عبد المجيد المهيلمي يكتب: لبن الجاموسة
أمضى سيادة الرئيس وقتًا طويلًا نسبيًا في حوار مع أصحاب مصانع الألبان خلال افتتاح مدينة المنصورة الجديدة. ومن المؤكد أن هؤلاء ثمنوا ذلك من الرئيس الذي أولى اهتمامًا كبيرًا بلبن الجاموسة، فهو يطمح في مضاعفة إنتاج الجاموسة المصرية من اللبن مرتين وثلاثة وربما أربعة من خلال برنامج قد يأخذ عشر سنوات. ولكن لا بد أن سيادته وهو القادم لتوه من مؤتمر المناخ 2022 (كوب 27)، قد سمع ولو طشاش وهو في شرم الشيخ عن أن تربية الماشية هي واحدة من أكبر مصادر الغازات التي تغير المناخ في العالم. فانبعاثات الميثان من الأبقار مشكلة كبيرة، وروث البقر مشكلة أكبر.
فالسماد الطبيعي يحتوي على الفوسفور والنيتروجين، وعند استخدامه في الحقول، يمكن أن يتسبب هطول الأمطار في جريان السماد إلى مصادر المياه وتلويثها. وازدحام الأبقار في المزارع يؤدي إلى ظاهرة فرط السماد الطبيعي التي تحدث عندما تصبح الحقول مشبعة بالأسمدة الكيماوية والطبيعية.
ونظرًا لأن النباتات والتربة محملة بالمواد المغذية، فإن الجريان السطحي يتسرب إلى المياه الجوفية. وعندما يحدث هذا، يمكن أن يكون تلوث المياه بعيد المدى، مما يؤدي إلى انتشار مسببات الأمراض المنقولة بالمياه ونمو الطحالب الضارة.
أن الميثان له أكبر تأثير على المناخ بعد غاز ثاني أكسيد الكربون، ومع أنه أقصر منه عمرًا، وأقل منه بقاء في الغلاف الجوي، إلا أن له قدرة احترار تفوق على مدى 20 عامًا قدرة غاز ثاني أكسيد الكربون بـ 80 مرة. والميثان تنتجه الأبقار (والجاموس جنس من أسرة الأبقار) بواسطة البكتيريا الموجودة في بطنها، ويخرج غالبًا عن طريق الفم مع زفير الحيوان أو تجشؤه، كما ينتج أيضًا عند تحلل الروث في التربة. وتنتج البقرة الواحدة ما بين 70 و120 كج من الميثان سنويًا.
ولهذه الأسباب فإن صناعة الألبان البقرية هي في تردي واحتضار، فكل الدول مطالبة بتحسين بصمتها الكربونية للمساهمة في حل مشكلة عالمية. والميثان غاز دفيئ قوي وبدون حدوث انخفاض حاد في انبعاثاته في السنوات القادمة لن يكون ممكنًا الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري. والعالم يتجه بسرعة إلى الحد من المزارع الحيوانية لما لها من أضرار بالغة على البيئة وعلى التغير المناخي. وعلى العكس من ذلك، فإن الصناعة التي تشهد نموًا ضخمًا هي صناعة الألبان البديلة، كالألبان النباتية من الصويا، واللوز وجوز الهند والأرز والشوفان.
طور العالم السويدي ريكارد أوستي لبن الشوفان في التسعينيات (عرفت أنواع الألبان النباتية الأخرى منذ القرن الثالث عشر)، وأسس “أوتلي” أكبر شركة تقوم بتصنيعه في العالم. وبعد سنوات قليلة تم أدراجها ببورصة نازداك في مايو 2021 حيث بلغت قيمتها السوقية 13 مليار دولار.
هذا وقد أحدثت البدائل النباتية ثورة في صناعة الأغذية، والطلب عليها ينمو بتسارع كبير جدًا خاصة ممن لديهم حساسية من اللاكتوز أو يعانون من عسر الهضم.
وقد ظهر من استقصاء حديث أن 42% من المستهلكين في العالم أصبحوا يقيدون استهلاكهم من المنتجات الحيوانية، وأن الصحة هي السبب الرئيسي الذي يدفعهم لاتباع نظام غذائي خالٍ من منتجات الألبان البقرية. فصناعة الألبان النباتية واعدة للغاية حيث بلغت مبيعات قيمة التجزئة العالمية أكثر من 20 مليار دولار في 2021.
إن الدعوة التي أطلقها سيادة الرئيس للعمل بالمؤتمر الاقتصادي “إذا كنا عاوزين البلد تطلع لقدام يبقى لازم كلنا نحشد ونشتغل” هي دعوة حميدة ما في ذلك شك، على:
1) أن يتم العمل بألمعية وذكاء كما يؤكد التربويون. و2) ألا يقوم أي مسؤول بطحن نفسه. فقد أكد علماء النفس أن الإجهاد الذي يصاب به أي مسؤول نتيجة ضغط الشغل يؤدي إلى ضعف وسوء أداءه. وينصحون بأن يوازن المرء دائمًا وأبدا بين متطلبات حياته المهنية ومتطلبات حياته الشخصية. وعندما “يقوم كل واحد بيشتغل مع سيادة الرئيس بطحن نفسه علشان يعمل حاجة للبلد” على حد تعبيره، فهو يظلم نفسه وأسرته، والطحن يؤثر دون شك بالسالب على أداءه المهني ويضعفه، وبالتالي يظلم معه كل المصريين. فالأداء الجيد لأي مسؤول يعود بالفائدة على البلد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى أي طحن.
وفي ضوء ذلك، يتحتم على الحكومة أن تضع برنامج تصنيع طموح يركز أساسًا على صناعات الغد صديقة البيئة الصاعدة الواعدة في شتى المجالات، وليس التوسع في إنشاء صناعات الأمس المحتضرة.
فما هي تلك الصناعات؟ لنتعرف عليها لا يجب أن نذهب بعيدًا للنمور الأسيوية الأربعة كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج وسنغافورة التي كان اقتصادها متخلفا للغاية حتى أوائل الستينيات (بلاد الواق واق كما كنا نطلق عليهم حينما كانت مصر تتقدمهم بمراحل)، واليوم خرجت تلك الاقتصادات من حيز الدول النامية إلى الدول المتقدمة ذات الدخل العالي، وتخصصوا في عدة مجالات تنافسية. فأصبحت هونج كونج وسنغافورة من المراكز المالية الرائدة في العالم، في حين أصبحت كوريا الجنوبية وتايوان من رواد تصنيع المكونات والأجهزة الإلكترونية.
لنطل بسرعة على اقتصاد جارنا الكيان الصهيوني (أقل من 10 مليون نسمة) كي نتعرف على بعض الصناعات الصاعدة. فوزارة الاقتصاد والصناعة الإسرائيلية تتوقع أن تصل الصادرات من السلع والخدمات إلى مستوى قياسي يبلغ 165 مليار دولار في 2022، بزيادة 15% عن صادرات 2021 البالغة 143 مليار دولار. أهم صادرات إسرائيل بخلاف الماس هي الدوائر المتكاملة (3.38 مليار دولار)، والأدوية (1.97 مليار دولار)، والأدوات الطبية (1.86 مليار دولار)، وأدوات القياس الأخرى (1.6 مليار دولار).
وفي 2021 تجاوزت صادرات الخدمات – وهو مصطلح فضفاض يشمل خدمات التكنولوجيا مثل البرمجيات ومختلف حلول البحث والتطوير – صادرات السلع لأول مرة، بنسبة 52% للخدمات و48% للسلع. وشكلت الصادرات التقنية بما في ذلك البرمجة والبرمجيات وخدمات واستشارات تكنولوجيا المعلومات 46% من جميع صادرات الخدمات في 2021، في حين شكلت الأبحاث والتطوير العلمي والخدمات العلمية والتقنية 17% معًا. وشكلت خدمات التكنولوجيا الأخرى 4%.
وإذا كان هذا وضع الطلب في الأسواق العالمية فعلينا التأسيس لاقتحامه بالتركيز على تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، ذلك أن وظائف المستقبل مرتبطة بها، ولن تقوم قائمة لأي بلد بدونها.
وبما أن زيارة سيادة الرئيس كانت لافتتاح مدينة جديدة، فكنت اتطلع مع غيري من المصريين القلقين على مستقبل أحفادنا إلى أن يحدثنا عن مدن المستقبل التي تغذيها التقنيات الرقمية المستنيرة، والتي تنتشر بكل ركن فيها التكنولوجيا الحديثة. فيا حبذا لو كان أخبرنا مثلًا بأطوال كابلات الألياف الضوئية التي تم تمديدها بالمنصورة الجديدة، وما تم بخصوص توفير الإنترنت فائق السرعة بها، وما إلى ذلك. وكم عدد المدارس والمعاهد والجامعات التي تم تجهيزها بأحدث أجهزة الكمبيوتر والتقنيات الحديثة، وهل تم توفير أساتذة مؤهلين لتدريس مواد الـ “ستم” لتخريج جيل على مستوى عال من مهندسين طب حيوي، وبيئة وزراعة، وصحة وسلامة، وطيران ونووي، وبرمجيات الحاسوب، وطباعة ثلاثية الأبعاد، وروبوتات….. فضلًا عن محللين أنظمة الحاسوب، واتصالات وقواعد البيانات، ومعلومات أمنية. وكذلك مديرو المحتوى الرقمي، ومصممو العاب ورسوم متحركة، وعالم افتراضي، وغيرها من مهن صناعة الترفيه؟
وعودة إلى الألبان، يجب ألا نغفل ما أكده الخبراء من أن تناول اللبن الدافئ يعمل على تعديل الحالة المزاجية والنفسية للإنسان، حيث إنه يحتوي على فيتامين د الضروري لإنتاج هرمون السيروتونين المسؤول عن تعديل المزاج والتخلص من الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب.
فكوب اللبن مهم هذه الأيام بالذات لصحة المصريين.
5 ديسمبر 2022