عقب رحيله .. نُعيد نشر «الرسالة الأخيرة» لـ د. حازم حسني: إياكم واليأس من الوطن فإنه يهدر الكرامة
في 4 أغسطس عام 2021 نشر الدكتور حازم حسني، أستاذ العلوم السايسية تدوينة عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”، حملت عنوان “الرسالة الأخيرة”، وفيها أكد أستاذ العلوم السياسية، أنه سيبدأ رحلة جديدة “كسائح في دنيا المعانى والأفكار، سعياً وراء أفكار تنتظر من يزورها”، مُعلنًا اختتام مرحلة من مراحل حياته وبدء مرحلة أخرى قد تختلف فيها التوجهات.
وقال حازم حسني، الذي رحل عن دنيانا أمس الأحد: “هذه هي رسالتى الأخيرة التى أكتبها على هذه الصفحة، لكنها لن تكون رسالتي الأخيرة التى أكتبها على صفحة الحياة”، مضيفا أنه “ليس من رجاحة العقل أن نتجاهل إشارات القدر، ولا أن نتعالى على حكمته وهو يغلق أمامنا أبواباً لا يرى وراءها خلاصنا، ويفتح وهو يغلقها أبواباً أخرى تقودنا بدورها إلى مفترقات طرق جديدة”.
وطالب متابعيه بعدم اليأس، مستشهدًا بكلمات عميد الأدب العربي طه حسين “إياك واليأس من نفسك، فإنه يسقط الهمة؛ وإياك واليأس من وطنك، فإنه يهدر الكرامة؛ وإياك واليأس من رَوْح الله، فإنه لاييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون”.
واختتم حسني تدوينته “لا أقول وداعاً، بل إلى لقاء قريب أدعو الله أن يوفقنا إليه.. طابت أيامكم!”.
نعيد نشر الرسالة الأخيرة لـ د. حازم حسني، وهذا نصها:
هذه هى رسالتى الأخيرة التى أكتبها على هذه الصفحة، لكنها لن تكون رسالتى الأخيرة التى أكتبها على صفحة الحياة … فاليوم تنقضى سبعة عقود من عمر امتد بى إلى هذه اللحظة التى أطوى فيها أوراق رحلة وصلت إلى نهايتها كى أبسُط فيما تبقى من العمر أوراق رحلة جديدة – أو ربما هى رحلات جديدة – كانت مؤجلة حتى يحين أوانها، وأعتقده قد حان هذا الأوان الذى انتظره الجديد ليطل برأسه مطالباً بالاعتراف بحقه فى الحياة!
*******************
لا رحلة تستمر إلى ما لا نهاية كما اعتقد “پاهوم” الأحمق الذى رسم “تولستوى” ملامح شخصيته وهو يحكى قصة الحدود الآمرة للزمان والمكان، كما هى الحدود الحاكمة لقَدَر الإنسان ولقدرته … هى حدود آمرة، حتى وإن عمِىَ الإنسان عن رؤية هذه الحدود التى تحكم رحلته فى هذه الحياة الدنيا، أو هى تحكم – بالأحرى – رحلته فى كل مرحلة من مراحل هذه الحياة … فقط من يبحثون عن الحكمة، ويسعون فى طريقها، يدركون أن لكل بداية نهاية، وأن لكل رحلة نهايتها، ويعرفون من علامات الطريق – متى أجادوا قراءتها – أين تبدأ هذه الرحلة وأين تنتهى، أو هم يدركون – بالأحرى – متى تنتهى رحلة شاخت وهرمت، ومتى تبدأ أخرى على وشك أن تولد لتستمر بمولدها شروط الحياة!
*******************
كنت قد دشنت صفحتى هذه منذ اثنتى عشرة سنة، وهو عدد له رمزيته، وها أنا أبلغ السبعين من العمر، وهو بدوره عدد له رمزيته … ومثل هذه الرموز حين تجتمع إنما تعلن اكتمال مرحلة من “مراحل الحياة” إيذاناً ببداية جديدة تكتمل بها “رحلة الحياة”؛ فليس من الحكمة أن تستمر رحلة وصلت إلى منتهاها، ولا أن تؤجَّل أخرى حان وقت القيام بها!
قد ينجح الإنسان – إن كان له نصيب من الحكمة – فى حساب خطواته الأخيرة فى أى رحلة، أو قد يفشل فى حسابها إن كان لا يجيد قراءة خرائط الطريق؛ ومساراتنا فى الحياة مليئة بمفترقات الطرق، وعند كل مفترق تستقبلنا علامات تدعونا إلى قراءتها، وليس من رجاحة العقل أن نتجاهل إشارات القدر، ولا أن نتعالى على حكمته وهو يغلق أمامنا أبواباً لا يرى وراءها خلاصنا، ويفتح وهو يغلقها أبواباً أخرى تقودنا بدورها إلى مفترقات طرق جديدة.
*******************
لن أغلق هذه الصفحة بعد أن وصلت إلى خط النهاية، ففيها رصيد السنين التى استغرقتها الرحلة؛ ولن أسعى لإنهاء الصلة بينى وبين من تابعوها على مدى السنوات التى انقضت، فمعهم ومن رَحِم تفاعلاتهم كان هذا الرصيد … فقط سأبدأ رحلتى الجديدة كسائح فى دنيا المعانى والأفكار، سعياً وراء أفكار تنتظر من يزورها، واستخلاصاً لمعانٍ لا ينبغى لها أن تفارق مبانى الأفكار!
قد تكون مختلفة هذه الرحلة الجديدة بخرائطها المعرفية، وقد تكون واعدة بمسعاها نحو جديد غير مطروق، لكنها ستبقى دائماً كسابقاتها تبحث عن ملامح مصر الوطن والأمة والحضارة والتاريخ، وعلّنا ونحن نبحث عن هذه الملامح نعثر على ما ضاع من ملامح مصر المعنى، ومن ملامح مصر المستقبل.
*******************
هى رحلة قد تكون شاقة ومرهقة فى بعض مراحلها، كما هى حال رحلات العقل والضمير فى كل زمان ومكان؛ وقد تكون رحلة مراوغة كما هو حال قطع الفسيفساء المتناثرة، فلا هى تبوح بصورة تفرضها على صاحب الرحلة، ولا هى تنتظر منه صورة بعينها؛ بل هى تكتفى فقط بطرح عناصر فسيفسائية متفرقة، قد تجمعها صورة، وقد تجمعها أكثر من صورة، وما على صاحب الرحلة إلا أن يجتهد كى يصل منها إلى صورة لها معنى!
هى رحلة تسعى فى طرقات مهجورة لم نتعلم فى مدارسنا كيف نبسط خرائطها دون وجل، ولا كيف نقرأ بثقةٍ ما تقترحه علينا من مسالك العقل ودروبه المعقدة، ولا كيف نقرأ ما تبوح به خرائط الحكمة من غايات الترحال ومقاصده، ولا كيف تكون غاية الترحال بلا محطات وصول، وإنما هى استكشاف دائم للمجهول الذى يتنفس بخجل، ويعلن عن وجوده همساً؛ فهذا هو حال الحقيقة وهى تداعب عيوناً لم ترى يوماً إلا وهم الظلال التى تتراقص على جدران الكهف!
*******************
ما أحوجنا، وهذا هو حال الرحلة، لأن نقتدى بحكمة “أوديسيوس” الأريب وهو يعتصم بحبالٍ تربطه بصارى سفينته وهى تعبر بحر الأهوال، أملاً فى نجاته ونجاتها من شراك “سيرانات” البحر التى تسلب الغافلين إراداتهم لتأخذهم معها إلى الأعماق!
ما أحوجنا ونحن فى رحلة بحث عن مصر المعنى ومصر المستقبل لأن نعتصم بدورنا بخرائط العقل المصرى، قبل خرائط أى عقل آخر، حتى وإن كانت قد تهالكت هذه الخرائط المصرية بفعل الزمن، وغاب الكثير من ملامحها تحت وطأة التاريخ! … وما أحوجنا ونحن نقوم بهذه الرحلة لأن نعتصم أيضاً بضوابط ضميرنا الحضارى، قبل ضوابط أى ضمير آخر، حتى وإن كان قد حال بين ضوابط ضميرنا الحضارى هذه وبين أداء وظائفها غبار السنين! … وما أحوجنا – ثالثاً – لأن نحرص ونحن فى مواجهة أخطار الرحلة على استنهاض حكمة المصريين الخالدة، ربما بمساعدة أصوات الحكمة الإنسانية فى عمومها، بعد أن بهتت حكمتنا المصرية حتى لتكاد لا تقوى على البوح بعد أن أرهقتها الأيام، وبعد أن أقعدتها المحن والخطوب، وكاد أن يذهب بها أو بذكراها سيف المعز دون ذهبه!!
*******************
هى رحلة جديدة إذن تلك التى ستبدأ كما بدأت رحلات قبلها، وإن كنت أحسبها كسابقاتها ستنتهى يوماً لتبدأ رحلة أخرى تليها، وهكذا دواليك إلى أن تنتهى دنيا الرحلات، ونصل فى رحلتنا الأخيرة إلى نهاية لا بداية بعدها إلا فى عالم آخر هو عالم الحق الذى لا باطل فيه، وعالم الحقيقة التى لا زيف يشوه ملامحها؛ وأحسب أن ليس لهذه الرحلة الأخيرة – التى نغادر فيها ظلمة حياتنا الدنيا لنعبر الباب الذى يقودنا إلى نور النهار – إلا خريطة طريق واحدة لا يعترف بغيرها صاحب القدَر وصاحب الميزان، وإن تعددت فى خريطة القدر هذه مسارات الإنسان ودروب الحياة، وتكاثرت فيها العلامات والإشارات ومفترقات الطريق، وتباينت فيها تضاريس الحياة بين صعود وهبوط، وبين ارتفاع وانحدار؛ والفائز منا هو من يصل إلى مفاتيح هذه الخريطة، وأدعو الله أن نجد فى رحلاتنا الدنيوية التى تتتالى ولو بعضاً من هذه المفاتيح، علها تكون لنا عوناً ونحن نطرق ما غاب عنا من أبواب الخروج إلى النهار!!
*****************
وأخيراً أيها القارئ الكريم، فمهما تعددت الرحلات، ومهما تعددت الاختيارات ونحن نقف أمام مفترقات الطريق، فإنها تبقى ملهمة كلمات طه حسين التى تتحدى اليأس وتستجلب الأمل، فـ”إياك واليأس من نفسك، فإنه يسقط الهمة؛ وإياك واليأس من وطنك، فإنه يهدر الكرامة؛ وإياك واليأس من رَوْح الله، فإنه لاييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون!” .. شكراً لطه حسين الذى أهدانا هذه الكلمات الأخيرة التى أنهى بها حوليات هذه الرحلة التى وصلت إلى نهايتها؛ ولا أقول بعدها وداعاً، بل إلى لقاء قريب أدعو الله أن يوفقنا إليه … طابت أيامكم!
يذكر أنه غيب الموت، أمس الأحد، الدكتور حازم حسني، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ونعها محامون ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدين أن مصر فقدت قامة وطنية كبيرة.
يشار إلى أن حازم حسني (70 عاما)، هو أكاديمي بارز بجامعة القاهرة وأستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكان متحدثا باسم الفريق سامي عنان، رئيس أركان الجيش المصري، عندما أعلن الترشح للانتخابات الرئاسية 2018 في مواجهة الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، قبل أن يتم استبعاده من كشوف الناخبين واحتجازه قرابة عامين.
وكانت نيابة أمن الدولة العليا قررت إخلاء سبيل الدكتور حازم حسني أستاذ العلوم السياسية، فى اتهامه بالقضية التي تحمل الرقم 855 لسنة 2020 حصر أمن دولة عليا، على ألا يغادر منزله.
وذكر المحامي خالد علي عضو فريق الدفاع عن المتهم، أن النيابة قررت استبدال أمر قضائي بعدم مغادرة حازم لمنزله، بالحبس الاحتياطي.
وواجه حسني فى القضية اتهاما بمشاركة جماعة إرهابية فى تحقيق أهدافها، وذلك عقب إعلان مشاركته في حملة الفريق سامي عنان، حين أعلن ترشحه للرئاسة منذ عدة سنوات.
يذكر أن هذه القضية هي الثانية التي يتهم فيها حسني، حيث سبق اتهامه في القضية التي تحمل الرقم 488 على خلفية اتهامه بمشاركة جماعة إرهابية فى تحقيق أهدافها ونشر أخبار كاذبة.
وفي وقت سابق نشر حسني استقالته التي لم يتلق ردا عليها، ولو هاتفيا حتى الآن، مؤكدا أنه نشرها للتأكيد على ما جاء فيها، وحتى لا يكون ثمة حديث مستقبلا عن عدم وصول الرسالة للمرسل إليه، وفق تعبيره.
ووصف حسني نهاية رحلته في جامعة القاهرة بالحزينة، مؤكدا أن نشره للاستقالة جاء درءا لما قد تسعى له الجامعة من اتخاذ إجراءات إدارية بحقه.