عمر عسر يكتب: بوتين.. الثعلبُ يدخلُ وكرَ الدُب
تُسوّقُ أجهزة الدعاية الروسية صورة ذهنية للرئيس فلاديمير بوتين كباعثٍ لمجد روسيا وبطلٍ يقاتل من أجل وضع بلاده في مكانتها المستحقة قطبا يشارك في القرار الدولي ويعيد رسم خارطة العالم وفقا لمصالح موسكو، هذه الصورة زائفة.. فالتحديات التي تواجه روسيا أكبر بكثير من قدرات بوتين وكفاءات دائرته المقربة، ولعل قصة جلوس بوتين على عرش روسيا (هو رئيس منتخب يتمتع بصلاحيات قيصر) دليلٌ دامغ على زيف هذه الصورة، فقد اختار بوريس يلتسين، بوتين “خليفةً له” بناء على معيار “الولاء الشخصي” واختار بوتين معاونيه بناءً على ذات المعيار.
مفهوم “الولاء الشخصي” لدى بوتين ومعاونيه يطابق مفهومه لدى عصابات المافيا وهو أبعد ما يكون عن “الولاء المؤسسي” لدى النخب الحزبية أو الجماعات الوظيفية، ولعل تصريح أناتولي راخلين أول مدرب جودو تعامل معه فلاديمير بوتين لصحيفة (إزفستيا) الروسية عام 2007 الذي قال فيه “لم يأخذ [بوتين] أولاد بطرسبرج إلى العمل [ضمن فريقه الرئاسي] لسواد عيونهم، لكنه [بوتين] يثق بالمجرَبين والصادقين” يكشف عن معيار بوتين الأول في اختيار معاونيه.
بوتين الذي ولد ودرس وتخرج في بطرسبرج (لينينجراد سابقا) والتحق بمكتب (كي جي بي) فيها لا يختار للعمل ضمن فريقه إلا من أثبتت التجارب أنهم “أهل ثقة” وأن ولاءهم له لا تشوبه شائبة، وهكذا برزت أسماء: ألكسندر ميدفيديف، ألكسي كودرين، جيرمان جريف، إيجور ستيشن، سيرجي إيفانوف، نيكولاي باتروشيف، ألكسندر بورتينكوف، سيرجي شيميزوف، وغبرهم، كلهم من “أبناء بطرسبرج” وعملوا معه سابقا سواء في المخابرات أو أثناء توليه منصب مساعد ثم نائب لأول حاكم لبطرسبرج عقب تفكك الاتحاد السوفيتي أناتولي سوبتشاك، والمناصب التي تنقل بينها في موسكو قبل صعوده للكرملين.
أناتولي سوبتشاك أستاذ القانون بجامعة لينينجراد (التي تخرج بوتين من كلية الحقوق فيها) الأكاديمي صاحب التاريخ الطويل من “التعاون مع المخابرات السوفيتية” كان نموذجا للحالمين الذين يجرفهم الواقع لأبعد نقطة عن أحلامهم، تحمس لسقوط الاتحاد السوفيتي وكان من المبشرين بعصر السوق المفتوح والحريات السياسية، بلاغته الأكاديمية وتحمسه لحلمه كانا مسوغات كافية لفوزه بمنصب حاكم بطرسبرج التي استعادت اسمها القديم، لكن واقع الحال في زمن “نسف حمام الشيوعية القديم” خذل الأكاديمي الحالم الذي وجد نفسه -وهو أستاذ القانون- سابحا في تيارات الفساد والإثراء السريع، وهي للحقيقة كانت تحتاج عزم الأنبياء للصمود في وجه مغرياتها.
في محاولة لتجميل وجه نظامه، قرر بوريس يلتسين أول رئيس لجمهورية روسيا الاتحادية التحقيق في تضخم ثروات كبار المسئولين، وبالطبع اختار الأسماء التي لا ينسجم هو (يلتسين) أو معانوه معها، وضمت القائمة أناتولي تشوبساك، لم يتخل بوتين رئيس جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (وريث الكي جي بي) عن تشوبساك الذي فتح له باب العمل السياسي.
واستغل بوتين خبراته التي اكتسبها من العمل المخابراتي فأدخل تشوبساك المستشفى العسكري وطلب من “أصدقائه” بالسلاح الطبي إعداد تقارير تفيد بأن تشوبساك مريض بالقلب، بعدها استاجر بوتين طائرة خاصة أقلت تشوبساك الذي اصطحب ملفاته الصحية إلى فنلندا، وأفلت تشوبساك من التحقيق، وأثبت بوتين أنه لا ينسى أفضال أصدقائه، ولأن فعل الخير لا يُجازى إلا بالخير كان تهريب تشوبساك فاتحة خير على بوتين!
بوريس يلتسين كان محاصرا باتهامات فساد طالت عائلته والمقربين منه، وجد أخيرا طوق النجاة من الغرق في مستنقع الفضيحة، إنه فلاديمير بوتين،، شخص موثوق وقف إلى جانب صديقه حتى النهاية وكان “ابن بلد” في شهامته، إنه الأنسب لفك الحصار عن يلتسين، بقرارات سريعة تتناسب مع إيقاع السياسة الروسية وقتها تم تصعيد بوتين رئيسا للوزراء المنصب قصير العمر (كان بوتين خامس رئيس وزراء خلال 18 شهرا) لكنه ضروري لتنفيذ خطة يلتسين للإفلات من العقاب.
كانت الخطوة الأخيرة من خطة يلتسين هي الاستقالة وتعيين بوتين رئيسا بالنيابة قبل الانتخابات، وأثتاء مغادرة يلتسين الكرملين منح بوتين القلم الذي وقع به آخر مراسيمه هدية تذكارية وأوصاه بأن “يعتني بروسيا”، وبقلم يلتسين وضع بوتين أول توقيع له بصفته “رئيس روسيا بالإنابة” على مرسوم مكون من سبع صفحات اجتهد مستشارو يلتسين القانونيون في إعداده لضمان تمتع الرئيس المستقيل بامتيازات المنصب الذي غادره وضمان منحه حصانة كاملة تعفيه وأسرته وممتلكاتهم من أي مساءلة وتمنع التحري عنهم أو مجرد البحث في ملفاتهم.
بعدها أجريت انتخابات تمت هندستها من قبل الكرملين لضمان فوز فلاديمير بوتين والحفاظ على “مظهر الديمقراطية” في ذات الوقت. لكن “ثعلب المخابرات” -كما يلقبه محبوه في الشرق الأوسط التعيس- لم يتحمل فكرة مغادرة الكرملين فعمل على تمكين “أهل ثقته” من السلطة والثروة ليرتبط بقاؤهم ببقاء “ولي نعمتهم” ولهذا حديث آخر.