عمر عسر يكتب: العالم بعد كورونا
لم تقتصر ضربات كورونا على الأجهزة المناعية والتنفسية لمن أصيبوا به، بل امتدت لتصيب قلب النظام الاقتصادي العالمي، وتكشف عوراته التي ما عاد بوسع مؤسسات الدعاية أو رطانة الأكاديميين وفذلكة التنفيذيين مداراتها خلف سحائب التنظير أو الرسوم البيانية المتأنقة لتحركات الأسهم ونمو رؤوس الأموال.
التباين غير العادل لتوزيعات السكان والثروة عالميا أول العورات التي انكشفت.. فالعالم السعيد المحتكر لثلاثي القوة العلم والثروة والسلاح تتهدده شيخوخة مجتمعاته التي خرجت نسبة منها من سوق العمل وتحتاج إلى رعاية طبية واجتماعية مكلفة لتبقى فقط على قيد الحياة.
هذا العالم السعيد عانى من قصور أنظمته الصحية ما إن بدأ تزايد أعداد المصابين، ولم تغن رفاهية تكنولوجيا الأتمتة (ميكنة المعاملات) عن الأطباء وأطقم التمريض، في حين حمى التوزيع الديموغرافي للأعمار الدول الفقيرة (ترتفع فيها نسبة الشباب وصغار السن) من سقوط أنظمتها الصحية المتداعية أصلا، ولو انقلبت الآية لكان الضحايا بالملايين لأن ميزانيات الصحة في العالم الثالث لا تكفي لمواجهة الاحتياجات الروتينية المعتادة وليس التعامل مع ظروف كارثية.
هذا التباين الذي كانت تداريه أرقام براقة عن ارتفاع متوسط العمر المتوقع وتزايد أرباح صانعي الأدوية ومقدمي الرعاية الصحية انكشف في ظل انتشار وبائي لفيروس ليس قاتلا بطبعه فماذا سيكون الحال لو تمكن إيبولا مثلا من الانتشار خارج منطقة توطنه.
التنظيم الذاتي للسوق كان ثاني العورات.. فظهور سوق سوداء للكمامات ومستلزمات التطهير اللازمة للوقاية كشف هشاشة قيم السوق أمام إغراء الربح، كما أثبت أن الحافز الفردي والربح لايكفيان لتنظيم السوق وأن تدخل الدولة ممثلة للمجتمع لا بد منه، وسيتعب منظرو السوق غير المقيًدة كثيرا في محاولة تبرير صحة منطقهم.
نجاح الصين (المعلن رسميا) في السيطرة على التفشي رغم كونها “بلد المنشأ” وفشل إيطاليا وإسبانيا ضرب مقولة القيم الليبرالية كإطار فكري لا غنى عنه لتحقيق التقدم ونجاح الدولة.. الصين البلد القمعي بامتياز ولعله الوحيد عالميا الذي يجمع سوءات الشيوعية والرأسمالية تحت نظام واحد نجحت في وقف التفشي بينما فشلت إيطاليا وإسبانيا رغم قيمهما الغربية.
تعبير البرلمانات عن إرادة الناخبين وآليات الديمقراطية التي يتباهى بها العالم السعيد عادا من جديد محلا للتساؤل كأحد تداعيات أزمة كورونا.. الإنفاق المتزايد على التسلح وتقليص الإنفاق العام على الصحة والتعليم والتساهل الضريبي الذي يكاد يكون إهدارا ضريبيا.. هل كانت هذه السياسات تعبيرا عن إرادة الناخبين وهل ستخضع للمراجعة أم ستظل قافلة النظام الاقتصادي العالمي تسير دونما التفات إلى صراخ المتضررين.
لعل منظري النظام يتدارسون حاليا سبل تغطية العورات المنكشفة ويبحثون كيفية استمرار النظام دون تكاليف إضافية ولابد أن الأكاديميين والمتفذلكين -زائفي ومزيفي الوعي- يشحذون أدواتهم وينحتون مصطلحات جديدة لبيع بضاعتهم القديمة.. لكن الفرصة قائمة أمام دول العالم الفقير لتحسين شروط التفاوض وإعادة توزيع الأعباء والمكاسب.
سير أنظمة الدول الفقيرة ومنها مصر والوطن العربي (ثروة النفط لا تساوي شيئا مع أساليب إدارتها الحالية) في ركاب المسيطرين لم يؤت ثماره الموعودة وتكاليفه المجتمعية لم تحقق عوائد تساويها، وما كشفته أزمة كورونا يجب استغلاله لتصحيح المسار بناء على الحقائق التالية:
العجز الهيكلي في البنية السكانية لدول العالم السعيد يحد من قدرتها على توفير اليد العاملة، والحلول التكنولوجية لتخفيض الاعتماد على العنصر البشري لم تبدأ إتيان ثمارها بعد، ما يعني أن يكون توطين التكنولوجيا وتحسين نوعية التعليم بالتعاون بين الدول المقدمة للعمالة الكثيفة والدول الغنية شرطا لا تنازل في الاتفاقيات الجديدة وتعديل الاتفاقيات القديمة بحيث تشمل هذا الشرط.
تحسين المستوى المعيشي لسكان الدول الفقيرة وتطوير أنظمتها الصحية والبيئية وأنظمة مواجهة الطوارئ فيها ليس شأنا داخليا أو مسئولية محلية بل واجب تجاه الإنسانية يجب توزيع تكاليفه بين الجميع ليتجنب الجميع مخاطره.
تخفيض الفائدة لصفر في أمريكا للمساعدة في مواجهة الكارثة يعني أن النظام المالي يمكنه الاستغناء عن فوائد ديون الدول الفقيرة باعتبارها تعيش طارئا اجتماعيا واقتصاديا في مرحلة الانتقال.
ويجب التنبيه على أن تحسين الوضع التفاوضي لأي دولة له محددات داخلية ولا يعتمد كليا على ظروف خارجية، فمن اللازم تحقيق انفراج سياسي وبدء حوار مجتمعي رشيد بين أهل العلم والكفاءة لتحديد أهداف وأولويات عامة ورسم السياسات الكفيلة بتحقيقها ليكون المعارض سندا للمفاوض حال أخذ حكوماتنا زمام المبادرة وبدء وضع أسس نظام اقتصادي عالمي أكثر عدالة ورشادا.