عمر عسر يكتب: إفريقيا والقوى الكبرى.. الماضي المستمر
السيد الأبيض ممسكٌ بسلاحه يسير في الغابة محاطاً بأتباعٍ من “السكان الأصليين”، تطل من عينيه نظرة ثقة لا محدودة بانتظار العثور على فريسته من وحوش الغابة. هذا ما تحفظه لنا عشرات آلاف الصور التي تضمها الأرشيفات لرحلات السفاري التي كانت تسلية السادة الأوروبيين المفضلة للتغلب على الملل أثناء خدمتهم في مستعمرات “تفتقر إلى أدنى درجات التحضر” كما كان يحلو لهم وصفها.
لم تكن الحيوانات وحدها مادة الصيد المفضلة للأوروبيين الذين احتلوا إفريقيا لإدخال سكانها “حظيرة التحضر الغربي”. فالبشر (المتوحشون حسب تصنيف الأوروبيين) صاروا مادة للصيد والبيع ليشاركوا في نهضة أوروبا وتسيير سفينة “التحضر الأوروبي” من موقع العبيد.
بانهيار الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية برز قطبان جديدان على الساحة العالمية: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. وظن العالم الثالث بما فيه إفريقيا أن عهدا من الحرية والتعاون قد بدأ، وتبين من سير الوقائع أن هذا الظن كان إثما. وظلت موارد إفريقيا الهائلة مطمعا للقطبين الجديدين كما كانت مطمعا للإمبراطوريتين الغابرتين، كانت الخطة الغربية تستهدف استمرار السيطرة على موارد إفريقيا، وبدأ الاتحاد السوفيتي البحث عن مواطئ أقدام ومواقع نفوذ فيها، واستخدم الطرفان نفس الآليات، كما تطابقت شعاراتهما في كثير من الأحيان!
تنوعت آليات التدخل بين المساعدات بمختلف أنواعها وبناء الخبرات (شريطة ألا تتيح هذه الخبرات للأفارقة القدرة على تسيير شئونهم باستقلال عن القطبين) فالدول الناشئة في القارة السمراء افتقدت للكوادر المؤهلة. كما شملت الوسائل تدبير الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية اعتمادا على عسكريين أفارقة فوجئوا بأنهم صاروا جنرالات بعد الاستقلال مع طوفان الترقيات الوهمية الذي رفعهم من ضباط صف إلى مواقع القيادة خلال شهور أو أسابيع أو أيام.
وحتى لا نطيل سنذكر مثالين، الأول الانقلاب على نظام باتريس لومومبا في الكونغو الذي انتهى باغتياله وتنصيب حكومة موالية للغرب، وكان من تدبير المخابرات البلجيكية بتعاون غربي، والانقلاب الثاني قاده العقيد الإثيوبي منجستو هايلي مريام وانتهى بقتل الإمبراطور هيلا سي لاسي (يقال إن الانقلابيين دفنوه تحت مراحيض القصر الإمبراطوري!) وتنصيب حكومة ماركسية في إثيوبيا التي لم تكن فيها طبقة عمالية بالمفهوم الماركسي اللينيني!
في يوليو 2023 كان من بين المشاركين في قمة (روسيا- إفريقيا) التي انعقدت يومي 27 و28 يوليو بسان بطرسبرج شاب في الـ35 هو النقيب إبراهيم تراوري الرئيس الانتقالي لبوركينا فاسو (قاد في سبتمبر 2022 انقلابا ضد العقيد بول-هنري داميبا) الذي ألقى خطابا حماسيا استلهم فيه لغة سياسية سادت منذ خمسينات حتى سبعينات القرن الماضي وامتلأت بتحريض على الغرب الاستعماري، ونداءات تحض على النضال من أجل حقرق الأفارقة، كل هذا كان عاديا ويتماشى مع حاجة تراوري لتبرير انقلابه. الغريب كان إشادة تراوري بدولة روسيا التي ليس لها تاريخ استعماري في إفريقيا.
حاجة تراوري وسلالة العسكريين الأفارقة الذين يقررون إنقاذ أوطانهم عبر الانقلابات إلى حليف قوي ليست مبررا كافيا لتزوير التاريخ، ونُذكّر النقيب تراوري بالدعم السوفيتي (11 ألف عسكري سوفيتي و60 ألف عسكري كوبي) للحركة الشعبية لتحرير أنجولا منذ بداية الحرب الأهلية الأنجولية عام 1975 حتى سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، وبلغت حصيلة الضحايا 500 ألف مدني من الأنجوليين، وليت النقيب تراوري يراجع سجلات الحرب الأهلية الإثيوبية وسيكتشف أن روسيا السوفيتية دعمت منجستو هايلي مريام طوال الفترة من 1972 حتى 1991 في حرب أهلية أودت بحياة 4ر1 مليون مدني، وإذا كان النقيب تراوري لا يميل لقراءة التاريخ فبإمكانه مطالعة أخبار النزاع المسلح في السودان الذي تشارك فيه موسكو عبر شركتها الأمنية “فاجنر” لاقتسام ذهب السودان مع مليشيات حمدان دقلو (الدعم السريع).
قبل قمة “روسيا- إفريقيا” بيومين أي في ال-26 من يوليو 2023 قاد الجنرال عبدالرحمن تشياني انقلابا أطاح برئيس جمهورية النيجر المنتخب محمد بازوم، ووصف رئيس شركة “فاجنر” العسكرية الروسية يفجيني بريجوجين الانقلاب بـ”الانتصار”، وتظاهر مؤيدو الانقلاب مرتدين ألوان العلم الروسي، فيما طالب الرئيس بازوم الولايات المتحدة الأمريكية باستعادة الشرعية في بلاده، وردت واشنطن بتعهدها بالعمل على استعادة الشرعية في النيجر!
لم ينحصر الصراع على إفريقيا بين الغرب (امريكا، الاتحاد الأوروبي، بريطانيا، اليابان، كوريا الجنوبية، أستراليا) وروسيا، فقد دخل طرف ثالث الحلبة مدججا بقوة اقتصادية كاسحة وشراهة للموارد لا حد لها، كان دخول الصين هادئا في بدايته ويقوم على تأمين الموارد (البترول، المعادن… الخ) مقابل المساهمة في مشروعات البنية الأساسية، وبالتدريج وجدت دول إفريقية نفسها عالقة في “فخ الديون” الصيني الذي بلغت قيمته 148 مليار دولار خلال الفترة بين 2000 و2018 وفق تقرير “ايكونوميك تايمز” المنشور عام 2021، وعبر هذه القروض الضخمة سيطرت الصين على اقتصاديات دول إفريقية كثيرة، وفي خطوة لافتة أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية وراء البحار في جيبوتي ما يعكس اهتمام بكين بالصراع على إفريقيا وعزمها ضمان موطئ قدم استراتيجي لحماية مصالحها بأي تكلفة.
تجهل الأنظمة الاستبدادية في إفريقيا أن الاختلاف بين الأطراف الثلاث المتصارعة على موارد القارة يتعلق فقط بوسائل الضغط ولا يتعلق بأهدافه، ففي حين يفضل الغرب الضغط عبر فتح ملفي حقوق الإنسان ورشادة الحكم اللذين يمثلان أهم نقاط ضعف الانظمة الاستبدادية، لا تحبذ روسيا والصين الضغط بملفات الحقوق والحريات (من كان بيته من زجاج لا يقذف الناس بالحجارة)، وتضغط روسيا عبر التهديد بسحب حمايتها عن النظام، بينما تكتفي بكين -حاليا- بسلاح القروض.المشهد الحالي في إفريقيا عبثي بامتياز.. الدبابة أصدق من صندوق الانتخابات، بنادق الكلاشينكوف أهم من استمارات التصويت، القرون الوسطى خرجت من باطن الماضي لتشكل حاضر قارة كاملة وتقطع الطريق إلى مستقبل شعوبها، والقادة الملهمون يواصلون زحفهم المقدس إلى الهاوية ويغضبون حين تتوقف الشعوب عن الهتاف لهم، بحكم عبثية المشهد سوف يواصل المهرجون أداء أدوارهم حتى يحترق المسرح ويتفحم المشاهدون!