عمر عسر يكتب: “زيارة أخيرة لأم كلثوم” لـ علي عطا.. جدلية الوعي والذاكرة
“زيارة أخيرة لأم كلثوم” أحدث أعمال الكاتب والشاعر علي عطا (الدار المصرية اللبنانية- القاهرة- يناير 2020)، يأخذنا بطلها حسين عبدالحميد في رحلة تفوق وعورتها رحلات أبطال الملاحم الإغريقية.. رحلة داخل الذات نستكشف خلالها جذور الإحباط والاكتئاب ونواجه ذواتنا.. تلك المواجهة لمن يعلم أصعب من قتال المينوتور والكراكون وعفاريت ألف ليلة وليلة.
البطل/ السارد حسين عبدالحميد في منتصف خمسينات عمره نصحه طبيبه المعالج بمواجهة اكتئابه والتعامل معه بعيدا عن دخول المصحة، فاتخذ من كتابة رسائل إلى صديقه السوداني المهاجر الطاهر يعقوب وسيلة للعلاج والبحث عن مسببات اكتئابه.
الخط الناظم للرواية هو وفاة “أم كلثوم” خالة البطل وآخر الباقين من 40 ابنا وابنة أنجبهم والدها جد البطل، ورحلة البطل إلى المنصورة مسقط رأسه ومحل إقامة الخالة الراحلة للمشاركة في تشييع جنازتها.
تتداعى ذكريات البطل ويتجاوز الهدف العلاجي للكتابة ليحدد أهدافا أسمى بقوله في إحدى رسائله “أكتب لأجلو الأسرار القديمة في طفولتي، ولتحديد هويتي، ولأخلق أسطورتي الخاصة”.
يثير العمل تساؤلات عميقة عن ماهيات الوعي والذاكرة والعلاقة بينهما: هل هما وجهان لعملة واحدة أم أن أحدهما يشمل الآخر، خاصة مع عدم التزام البطل/ السارد بالترتيب الزمني المعتاد: الماضي يسبق الحاضر، وصنعه متصلا زمنيا غير منقسم.
مع تقدم الأحداث يواجه القارئ سؤال: هل يبحر البطل في ذاكرته ليخلصها من ضغوط اكتئابية يمارسها وعيه أم يبحر في وعيه ليتخلص من عبء ذكريات تمثل “حمولات شعورية” سلبية تسببت في إصابته بالاكتئاب؟
ببراعة شديدة انتقى عطا تفاصيل من حياة بطله وسردها ببساطة “مراوغة”.. يستعرض البطل/ السارد مواقف عادية جدا تدفع القارئ للتماهي مع البطل ما يوسع المجال الدلالي للعمل ليتجاوز الفردي إلى الإنساني في عمومه.
لا تقتصر أسباب اكتئاب البطل على ظروفه الذاتية فيكتب لصديقه عن أحداث مفصلية في تاريخ مصر منذ منتصف السبعينات وحتى 2018 ويعلق عليها، فندرك أن للشأن العام نصيبا كبيرا في الاكتئاب الذي يعانيه.. رعاية السادات لجماعات الإسلام السياسي التي انتهت باغتياله على يد جماعة جهادية ما كان يمكن أن تتشكل دون رعايته، وجهل منظومة الحكم بخطورة المأساة التي كتبوها كقدر غشوم على مصر واستفاقتهم المتأخرة عقب مشهد الذروة في المنصة.
يستعرض البطل/ السارد في رسائله انتهازية جماعة الإخوان وتوقها الدائم للسلطة ولو كان الثمن دوسها على شعاراتها المعلنة، ونرى عبر تعليقاته أن تمدد اليمين بجناحيه الديني والمالي جرف مساحات واسعة من العقل والجمال لصالح الاستحواذ المادي والمعنوي، وفرض على المجتمع منظومة قيمية قائمة على الانتهازية والمظهرية ومعادية للحريات الفردية.
يتصدر الركود العظيم الذي أصاب مصر تحت حكم مبارك مشاهد كثيرة في النص، ونكتشف كيف تم فرض القبح والإحباط على الأفراد والمجتمع عبر منهج ظاهره العشوائية لكنه فيما يتعلق بأثره كان محكما وناجحا جدا.
ثورة يناير حاضرة بوضوح في العمل.. الأمل الذي راود الجميع في أن تكون نقطة الانطلاق لمستقبل واعد، وتكالب الجميع عليها حتى تم وأدها لتتحول إلى جرح عميق يضاف لما سبق.
يفضح البطل عبر تفاصيل بسيطة ومواقف فردية المسكوت عنه في الوسط الثقافي.. ونعيد معه اكتشاف الأمراض التي تملأ نفوس “المثقفين” من يفترض أنهم حاملو الوعي واختلالات شخصيات كثيرين جدا منهم وافتقارهم إلى شجاعة طلب العلاج، ونرى سلوكيات وضيعة وتنافس وحشي على “اللاشئ”.
شاعرية علي عطا تفرض نفسها على الرواية.. لغة شفيفة مكثفة، وتفاصيل بساطتها مراوغة وتنويع في أساليب السرد المونولوج والحوار، وموسيقا خافتة الصوت تنتظم الرواية كلها، والرواية لا تعطي نفسها من القراءة الأولى لذا منعتني خشيتي من مزالق الابتسار من الاستشهاد بأجزاء من النص.
وبرغم أن البطل يستكشف على طول العمل أسباب اكتئابه إلا أن الرواية تمنح طاقة أمل.. البطل برغم معاناته منذ طفولته وحتى منتصف خمسينات عمره يقاتل ليصنع نجاحه ويحقق أحلامه التي مهما كانت بساطتها إلا أن تحققها هو انتصار ضد القبح والعدمية، وعلى المستوى العام ها هي مصر برغم ما عانته وتعانيه إلا أنها قادرة على مواجهة أسباب ألمها وقادرة على أن تبدع فنا وتواصل كتابة أساطيرها الفردية التي تحمل في مجموعها روح وطن مقدوره أن يظل يقاتل دون هوادة على كل الجبهات.