عشر سنوات على ثورة يناير.. جمعة رمضان يكتب: حديث الروح في الميدان يسري ! (ذكريات يناير)
كان بودي الكتابة عن ٢٥ يناير، عن الحلم الجميل الذي تفلت من إيدينا وتحول إلى كابوس برسم الرعونة وانطلاء الخدعة، عن الرفاق الذين التقيناهم صيف ٢٠١٠ وشاركناهم محطات ولقاءات مهمة مثلت تحضيرًا وتطعيم معركة لهذا اليوم العظيم، عن ابني ذي العشرة أعوام ورفاقه الشجعان، اكتافهم بأكتافنا يشاركوننا الوقفات الصامتة على كورنيش نيل بني سويف رفضًا للتعذيب وعنف الأجهزة وسياسات الافقار.
عن مشاركات النساء في مسيرات طرق الأواني الليلية في شوارع وأزقة الاحياء الشعبية .. عن المخبر الذي رافقنا متحمسًا الرحلة من بني سويف إلى القاهرة صبيحة يوم ٢٥ يناير، عن الصديق الدمث الشهير ( مجهول المصير الآن ) يبث الطمأنينة في القلوب، وقد تخفف من رونقه وهو يداعبني ناطقًا اسمي بتعطيش الجيم، دوس جامد يارفيق چومعه، اليوم طويل والفول مسمار البطن، قبل ان يتركني اكمل افطاري من “عربية فول” بشارع قصر العيني على مقربة من “دار الحكمة ” حيث وجهتنا المتفق عليها كنقطة للتجمع، ومن ثم الانطلاق صوب ميدان التحرير، عن اشتعال الحناجر بالهتاف عند تمام الواحدة والنصف ظهرًا أمام دار الحكمة ” عيش .. حرية .. كرامة إنسانية ” – أُضيف مطلب العدالة الاجتماعية لاحقًا –
عن مناورات الافلات من حصار الكردون الأمني المحكم الذي ضُرب حولنا، عن شهامة الضابط الذي نهر الجنود ومنعهم عندما هموا بضربي بالهروات أثناء محاولتي مساعدة رفيق سقط أرضا وأصيب في ساقه أثناء محاولة الإفلات من الكردون، بل وأفسح لي ثغرة كي أسحبه لمكان آمن بعيدًا عن دائرة المناوشة والاشتباك، التي تصاعدت وتيرتها قرب الخامسة مساء بعد توالي ورود الأخبار من عدة محافظات خاصة السويس، عن حدة الاشتباكات وسقوط شهداء، وأنباء أخرى عن تمكن عدة مسيرات داخل القاهرة من الوصول لقلب ميدان التحرير قبل أن نلحق بهم نحن المحاصرون أمام دار الحكمة عند الثامنة والنصف مساء، عقب نداء مقتضب لأحد الضباط حثنا فيه على الانصراف إلى بيوتنا محذرا من عواقب التجمهر أو الذهاب إلى ميدان التحرير، عن لحظة الخوف من المجهول الذي ألح ضابط الحصار على بثه في قلوبنا حين كرر عبارة : فيه بلطجية في الشوارع والجيش نزل السويس .
خرجت من حصار الساعات السبع أمام دار الحكمة مع صديقة، وقد سلكنا طريق كورنيش النيل الأبعد والأطول مسافة صوب التحرير، عن أزأزة الترمس ومشي الهوينى وتصنعنا أن نبدو في سيرنا وكأننا حبيبين يلهوان تحاشيًا لأي مضايقة أمنية محتملة حتى دخلنا الميدان بسلام آمنين من ناحية كوبري قصر النيل، عن انتفاضة البدن وانتشاء الروح وأنا أعانق اللحظة المهيبة مع أول خطوة داخل الميدان، الحشود وما أدراك ما الحشود، وجوه ليلتئذٍ شبابية نضرة تعلوها نصرة، أريج البرفيوم المنتشر يشي ببهاء الحدث وفرادته، بحجاب أو بدون، ألف (ريتا) ترنو بزهو ودلال فتثير الشهب في ساحة الحرية، يسبقهن عطرهن الفواح والشعب يريد إسقاط الركام ( انطباع أولي بخلو الميدان من ثمة أثر للإخوان أو ايٍ من جماعات الإسلام السياسي في تلك الأجواء الحرة المتحررة )، عن الدم المتدفق يكاد يفتق الأوردة من جلال المشهد المهيب، عن سمعي يكاد يصمه هتاف آلاف الحناجر تزأر فتهتز أرض الميدان .
ها أنا ذا أربح الرهان ( كنت بالعشية قد راهنت صديقي على سقوط النظام اذا ما احتشد خمسون ألفًا وقد صار)، عادت بي الذاكرة سنوات إلى الوراء، استدعيت مشاهد مشاركاتي السابقة في العديد من الوقفات، احداها كانت في ذات المكان (لا اتذكر المناسبة)، بضع مئات أمام مجمع التحرير منقسمون حول الكمالين التاريخيين (خليل وابو عيطة) كيفما اتفق، وذاك الضابط الذي فاجأني بابتسامة مداعبًا : طالما قميص أحمر تبقى شيوعي، اتفضل ادخل يا رفيق، كمال خليل على شمالك وأبوعيطة على يمينك !، والهوى والميل دائما يساري خليلي الا ذات مرة بالقرب من سفارة قطر ضد العدوان الامريكي على العراق، وقد حدث اشتباك أعقبه تدافع سقطت على اثره الفنانة الجميلة رغدة، وحين هرع الجميع وكنت اسبقهم لانقاذها خذلتنا صرختها: إلحقني يا أبو عيطة.. وظفر أبوعيطة دوننا بأرق وألطف عملية انقاذ في التاريخ يلاحقه حسد الأعين وحسرات القلوب .
عن طواف القدوم حول الكعكة الحجرية ومطالعة عيونهم / ن وفي بريقها رأيت ألف ألف حسين وألف ألف جيفارا، عن حلقات الذكر الثوري تطوف أرجاء الميدان .. الجدع جدع والجبان جبان .
عن الصمت يخيم مع بدأ تلاوة بيان الثورة من على المنصة التي انشئت على عجل، عن دعوات الاعتصام ومئات البطاطين وقد بدأت تتدفق على الميدان (قيل انها تبرع من المهندس ممدوح حمزة)، عن الميدان المحرر من داخله المحاصر من كافة مداخله ‘لا من ناحية عبد المنعم رياض والمتحف المصري وتمركز أمني خفيف عند مدخل طلعت حرب، عن محاولات الكر والفر المصطنعة عند أطراف الميدان ولم تنجح في خلخلته او إخلائه، إلا عند تمام الثانية عشر منتصف الليل حين انطلقت سارينة عشرات سيارات الشرطة يصاحبها دوي طلقات الخرطوش، وعشرات قنابل الغاز تمطر الميدان بكثافة شديدة ، يلفحنا الغاز الخانق قبل أن تتجه نحونا موجة بشرية هائلة مندفعة بقوة من جهة مدخل شارع قصر العيني في اتجاه طلعت حرب وعبد المنعم رياض،( بالقرب كان يقف الدكتور أسامة الغزالي حرب رئيس حزب الجبهة الديمقراطية وقتئذ، نعرفه دائمًا ولا يعرفنا !)، اخذت بنصيحة أحد الرفاق وانطلقت سريعًا ابحث عن مهرب وقد كان، قفزت متخطيا الحاجز ودلفت سريعا داخل إحدى البنيات المشرفة على الميدان فاقدًا القدرة على التنفس جراء الغاز الكثيف، وهنا سُطرت مغامرة شديدة الخطورة احتكمت أسبابها مع ضيق الخيارات هربًا من هجوم جحافل الأمن، حيث بدا انهم اكتسحوا الميدان وأخلوه قبل أن يشرعوا في تمشيط البنايات المحيطة بالميدان – مع الطرق الشديد على باب مدخل البناية قبل اقتحامه فضل البعض الهرب إلى سطح البناية، والبعض الآخر (مابين سبعة وتسعة كنت أحدهم) اخترنا دخول إحدى الشقق بالدور الثالث وقد لاح لنا بابها المشرع .
بدا صاحب الشقة أو شاغلها (اعلامي نص لبة كحول كما اتضح لاحقًا) قلقًا مرتبكًا وقد اسقط في يده، أخذ يناور قبل ان ينقلب فجأة وبنبرة آمرة ظل يصرخ في وجوهنا أن ننصرف فورًا وإلا سيبلغ القوة بالخارج وقد اقترب وقع اقدامهم الثقيلة وهي تصعد درج السلم، ضاقت الخيارات أكثر مع اقتراب الخطر، خياران أسهلهما كارثي، الخروج من الباب وملاقاة الجنود أو القفز من نافذة تطل على منور ومن ثم جدار حديقة خلفية لمقر بعثة دبلوماسية، وكان قرار القفز الخطير متعلقًا ببروز بالجدار ثم امتداد لسقف جراچ ثم قفزة إلى أرضية المنور، تبعني شاب آخر قبع معي في المنور حتى الثالثة والنصف فجر يوم الاربعاء ٢٦ يناير ٢٠١١ .
ثلاث ساعات معزول عن العالم قبل أن يرن هاتفي معلنًا عودة الاتصالات مرة أخرى بعد انقطاع دام ساعات، وكان الرفيق وائل هو محدثي مبشرا بسلامته وسلامة زوجته التي واجهت عنف الشرطة، وحيدة بعد اقتحام الميدان، غادرت مخبئي عند الرابعة فجرًا وقد واجهت من المخاطر والصعوبة في الخروج والهرب عبر سور البعثة الدبلوماسية أضعاف ما واجهته خلال المطاردة وحتى وصولي أرضية المخبأ، وصلت ميدان رمسيس (لاحظت سيارة بوكس محترقة على جانب الشارع) حيث كان الرفيق وائل ورفاق آخرين في الانتظار على المقهى، كوبان متتاليان من الشاي المغلي مع السيجارة وحديث عن تواصل الاشتباكات والمطاردات بين الأمن والمتظاهرين بمنطقة شبرا بالقاهرة وعن الأوضاع الأشد سخونة في السويس، عن المجهول وعن ماذا بعد وقد خلا الميدان مجددا كما أُخلي من قبل لكنه الفأل الذي ساقه أثر الفراشة الذي لا يزول كما أنبأ الدرويش وكما لمحت في أعين الألف ريتا بالميدان.. كان بودي الكتابة عن يوم ٢٥ يناير، لكن خشيت أن تبدو رجع صدى باهت لتكرار ممل، خلوها حديث الروح للارواح يسري فتدركه القلوب بلا عناء !
وللحديث بقية .
تحية للرفاق الذين شاركونا هذا اليوم العظيم انطلاقًا من امام دار الحكمة
All bonuses and promotions are credited to a separate account https://1xbet-review.ng/