح بها ليجلس محلها ..وينفذ نفس السياسات القديمة لصالح سيطرة جماعته الخاصة على مفاتيح الحكم والثروة .