غضب المحامين..العدالة ليست سلعة| الفاتورة الإليكترونية.. عبء مالي جديد يهدد “الحق في التقاضي”
كتب- محمود هاشم:
ضريبة تلو الأخرى وتكاليف رسوم آخذة في الزيادة باتت تشكل أعباء جديدة على كواهل المحامين، وأدت إلى تصاعد موجة الغضب والاحتجاج ضد السياسات الاقتصادية الحكومية بشأن التعامل مع المهنة وغيرها من المهن الحرة كـ”سلع تجارية”، وسط تخوفات من تأثير هذه القرارات على مستقبل أبناء المهنة وعلى كفالة حقوق المواطنين في التقاضي.
اليوم الخميس 1 ديسمبر 2022، حشدت نقابة المحامين أعضائها في مقرها الرئيسي بوسط القاهرة وفي النقابات الفرعية بالمحافظات، بوقفات احتجاجية ضد قرار وزارة المالية إلزام أصحاب المهن الحرة – وعلى رأسهم المحامون – بالتسجيل الإلكتروني وفرض فاتورة إلكترونية، في موعد أقصاه 15 ديسمبر المقبل.
يرى المحامون أن القرار من شأنه زيادة النفقات والأعباء على كاهلهم، لاسيما بعد إلزامهم في وقت سابق بتحصيل ضريبة القيمة المضافة من الموكل نيابة عن مأموري الضرائب، فضلا عن الضريبة عن الدخل، وغيرها من الرسوم والتكاليف الأخرى.
في منتصف الشهر المقبل، تبدأ مصلحة الضرائب استكمال وتطبيق منظومة الفاتورة الإلكترونية على جميع الممولين بمختلف مأموريات وقطاعات الجمهورية، تمهيدا لإلزام جميع المخاطبين بأداء الضريبة اعتبارا من أول العام المالي المقبل والذي سيبدأ مطلع يوليو 2023.
رئيس مصلحة الضرائب مختار توفيق، أكد أن المنشآت الفردية سواء كانت تجارية أو صناعية أو خدمية أو مهنية مثل (الطبيب، والمهندس، والمحامي، والفنان، والمحاسب القانوني، والاستشاري، وجميع أصحاب المهن الحرة) ملزمون بالتسجيل في منظومة الفاتورة الإلكترونية في موعد أقصاه ١٥ ديسمبر ٢٠٢٢، وإرسال فواتيرهم في حالة التعامل مع منشآت مسجلة بمصلحة الضرائب، على منظومة الفاتورة الإلكترونية، وفي حالة تعاملهم مع مستهلك النهائي فهم ملزمون بمنظومة الإيصال الإلكتروني وفقا لمراحل الإلزام الخاصة بهم، بحسب بيان مصلحة الضرائب اليوم.
وشدد، في تصريحات سابقة، على أنه لن يعتد إلا بالفواتير الإلكترونية في خصم أو رد الضريبة على القيمة المضافة وفقا لقرارات الإلزام الصادرة لتطبيق منظومة الفاتورة الإلكترونية، مؤكدا أنه عند اكتمال إلزام ممولي مصلحة الضرائب بالانضمام لمنظومة الفاتورة الإلكترونية، فإنه اعتبارا من ١ أبريل ٢٠٢٣ لن يتم الاعتداد إلا بالفواتير الإلكترونية في خصم أو رد الضريبة على القيمة المضافة، وكذلك في إثبات التكاليف أو المصروفات عند تقديم الإقرارات الضريبية.
وفي محاولة لامتصاص غضب أبناء المهنة، عقد محمد معيط وزير المالية، ومختار توفيق رئيس مصلحة الضرائب، اجتماعا مع عبدالحليم علام، نقيب المحامين، رئيس اتحاد المحامين العرب، في نهاية نوفمبر 2022، بشأن التسجيل بمنظومة الفاتورة الإلكترونية.
أكدت النقابة، في بيان بشأن تفاصيل الاجتماع، وجود عقبات واقعية وقانونية ودستورية تحول دون تطبيق القرار، مؤكدة سعيها للوصول إلى حل الأزمة في إطار التطبيق الصحيح لنصوص القوانين والدساتير واللوائح وما يتفق مع الطبيعة القانونية لمهنة المحاماة.
ووفقا للبيان وجه وزير المالية بتشكيل لجنة مشتركة بين الوزارة؛ ممثلة في مصلحة الضرائب، وبين نقابة المحامين، لدراسة المشكلة والوصول إلى حلول تأخذ في الاعتبار ما عرضته نقابة المحامين من رؤية ووجهات نظر.
كما تم الاتفاق على منح مهلة حتى تنتهي اللجنة من أعمالها، لاتخاذ ما يلزم من إجراءات وقرارات وفقا للقواعد التي تتوافق عليها اللجنة، لوضع تصور لحل كافة المشكلات التي تعترض العلاقة بين المحامين ومصلحة الضرائب بما فيها منظومة الفاتورة الإلكترونية.
وأكد علام أن نقابة المحامين تحمل وحدها وعلى كاهلها أعباء الرعاية الصحية والاجتماعية للمحامين من معاش وعلاج وغيرها من الخدمات والأعباء فضلاً عن مرتبات موظفيها، بغير أن تثقل كاهل الدولة بشئ من ذلك.
وشددت نقابة المحامين على أنها أول من يحترم القانون ويرعى حدوده، وتلفت النظر إلى أنها مسجل بها ما يزيد عن 420 ألف محام معظمهم لديه بطاقة ضريبية، حيث سبق أن جعلتها النقابة – في مرحلة سابقة – شرطاً من شروط القيد واستمراره وقيداً على تلقي كافة الخدمات في نقابة المحامين.
وأشارت إلى أنها سلكت – وما تزال تسلك -كل السبل المتاحة والممكنة لحل الأزمة في الأطر القانونية والدستورية المشروعة مع السلطتين التنفيذية والقضائية.
البيان أثار غضب كثير من أبناء المهنة، الذي اعتبروه إشارة إلى فشل المفاوضات مع وزير المالية ورئيس مصلحة الضرائب ومعاونيه، لوقف تطبيق القرار.
يوضح المدير التنفيذي للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مالك عدلي، أن الضريبة الإليكترونية هي نظام تسجيل ضريبي يتعلق بالتجار الذين يقدمون منتجات سلعا، لذا فإنه لا يمت بأي صلة لمهنة المحاماة التي تعد رسالة إنسانية وليست عملا تجاريا، لذا فإن تسليع المهنة والعدالة لا يخدم المحامي ولا القاضي ولا المواطن ولا الدولة ذاتها، لذا فإن حصار المحامين ضريبيا بهذا الشكل غير المنضبط يضر بالمهنة، خاصة في ظل إثقال كواهل المواطنين بأعباء إضافية، على الرغم من الأزمة الاقتصادية الطاحنة بالفعل، ما يستوجب تخفيف هذه الأعباء وليس الإصرار على زيادتها دون مراعاة لتأثيراتها الكارثية على حياة المواطنين.
ويضيف عدلي لـ”درب” أن أبناء المهنة ذاتهم لا يحملون الدولة أي أعباء ولا يستفيدون من أي من خدماتها، حيث أنهم يكتفلون بجميع مصاريف علاجهم وتأميناتهم ومعاشاتهم وغير ذلك من الخدمات، وعلى الرغم من ذلك لا يتأخرون في دفع الالتزامات الضريبية المفروضة عليهم بالفعل، من ضرائب أرباح مهن حرة، وغيرها، فضلا عن رسوم التقاضي الآخذة في الزيادة.
ويوضح: “نحن معترضون على ضريبة القيمة المضافة بالفعل، ورفعنا الكثير من الدعاوى القضائية للمطالبة بإلغائها، ولم تفصل فيها المحكمة الدستورية بمجلس الدولة حتى الآن، حتى في أشد النظم الليبرالية شراسة تكفل للمواطن حقه الكامل في التقاضي”.
وفقا للمادة (69) من الدستور المصري، فإن حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول، ويكفل القانون لغير القادرين ماليا وسائل الالتجاء الى القضاء والدفاع عن حقوقهم، هنا يتساءل عدلي: “كيف مع إقرار الدولة بالتزامها بدفع أتعاب محام للدفاع عن المتهم غير القادر على دفع هذه التكاليف، أن تلجأ لمحاصرة المحامي الحر ضريبيا، خاصة في ظل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، معتبرا ذلك ازدواجا في نظرة السلطة لأبناء المهنة، معبرا عن أمله أن يعيد وزير المالية النظر في سياساتها الضريبة تجاه أبناء المهن الحرة وعلى رأسها المحاماة.
ويرى المحامي الحقوقي خالد علي أن مهنة المحاماة تعاني من أزمات عميقة ومتشابكة، منها ما يرتبط بمنظومة العدالة وكفالة حقوق الدفاع وحماية المحامين في أثناء ممارستهم المهنة وعدم التنكيل بهم، فضلا عن خلق التوازن بينها وبين مؤسسات العدالة ومؤسسات الدولة، لذا فإن الإصرار أيضا على تحصيل أموال من ممارسي مهنة لا يتلقى أبناؤها أي خدمات ولا يكلفون الدولة أي أعباء مالية يكشف عن رؤية الدولة لهم ويعد شكلا من أشكال الجباية غير القانونية.
ويشير علي إلى أن المحامي يمثل الجناح الثاني في منظومة العدالة، وهو غير ملزم بفتح سجل تجاري لأنه يقدم خدمة قانونية ولا يبيع سلعة أو منتج، لذا فإن القانون لا يشترط لفتح مكتب محاماة سوى القيد في كشوف النقابة، لذا تعد أزمة الفاتورة الضريبية امتدادا لأزمة ضريبة القيمة المضافة، التي يعترض عليها المحامون أيضا، خاصة أنهم يدفعون ضريبة على الدخل بالفعل.
ويحذر المحامي الحقوقي من أن الفاتورة الإليكترونية قد تضع المحامي تحت طائلة القانون حال ترافعه عن موكل بالمجان أو بمبلغ زهيد، حيث قد يتم التعامل معها على أنها تحايل للتهرب الضريبي، لأنه سيكون مجبرا على مطالبة موكله بدفع أتعاب معينة لتوريد نسبة منها لوزارة المالية، وحال تقديمه الاستشارة القانونية أو الترافع مقابل مبالغ بسيطة، سيطلب منه تحمل نسبة الفارق التي تحددها الوزارة لقيمة التقاضي في كل دعوى.
أزمات المحامين لا تقتصر فقط على الضريبة الإليكترونية، ففي الوقت الذي كان مجلس الدولة يخصص منذ عشرات السنوات قاعة مناسبة للمحامين، تم سحب هذه القاعة منهم ونقلهم جميعا إلى غرفة ضيقة لا تتعدى مساحتها 3 أمتار مربعة، في الوقت ذاته تم نقل مقرات انعقاد جهات التقاضي إلى أماكن بعيدة على المحامين والمتقاضين وأسرهم، تارة في أكتوبر وأخرى في القاهرة الجديدة وثالثة في مدينة بدر، وربما قريبا في العاصمة الإدارية الجديدة، ما يشكل بدوره عبئا ماليا آخر، يضاف إلى الأعباء التي يعانون منها بالفعل، بحسب خالد علي.
أعباء مالية أخرى يتطرق إليها المحامي الحقوقي، موضحا: “رسوم الدعوى التي كانت تبلغ 100 جنيه في وقت سابق تخطت 1000 جنيه حاليا، والتي تعد بدورها ضرائب غير مباشرة أيضا، الاطلاع على الدعوى الذي كان من دون مقابل سابقا بات بتطلب تقديم طلب للرد عليه بعد 48 ساعة، مع دفع 20 جنيها عن كل طلب للاطلاع، كما أن تقديم حافظة المستندات الذي لم يكن يتطلب سوى دفع دمغة لا تتعدى جنيهات قليلة، بات الآن يستوجب دفع رسوم إضافية غير محددة القيمة”.
ويواصل: “متخذو مثل هذه القرارات لا يعبئون سوى بتحصيل أكبر قدر من “الجباية” من جيوب المواطنين، دون أن يضعوا في اعتبارهم تأثير كل هذه الأعباء اقتصاديا واجتماعيا وعلى جميع الجوانب، حيث قد يدفع كل ذلك المواطنين إلى الإحجام عن حقهم في التقاضي، خاصة من محدودي الدخل منهم غير القادرين على دفع هذه التكاليف، في ظل معاناتهم بالفعل من ظروف اقتصادية طاحنة”.
لا يبدو علي متفائلا بشأن وقف تطبيق الفاتورة الإليكترونية على المحامين، بناء على شواهد سابقة، معبرا عن أمله في ألا يلجأ مجلس النقابة لمواجهة الأزمة بمجرد مسكنات يصحو المحامون بعدها ليجدوا أنفسهم مجبرين على تحمل ضريبة جديدة، على شاكلة ما حدث في تطبيق ضريبة القيمة المضافة.
المحامي الحقوقي أحمد فوزي، يؤكد أنه في ظل المناخ الحالي لا يلجأ كثير من المواطنين إلى الفعاليات الاحتجاجية، خاصة في ظل تبعاتها الباهظة على حياتهم، لذا فإن لجوء جموع المحامين للتظاهر احتجاجا على القرارات الضريبية المفروضة عليهم تعني أنهم وصلوا بالفعل إلى مرحلة شديدة من المعاناة، لم يعد أمامهم ما يخسرونه بعدها.
ويرى فوزي أن المهنة تعاني من 3 إشكاليات رئيسية، أولها ضعف التنظيم النقابي وتردي أدائه، بمفهوم تمثيل أبناء المهنة والدفاع عن حقوقهم، المحامون لا تؤخذ آرائهم بشأن التشريعات التي هي من صميم مهنتهم، بالإضافة إلى ذلك انتهاك حقوق عدد من الزملاء في أثناء ممارسة عملهم، دون تدخل جاد وحقيقي من مجلس النقابة.
الإشكالية الثانية – بحسب فوزي – هي عدم فهم عدد من أفراد السلطة لطبيعة عمل مهنة المحاماة، التي يتم التعامل معها على أنها مجرد سلعة تباع وتشترى، لذا يجوز تطبيق الضرائب التجارية على أبنائها، على الرغم من رفعهم ضرائب ورسوم ودمغات بالفعل.
أما الإشكالية الثالثة، فهي تعامل الحكومة مع المحامين وجميع أبناء المهن الحرة وغيرها على أنهم “مجتمع كومباوند” يتقاضون ملايين الجنيهات، بينما 93% من ممتهنيها ومن المواطنين الذين يلجأون إلى جهاز العدل إما فقراء أو من الطبقة المتوسطة، ممن ليست لديهم القدرة على مواجهة مشاكلهم الاقتصادية المتزايدة بالفعل.
يستطرد فوزي: “هناك حالة من النظرة الدونية للمحامين من كثير من الأطراف هذه الرؤية نراها بالفعل حتى في الأعمال الدرامية أو السينمائية أو غيرها، حيث لا يتم تصوير المحامي سوى أنه رجل أعمال يملك الملايين، أو نموذج لشخص متحايل على القانون، وهو الأمر المنافي للواقع، ولا يمثل سوى 3% من أبناء المهنة”.
ويستكمل: “المحاماة والطب وما على شاكلتهما مهن لا يلجأ إليها المواطنون سوى في الأزمات، لذا فإنها خدمات ضرورة وليست رفاهية، لذا فإن من يتخذ هذه القرارات يبرهن بمواقفه أنه بعيد كل البعد عن إدراك هموم أبناء المجتمع”.
كان عدد من المحامين تقدم بطعون أمام محكمة القضاء الإداري، للمطالبة بوقف تنفيذ القرار الصادر، باعتبار أن الفاتورة الإلكترونية والإيصال الإلكتروني، يؤثران بالسلب على ظروف عمل المهنة، ويحولان المحاماة من رسالة إلى سلعة، كما يؤثران بدورهما على حق التقاضي للمواطنين، وهو حق مكفول للجميع دستوريًا.
وذكرت الطعون أن الفاتورة الإلكترونية والإيصال الإلكتروني، يؤديان إلى زيادة أتعاب المحاماة وزيادة رسوم التقاضي، ما يعيق المواطن الفقير عن المطالبة بحقه في التقاضي نظرا لارتفاع التكلفة.
وشددت على أنه لا يجوز تطبيق نظام الفاتورة الإلكترونية والإيصال الإلكتروني على المحامي، لأنه يدفع بالفعل ضريبة القيمة المضافة أثناء رفع الدعوى، ما قد يعد ازدواجا ضريبيا.
عضو مجلس النواب إيهاب رمزي، تقدم أيضا بطلب إحاطة لمطالبة وزير المالية، بمراجعة تعليمات مصلحة الضرائب المتعلقة، بإلزام أصحاب المهن الحرة وبينهم “المحامون” بالتسجيل في منظومة الفاتورة الإلكترونية، في موعد أقصاه 15 ديسمبر المقبل.
وشدد على أن قرار مصلحة الضرائب تسبب في استياء كبير بين صفوف المحامين، مطالبا الوقف الفوري لهذه التعليمات الصادرة والإسراع في إجراء حوار مع ممثلي النقابة لمعرفة مطالب جموع المحامين.
وطلب رمزي من المستشار حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، إحالة طلب الإحاطة على وجه السرعة إلى لجنة الخطة والموازنة واستدعاء وزير المالية للرد عليهم لمعرفة فلسفة هذه التعليمات الصادرة من وزارة المالية وهل تتفق مع النصوص القانونية والدستورية أم هناك مخالفة مؤكدا على ضرورة اعادة النظر في الرسوم العالية تفاديا لزيادة الأعباء على المحامين خاصة أن رسوم الفاتورة الإلكترونية لا تقل عن 5 آلاف جنيه في العام والمحامي لن يستفيد شيئا منها.
في ظل جميع هذه الخطوات التصعيدية، يأمل المحامون أن تلقى تحركاتهم استجابة سريعة من متخذي القرار لإعادة النظر في إثقال كواهلهم بالأعباء الضريبية والمالية، مراعاة لطبيعة مهنتهم، وحماية لكفالة الحق في التقاضي، الذي يهدده تزايد تكاليفه الباهظة بالفعل.