عمر عسر يكتب: الجد على هامش اللعب
الجد على هامش اللعب
المصافحة بين الرئيس عبدالفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب إردوغان على هامش افتتاح كأس العالم في العاصمة القطرية الدوحة قد تكون بداية لطريق صعب وطويل من التصالح بين نظامين تخاصما بشدة ودارت بينهما “حرب باردة” استعمل فيها كل طرف ما أتيح له من أدوات وتركت آثارا ليس من السهل تجاوزها بمصافحة ولقاء يعقبهما بيان هزيل حول أن الطرفين تبادلا وجهات النظر لاستئناف العلاقات.
طريق المصالحة بين القاهرة وانقرة طويل وغير مستقيم فالملفات معقدة والمواقف متشابكة والتاريخ -قديمه وحديثه- يلقي بثقله كما ان الواقع يفرض سخونته وسرعة جريانه وقائعه، وفض اشتباك الملفات والمواقف قد لا يكون مرضيا للطرفين إلا بتنازلات إن لم تكن فادحة فهي مؤلمة للطرفين، وستتكشف مع الأيام وقائع التصالح التي قد تكون مفاجآتها أكبر من وقائع الصدام، ما يدفعني لهذا القول أن الخلاف مع تركيا أعمق وأخطر من الخلاف مع قطر او حتى إسرائيل.
تركيا وإيران دولتان كبيرتان تشكلان مع مصر مثلث القوة في هذا الجزء من العالم، ولهذا فالخلافات بين الدول الثلاث تستدعي من التاريخ وتحمل من الوطأة ما يفوق الخلافات بين هذه الدول وبقية دول الإقليم، لأن الاشتباك بين دولتين من الثلاث لا يقتصر على المصالح استراتيجية/ تكتيكية بل يستدعي تاريخا كما يحمل وقائع الوفاق يحمل أيضا وقائع الشقاق، أما إسرائيل فظروف قيامها ومعاداتها لمحيطها وكونها طارئة على الإقليم يجعل من قبول وجودها المخالف لحتمية الجغرافيا وتسلسل التاريخ امرا موقوتا مهما استطال زمنه.
ما اريد تناوله هنا هو خطاب الدولة -إعلاميا وسياسيا- ففي مصر كان الخطاب الرسمي اعقل من نظيره التركي، فلم يتورط رأس الدولة المصرية في التطاول اللفظي او التدخل العلني في شئون تركيا الداخلية كما تورط نظيره التركي، وكانت أكثر البيانات الرسمية المصرية حدة تجاه تركيا تحافظ على الاحترافية السياسية ولا تسمح بلغة التحريض أو العصبية وتصاغ باعتبار أن المصالح قد تتلاقى فهي الدائمة.
أما الخطاب الإعلامي فحدث ولا حرج استعمل لغة لم تترفع -في غالب الأحيان- عن “ردح الساقطات” وحاول بقدرات متدنية تجييش الشعور العام ضد تركيا وغاب عنه -لغياب الحرفية ونقص الثقافة العامة والسياسية- أن مجالات تلاقي القوى (الإقليمية أو العالمية) تتضمن خشونة في الاحتكاك وعنفا محسوبا في الفعل او التصريحات وهذه قواعد اللعبة، كما جهل هذا الإعلام أن الطرف الذي يسقط في فخ تبني العداوة هو الأقرب للخسارة لأنه سيفتقد مرونة الحركة التي هي شرط أساسي للنجاح.
طالما تعالت الأصوات من المختصين (أكاديميين وإعلاميين) ومن الجمهور بالتحذير من تدني كفاءة الخطاب الإعلامي المصري ومن مخاصمته أصول الحرفية والمهنية وخطورة هذا على الوطن -شعبا ودولة- وما من مجيب، وسنرى دليلا جديدا مع متابعة نتائج هذه المصافحة. رواد وسائل التواصل الاجتماعي بدأوا حملات سخرية من “إعلاميي الصوت العالي” الذين طالما سبوا تركيا وشنوا عليها الحملات النارية وبعد ساعات من نشر صور المصافحة انتشرت مئات المنشورات والصور تسخر من هؤلاء وتحاول تصوير كيفية تغطيتهم للحدث الذي يستحيل تجاوزه أو تجاهله.
المسألة هنا ليست الإحراج الشخصي لهؤلاء الإعلاميين فهي متعلقة بكيفية النظر إلى المتلقي/ المواطن هل يراه هؤلاء منقادا إلى درجة تصديق هذا الخطاب بتناقضاته العسيرة على التبرير، وهل من الصالح العام أن ينصرف كل المواطنين عن المنتح الإعلامي المحلي إلى سواه، وهل لا يمثل هذا الانصراف خطرا على الامن القومي الذي يفترض من جميع الأطراف العمل على صونه ودرء أسباب تهديده؟
الحل ليس بسيطا ولا ينتظر قرارا بإقالة فلان أو تعيين علان ففرض القيم الاحترافية على من عملوا خارجها غالب -أو كل- تاريخهم المهني يكاد يستحيل إلا على مدى زمني قد يحول طوله دون المواظبة عليه، وتغيير الأشخاص أو الأجيال مع بقاء عقلية الإدارة او الأداء لن يغني عن فاعليه شيئا، والجهد المطلوب للخروج من حالة التردي هذه سيغضب كثيرين تهدد الاحترافية والمهنية مكاسبهم، كما سيخيف من لهم ملفات يزعجهم فتحها.
لكن مواصلة هذا النهج في التعامل مع الإعلام تحمل من الخطورة ما لا يمكن تجاهله، وأن تبدأ متأخرا خير من ألا تبدأ على الإطلاق، افتحوا المواقع المحجوبة ووسعوا صدوركم لتقبل النقد فتغطية التراب تحت السجادة لا تعني نظافة المنزل قدر ما تمنح الحشرات البيئة الملائمة، تحدث الكثيرون حول سبل إصلاح الإعلام وما تزال الكتابات موجودة لمن شاء أن يسلك سبيل الإصلاح.