عبد المجيد المهيلمي يكتب : النمو والفقر والاستثمار الوهمي
“إن النمو المستدام الذي يستطيع أن يساعد على التغلب على الفقر هو عادةً عملية تستغرق عقودًا، وتحدث فقط في بيئة استثمار مستقرة ومشتغلة.
إنها تتطلب قيادة سياسية وحكومات فعالة وبراجماتية وفي بعض الأحيان ناشطة سياسيًا واجتماعيًا، وقد وجدت هذه النقطة صدى عند بنيامين مكابا رئيس تنزانيا السابق وعضو لجنة النمو والتنمية والذي علّق قائلا (على المدى الطويل، ليس من المُجدي أن تبني قصرًا اقتصاديًا على أساس من الرمال السياسية)”
من كتاب “السعي إلى الرخاء.. كيف تنطلق الاقتصادات النامية” لـ جاستن ييفو لين
مليارات الجنيهات، بل مليارات الدولارت، تم إنفاقها على إنشاء العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة وعدد من الكباري والأنفاق، دون النظر إلى قطاع الصناعة الذي كان يمكن أن يحقق طفرة اقتصادية كبرى طوال الفترة الماضية بما يضمن زيادة الصادرات وتوفير العملة الصعبة والحد من البطالة.. لكن ذلك لم يحدث.
حسب تأكيد الخبراء وحسب عدد من الدراسات والأبحاث، فإن كثير من المصانع المتوقفة مازالت أمامها الفرصة الكاملة للعودة إلى العمل بطبيعتها إذا ما توافرت لها الظروف “الإدارية” اللازمة، مع قليل من الدعم المادي والذي لا يتجاوز ولا يقترب حتى بأي حال من الأحوال من نفقات العاصمة الإدارية أو العلمين الجديدة.
في بحث للدكتورة هويدا عدلي أستاذ العلوم السياسية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بعنوان “الأبعاد والإشكاليات الاجتماعية للعاصمة الجديدة” تؤكد أن ” السؤال المطروح هو: ما مدى أولوية الاستثمار في العاصمة وأخواتها فى ضوء وضع اقتصادى مترد وتحديات تنموية ضخمة، تقتضي العمل في مسارات مختلفة تقوم على فكرة خلق أقطاب متعددة للنمو فى محافظات مصر المختلفة، مما يسحب جزء من الكثافة السكانية من القاهرة ويحد من الهجرة الريفية إلى الحضر، بدلاً من تركيز هذا الكم الهائل من الاستثمارات فى إنشاء عاصمة جديدة”
لكن الأزمة لا تتعلق فقط بالمشكلات الداخلية للقطاع ولكنها جزء من رؤية الدولة بشكل عام وخططها للمستقبل حيث ركزت على الاستثمار العقاري دون أن تدعمه بظهير صناعي وهو ما يشدد عليه خبير واستشاري هندسي فضل عدم ذكر اسمه موضحا “المشكلة الحالية في بعض المُدن الجديدة مثل العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة أنها ليست لها قواعد اقتصادية، وبالتالي يصعب مع ذلك -حتى الآن- التحدث عن تحقيق عوائد بعيدة المدى، مفيش أبدًا مدينة بتقوم على الخدمات فقط، وهي في هذه الحالة -يقصد العاصمة الجديدة- خدمات المدينة فقط، هي ليست حتى خدمات إقليمية لها دور في المنطقة العربية.. نقل القطاعات الإدارية والوزارات من القاهرة إلى العاصمة الإدارية هو بمثابة (نقل خدمات) وبالتالي مفيش مدينة تقوم على نقل الخدمات فقط”.
سبب آخر لما وصلنا له تكشفه دراسة عن الفترة من 2004 وحتى 2017 بعنوان “الاختلالات الهيكلية في قطاع الصناعة المصري” لـ د. إسلام عبدالسلام رجب الباحث الاقتصادي بوزارة المالية، و د. إمام علي كامل خليل مدرس الاقتصاد بمعهد التخطيط القومي، عدّد الباحثان أسباب ضعف التصنيع المحلي.
يقول الباحثان إن “واقع الصناعات الصغيرة والمتوسطة في مصر يعد سيئًا للغاية حيث تفتقد إلى الكثير من صور الدعم والتنظيم، حيث يكون في النهاية المشروع الصغير معتمدًا وبشكل كبير على قدر صاحب المشروع سواء من ناحية نشاط المشروع، وأساليب الإنتاج وصولا إلى التسويق للمنتج، وتصريف الإنتاج الخاص بالمشروع، وبذلك فإن أنشطة المشروعات الصغيرة تكون عشوائية إلى حد كبير ولا تعمل وفق آلية تربطها بالمصانع الكبيرة وفق خرائط استثمارية تحقق توفير العمق الاستراتيجي للصناعات الكبيرة من خلال ربطها بصناعات مُغذية ومكملة لها بحيث يساعد المشروع الصغير في دعم تنافسية المصانع الكبيرة في الوقت ذاته تنمو على أكتاف المصانع الكبيرة سلاسل من المشروعات الصغيرة والمكملة التي تجد وسيلة جيدة في تصريف الإنتاج بها”.
تذكر الدراسة أيضًا أن هناك مشكلة تتعلق بغياب القدرة على تصنيع مستلزمات الإنتاج، وهو ما جعل الصناعة المصرية مرتبطة وبشكل مستمر بالخارج في استيراد آلات ومعدات الإنتاج وأيضًا الحصول على تكنولوجيا غالبا ما لا تتيح للصناعة المصرية الإنتاج بقدرة تنافسية مثل مثيلتها في الغرب نظرًا إلى أن جزءًا كبيرًا يكون من خلال استيراد آلات مستعملة وفنون إنتاجية قديمة.
وتسترسل الدراسة إلى أن غياب الخرائط الاستثمارية والتخطيط الاستراتيجي للصناعة المصرية من قبل الدولة أطل كأحد أسباب مشكلات الصناعة في البلاد، وتضيف “بطبيعة الحال لا نعني هنا بالتخطيط الاستراتيجي للصناعة المصرية نمط الملكية أي أن تقوم الدولة بإقامة المشروعات الصناعية كلها من خلال القطاع العام، لكن المقصود بالتخطيط الاستراتيجي هو أن تقوم الدولة بوضع استراتيجية عامة للتصنيع على مستوى كل سصناعة ويتم من خلال ذلك تحديد الأدوار المنوط بها كل من القطاع الخاص من جهة والدولة من جهة أخرى بحيث تقوم الدولة بوضع الخرائط الاستثمارية وعمل دراسات الجدوى للمشروعات وتقسيم المشروعات المطلوبة لكل صناعة من حيث حجم المشروع”.
وتتابع الدراسة “وفيما يتعلق بالوضع الحالي في مصر نجد غيابا تامًا لذلك المفهوم في التخطيط الاستراتيجي حيث يقتصر التخطيط الاستراتيجي على (التخطيط العمراني) للمدن الصناعية دونما وجود رؤية اقتصادية فعالة تساعد في ترابط وتعميق التصنيع المحلي، وهنا يكون النجاح في تأسيس المشروعات متروكًا للمبادرة الفردية وقدرة صاحب العمل على التعامل مع البيروقراطية”.