عمر عسر يكتب: بلاغ إلى الضمير العام
هوة باتساع الكون تفصل بين مهنة الهندسة وجريمة البلطجة، لكن أوضاعا شاذة تعانيها مصر فرضت احتكاكا مباشرا بين المهندسين والبلطجية. احتكاك كان قبل وقوعه من المستحيلات وصار بعد حدوثه نذيرا جديدا يحذرنا من أننا صرنا على حافة الهاوية ننتظر اقل دَفعة أو أهون نفخة ريح لنتردى فيها دون أن يوقفنا سند أو أن نجد للهاوية قاعا نقف عليه لإعادة الصعود.
في 30 مايو الماضي انعقدت الجمعية العمومية غير العادية لنقابة المهندسين في أرض المعارض بمدينة نصر للتصويت على سحب الثقة من المهندس طارق النبراوي نقيب المهندسين بلغ عدد المشاركين فيها نحو 24 ألف مهندس، وكان التصويت تحت إشراف قضائي. سارت أعمال الجمعية العمومية بشكل عادي وأظهرت مؤشرات الفرز الأولية تجديدا لثقة الجمعية العمومية في النقيب.
وحوالي العاشرة مساء اقتحمت مقر الجمعية العمومية مجموعة من “البلطجية” لتشن “عدوانا” على المهندسين المشاركين وتحطم صناديق التصويت، وصحب البلطجية عدد من الأشخاص من غير أعضاء النقابة، وصور كثير من المهندسين “العدوان” وأجرت الدكتورة مها عبدالناصر بثا مباشرا وقت وقوع العدوان وقالت إن هذا البث “بلاغ إلى النائب العام”.
النقطة الرئيسية التي يثور حولها الخلاف في نقابة المهندسين تتعلق بقيد خريجي معاهد خاصة لا تستوفي المواصفات التي تضمن تخريج مهندسين مؤهلين بجداول النقابة، وما تطلب النقابة فرضه من مواصفات ملزمة للمعاهد الهندسية الخاصة هو صلب واجبها في وضع ضوابط المهنة، كما أنه اختصاصها الحصري الذي يخوله قانونها في تحديد المحتوى العلمي الذي يجب ان يدرسه أعضاؤها، وما تنشره صفحات ومجموعات المهندسين على وسائط التواصل الاجتماعي من قيد ناقصي التأهيل مفزع ويستلزم المحاسبة، فهذه الوقائع إن صحت تضرب سمعة مهندسي مصر في مقتل وتهبط بتصنيفهم إلى الحضيض.
الخلاف إذن مهني ونقابي بحت لا يحمل سببا للاقتتال الأهلي ولا يُتوقع أن تكون لدى بعض أطرافه نوازع للعدوان على زملائهم والخروج على المجتمع والدولة. لكن العدوان يثير تساؤلات حول حجم وأوجه استفادة الذين دبروا له من قيد خريجين لا تستوفي جهات تخريجهم المعايير التعليمية ومدى نفوذ مالكي هذه المعاهد، وتساؤلات حول كيفية تحول المستفيدين إلى “مافيا” لا تتردد في حماية مصالحها بـ”قبضات” البلطجية ولا تخشى من علنية “فعلها الفاضح” كما لا تتحسب لعواقبه، وتساؤلات حول أسباب إهمال الجهات التي لها سلطة الإشراف على هذه المعاهد لطلبات نقابة المهندسين.
مشهد العدوان المرعب يجسد غياب العقل بمثل ما يجسد تغييب القانون. من دبروا لهذا العدوان غابت عقولهم فتصوروا أنه مجرد عدوان على فعالية نقابية -والعدوان مرفوض أبدا بغض النظر عن المجني عليه- وغفلوا عن أنه عدوان على دولة تستطيع فرض قوانينها وحماية مواطنيها ومؤسساتها. ومن هنا نستنتج أن من دبر لهذا العدوان يتوهم (أو يضمن) أن يد القانون لن تمسه وأنه في مأمن من العقاب.
عقب انتهاء وقائع العدوان، نشر نقيب المهندسين بيانا وجه خلاله الاتهامات إلى عدد من أعضاء مجلس النقابة و”حزب سياسي” بتدبير هذا العدوان لإفساد أعمال الجمعية العمومية و”التغطية على فشلهم في الحشد لسحب الثقة منه”. كما امتلأ الفضاء الإلكتروني بمنشورات تكرر الاتهامات نفسها للجهات ذاتها، ونشرت مواقع إخبارية أن عضوين بمجلس النواب (من غير أعضاء نقابة المهندسين) صحبا البلطجية وشاركا في العدوان.
دلالات المشهد البربري أخطر كثيرا من أن يجري تجاهلها، من شاركوا في العدوان على المهندسين لم يكلفوا أنفسهم تغطية وجوههم أمام الكاميرات التي تصور المشهد، كما لم يردعهم أو يردع من جاؤوا بهم وجود لجنة قضائية تشرف على التصويت والفرز ووجود وسائل إعلام تغطي أعمال الجمعية العمومية، وإذا صح ما يتردد حول تورط “الحزب السياسي” والنائبين (أحدهما له واقعة اعتداء شهيرة على ضابط شرطة والآخر كان متهما في وافعة الجمل) فإننا بصدد كارثة.
من دبروا لهذا العدوان “إرهابيون” فالذين يتجرأون على دولة كاملة ويدبرون لعدوان في عاصمتها هم إرهابيون لا تنقصهم الرغبة في التدمير ولا يعوزهم التجرؤ على المجتمع لحد رفع السلاح واستخدام القوة للبطش بمن يختلفون معهم دونما اعتبار لحق أو احترام لواجب، ورمزية “دوس البلطجية بأحذيتهم” على أوراق التصويت لا تحتاج لتأويل لفهم أن “أي إرادة تخالف رغباتنا لا مكان لها سوى تحت أحذيتنا”.
لم تكن “همجية” المشهد إلا جزءا من أسباب الرعب فيه، الأكثر إرعابا أن خلافا حول شأن نقابي يستدعي عند بعض أطرافه تسيير حملة من البلطجية لفرض سيطرتهم. وأن خلافا على عمل تطوعي لخدمة جماعة مهنية وصل إلى هذا الحد من الفجر والخروج على القوانين والأعراف وإقصاء المختلف بقوة البلطجة، هل هذا العدوان المشهد الافتتاحي لزمن يتفاعل فيه أصحاب المصالح باستخدام “المليشيات” وقتال الشوارع؟ الإجابة تتوقف على رد فعل الدولة فالواقعة تمس وجودها ومعناها.
نعلم جميعا أن هناك أطرافا تعمل –بقصد أو بجهل- لإثارة العداء بين السلطة والمواطنين عبر تصرفات ينقصها العقل، كما نعلم أن المواطنين تحملوا طوال السنوات الماضية ما لا تطيقه الجبال. ولا يخفى على أحد أن الضمير الشعبي غير راض عن كثير من السياسات وكثير من السلوكيات وأن أسباب القلق تتعدد ما بين لقمة العيش التي يتهددها غلاء يبدو أنه لن ينتهي في المدى القريب ومياه النيل التي لا يمتلك حيال تهديدها سوى تطمينات رسمية، لكن العدوان الأخير لا يتعلق بموارد قد نختلف حول أوجه توظيفها أو سياسات تتحمل تعدد الرؤى إنما يتعلق ببقاء ومعنى الدولة، وكما لا يخفى على أحد فإن تهديد البقاء هو الأولى بالمواجهة.
ونكرر لعل في التكرار إفادة، تتمحور وظائف الدولة –باختصار غير مخل- حول تحقيق الصالح العام والسهر على تنفيذ القانون، وما وقع من عدوان على مواطنين يؤدون واجبهم نحو تسيير شئون نقابتهم ليس من الصالح العام. والسكوت عن هذا العدوان لا يمكن تحت أي ظرف إلا أن يكون “عدوانا سافرا” على فكرتي “الدولة” و”القانون”.
الدول لا تسقط بضرب اقتصادها فالتاريخ يحفل بأزمات مثل “الشدة المستنصرية” التي أكل الناس خلالها الكلاب وجثامين الموتى، كما أنها لا تسقط بهزائم عسكرية مهما كانت وطأتها وليست نكبة 1948 أو نكسة 1967 منا ببعيد، إنما تسقط الدول حين يُقتل فيها القانون أو توْءَدُ تشريعاتها حيّة. تسقط الدول عندما تُداس قوانينها أو تصير كلاما مفرغا من المعنى حيال أفراد أو جهات أو منظومات تستعلي عليه وتعلم أنها فوق الحساب وبمنجىً من العقاب، القانون يا سادة ليس رفاهية بالإمكان الاستغناء عنها أو كمالية يمكن تأجيلها إلى حين تيسر الظروف القانون هو العمود الفقري للدولة وقلبها النابض بالعدل وعقلها الذي يميز الخطأ من الصواب.