فيفيان مجدي تكتب في الذكرى العاشرة لـ مذبحة ماسبيرو: لم تموتوا أيها الأبطال بل سكنتم في سماء الخالدين
ظناً مني أن الحياة تنتهي بالموت، وأن لا فرار من الألم مع لحظة الفراق، وجب علي الاعتراف انني حاولت مراراً وتكراراً أن أنهي حياتي بيدي بعد أول تجربة فقد هزت كياني، لم تكن مذبحة ماسبيرو نقطة فاصلة في حياتي ولكنها كانت بداية تحول لاهتماماتي وأفكاري وآرائي، بعد عشر سنوات من المذبحة التي جرت وقت المجلس العسكري الذي تقلد أمور الحكم بعد ثورة يناير، أول مذبحة يتم تصويرها صوت وصورة لأحداث ربما لم نكن سنراها سوي في الأفلام، مدرعات تسير بسرعة جنونية، أرواح تعود لبارئها بعد منازعة في محاولة للبقاء علي الأرض، تفاصيل أتذكرها وكأنها كانت بالأمس.
حاولت كثيراً تجنب الحكي المستمر عن مذبحة ماسبيرو، ولكن الواجب الوطني والإنساني أقوي من إراداتي، الواجب الوطني تجاه أجيال لم تسمع عن مذبحة ماسبيرو وربما سمعت ولكنها لا تدرك حقيقة الأمر ومع وتيرة الاحداث السريعة هناك حاجة مُلحة للكتابة والتذكير والشرح حتي لا ننتهك حقوق الشهداء من جديد، واجب انساني لان من استشهدوا في ماسبيرو بجانب كونهم أهل إلا أن علاقتي بالشهيد مايكل مسعد كانت ومازالت تسمح لي بالحديث عنه دون خجل.
مذبحة ماسبيرو كانت في بدايتها مسيرة سلمية من المفترض أن تبدأ من دوران شبرا وتنتهي بوقفة سلميه بالشموع أمام مبني أتحاد الإذاعة والتليفزيون، التحول السريع في الاحداث جعلها مذبحة راح ضحيتها 27 شهيدا منهم 23 نعرفهم ونعرف ذويهم وخضنا معاً العديد من سناريوهات الترهيب بعد المذبحة في محاولة من النظام وقتها لغلق الأفواه.
أرى أمام عيني الآن وأنا اكتب هذه الكلمات، لحظة دخول شارع كورنيش النيل والأعداد الكبيرة خلفنا ونحن نطالب بمنع الاعتداء علي الكنائس واحترام حقوق الأقباط ومناشدة المجلس العسكري بمحاسبة المتسببين بحرق كنيسة الماريناب في أسوان، كلها كانت طلبات مشروعة وواقعية وقابلة للتنفيذ أيضاً، ولكن كان للسطلة الحاكمة في ذلك الوقت رأي آخر، فإذا بمدرعات الجيش تسير بجنون تجاه المتظاهرين وكأنها ترسم علي الأرض بدمائهم زخارف، أري المشهد الآن بعد عشر سنوات وأتمني لو أنني لم أراه، كانت الزخارف علي الأرض بها لون أعرفه، رائحته لم تفارق أنفي حتي بعد سنوات طويلة، دماء مايكل مسعد الذي حاول طويلاً التمسك بالبقاء هنا، ولكن هناك شخص شتت انتباهي حيث بدء ينهال علينا بضربات الهراوة في محاولة مني لمنع الأذى عن جسد ضعيف كل ما يحاول فعلة هو التمسك بالحياة، حاولت أن أجعل لحظات مايكل أكثر هدوءًا من ضوضاء الصراخ والبكاء والضرب والطلقات النارية التي كانت تدوي بالمكان، ولكني فشلت … بعد سنوات كثيرة من الشعور بالذنب لازلت اعترف انني مذنبة، كنت صغيره ولم تكن قدرتي الجسدية أو العقلية أو النفسية قادرة علي تحمل تلك اللحظة.
في وقت ما ظهر أمامي مجموعة شباب كانوا يهربون من طلقات النيران والضرب العشوائي فساعدوني في حمل جسد مايكل المتمدد علي الأرض لنتوجه للعربة التي كانت تحمل الساوند “نص نقل” ولكن العربة من الخلف كانت ممتلئة بالأجساد التي بالفعل رحلت عن عالمنا، وكان أفضل مكان في هذا الوقت بجانب سائق السيارة ولكن المكان لا يحتمل شخصين فوضعنا جسد مايكل ومازال يتنفس وحاولت أن أبقيه حياً … صدقاً حاولت، بل انني كنت اتشاجر مع السائق لأن كل الطرق المؤدية إلي المستشفى القبطي تم إغلاقها من قبل المجلس العسكري بمدرعات وألواح خرسانيه ولكنني لم اكن مدركة لذلك وقتها، كنت اشعر ان هناك شيء يحدث في جسده ولكن بالطبع لم يخطر ببالي انه يرحل، لحظة دخولنا شارع المستشفى، رحل مايكل …. كما كان لدي أحلام لحياة سعيدة كان لديه أحلام، وكما نحن نحب الحياة كان يحبها ودقات قلبه المتسارعة كانت محاولة منه للبقاء، ولكنه حاول بصدق ولم يستطيع الصمود.
لحظة دخولنا المستشفى القبطي كان المشهد أكثر بشاعة، دماء وقتلي في كل مكان ورائحة الموت تُكشر عن انيابها للجميع ، ملاك الموت حصد الكثير في ذلك اليوم وكان منهم مايكل، مايكل الذي استشهد علي أرض المستشفى القبطي ولم يكن له مكان يسند فيه رأسه فتم تحويله للمشرحة، توقفت للحظة كي أدرك ما يحدث فوجدته محمولا علي سرير متحرك ظناً مني أنه يتم تحويله لغرفة ما أو حجرة الأشعة أو عناية مركزة، تشبثت بالسرير وسرت معه وجدتهم يضعونه علي الأرض بغرفة قاتمه، مكان كئيب لا تدخله شمس ولا يدخله احياء أو باحثي عن الحرية مثل مايكل، مكان يحمل في طياته خوف ورعب وحزن وألم وفراق، ايقنت وقتها انه قُتل، بعد عشر سنوات أحاول ان أتذكر لماذا جلست بجواره ؟! ربما لأني راهنت علي قوته وتناسيت ان الموت أقوي من الكل، كنت أظن اننا لا نُقهر ولكن في الحقيقة أننا نُقهر ونُذل في كل لحظة فقد، فمات مايكل …………
هذا هو المشهد الذي لا يغيب عن ذاكرتي، تعلمت أن أتعامل معه وأتأقلم لوجوده بل وأشعر أنني علي قيد الحياة طالما هذا المشهد في ذاكرتي، ويوم أنساه أفقد بوصلتي وطريقي للنجاة، مذبحة ماسبيرو وبعد عشر سنوات صنعت من كل شخص عاصرها حياة جديدة، حياة إرثها الحقيقي هم شهداء دفعوا ثمن الحرية والحقوق بحياتهم.
نحكي دوماً عن ماسبيرو، وعن شهداء صنعوا تاريخ فارق في حياة العالم ليس لأنهم يحتاجون أن نتذكرهم، نحن من نحتاج دوماً إلى أن نتحدث عنهم ، نحن في أشد احتياج أن نعلن للعالم أن لنا علي هذا الأرض دماء سُفكت كي نحيا، نحاول دوماً أن نقدم لهم جزء من حقوقهم التي لطالما حلموا بها.
شهداء ماسبيرو هم شباب وآباء قُتلوا من أجل إعلاء الحقوق والمساواة والحرية، قُتلوا ولم يكونوا يحملون في قلوبهم سوي محبة الوطن، والخطأ الوحيد الذي اقترفوه في ذلك اليوم هو أنهم كانوا يحلمون بالمدينة الفاضلة، وحلم المدينة الفاضلة أزهق الكثير والكثير من الأرواح، وهذه الكلمات لهم، إلي شهداء ماسبيرو وإلي كل شهداء الحق والحرية والكرامة والحياة لم تموتوا أيها الابطال بل سكنتم في سماء الخالدين.
شكرا للموقع للسماح بنشر المقال و اظهار حقائق الكثيرين لا يعرفوها للتعتيم الاعلامي …