عبد المجيد المهيلمي يكتب: البورصة المالية والبورصة الإعلامية والسياسية
ثمة قصة شهيرة، في سوق الأوراق المالية، ذات دلالة كبيرة عن مستثمر يقول بضيق وغضب عارم لأحد أصدقائه: “إن كل توصيات السمسار الذي أتعامل معه منذ فترة طويلة سيئة للغاية، فكلما أوصاني بشراء سهم معين هبط سعره بشدة، وكلما نصحني ببيع سهم ارتفع بحدة!” وكأن السمسار يتعمد أن يكبد عميله الخسائر، الخسارة تلو الأخرى. فما كان من الصديق الذي لا يعرف شيء عن البورصة ولكنه يتمتع بحس سليم وتفكير عقلاني، أن قال له بعفوية وبساطة: “اتصل به فورا.. وبخه وأشبعه شتما.. وقل له إنه لا يفقه شيئًا في البورصة”. المدهش أن المستثمر رد عليه بتلقائية وقد تغير وجهه: “أخشى إن فعلت ذلك أن أخسره، وقد يكف عن إصدار توصياته لي بالشراء والبيع، كما أنه قد يحرمني من معرفة رأيه في السوق، ومن تحليلاته العميقة للحركة السعرية للأسهم!”.
ذلك بالضبط ما نلمسه أيضا، للأسف الشديد، في عالم الصحافة والإعلام والسياسة في مصر.
فلدينا مذيعون ومقدمو برامج وشيوخ سُلطة يملأون شاشات التلفزيون على مدار اليوم، وصحفيون وكتاب، وأساتذة جامعات يحظون برضا المسؤولين لا يكفون عن الكلام والكتابة منذ سنوات طويلة، وذلك على الرغم من الكوارث التي جلبوها للوطن من جراء تصريحاتهم وتحليلاتهم وقراءاتهم العامة للأحداث السياسية في مصر والعالم العربي.
المصيبة أن هناك آلاف بل ملايين لا يزالون يحرصون على معرفة آرائهم، يتكالبون على مشاهدة برامجهم فتظل الأعلى مشاهدة، ويواصلون قراءة كل كلمة يكتبونها في الصحف والمجلات وشراء كتبهم فتصبح في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً.
لقد سمعت في الأيام القليلة الماضية، من يلعنون مذيعا بالقناة الأولى للتليفزيون أكد بثقة وغطرسة منذ فترة أن قيمة الدولار ستهبط بشدة مقابل الجنيه، وحث مشاهديه على بيع ما لديهم من دولارات حتى لا يضيعون مدخراتهم. وقرأت في السياق نفسه ما قاله بالنص أحد الشيوخ الذين يتاجرون بالدين وتحركهم أجهزة الأمن: “الجنيه عملة مستقلة لها سيادتها وكرامتها وكيانها، علينا ألا نربط العملة بتاعتنا بالدولار ولا بالذهب، وإنما بإيماننا بالله!” وكأن المذيع الظريف والشيح الألمعي هم من أهل الخبرة في سوق الصرف الأجنبي كي نعير كلامهما أي اعتبار.
نصيحة أخرى قالها الصديق: “افعل عكس ما يوصي به سمسارك، فهذا يقينًا طريقك لتحقيق الأرباح الغزيرة”.
سمعت أيضًا، أن أحد سماسرة البورصة يقوم بتقسيم قائمة عملائه أبجديًا طبقًا للحرف الأول من أسمائهم إلى مجموعتين: المجموعة الأولى من الألف إلى الصاد، والمجموعة الثانية من الضاد إلى الياء. يقول للأولى أن السوق سيرتفع، وللثانية أن الأسعار ستنخفض، وهو بذلك يضمن أن يكون دائمًا على حق وصواب مع نصف عملائه!
نلحظ مثل ذلك أيضًا في تصريحات بعض السياسيين والشيوخ، والمحللين وضيوف الإعلام شبه الدائمين والمذيعين أنفسهم، حيث يغيرون كلامهم في تبجح لا يعرف الخجل حسب الجمهور الذي يتحدثون إليه أو الظرف الزمني المعاش، وهو ما يعكس تناقض صارخ ومقيت فيما يقولونه. فكلامهم لفصيل سياسي معين مغاير لكلامهم لفصيل آخر، وتصريحاتهم اليوم عكس تصريحاتهم بالأمس القريب، معتمدين على ضعف ذاكرة الجمهور وإدمانه على متابعتهم. كما أن كثيرًا ما يختلف خطابهم الموجه للداخل (للاستهلاك المحلي) عن خطابهم الموجه للخارج (للتزاويق الخارجية)، فما يقال وينشر باللغة العربية شيء، وما يقال وينشر باللغة الإنجليزية أو الفرنسية شيء آخر. وما يقال لقناة تليفزيون محلية، غير ما يقال لوسائل الإعلام العالمية.
من المعروف أن السمسار ببورصة المال هو مجرد وسيط وليس طرفًا في عمليات التداول، ولا يجوز له إجراء عمليات بيع وشراء لحساب عملائه دون أمر موقع منهم (أو لحسابه الخاص إلا بعد الالتزام بشروط صارمة). إلا أن أحيانًا ما يقوم بعض السماسرة – بالمخالفة للقواعد المنظمة لعمليات البورصة – بالشراء والبيع لحساب العملاء دون أوامر صريحة منهم، أو يقومون بإدارة محافظ مالية لعملائهم على الرغم من أن القانون لا يبيح ذلك. ويحظر القانون على السماسرة اضطرار عملائهم إلى توقيع الأوامر على بياض، فالتوقيع على بياض قد يؤدي إلى ضياع أموال المستثمرين.
في العالم السياسي أيضًا لا يوجد من يوقع لأحد على بياض، ومن يفعل يقوم بدفع الثمن غاليًا إم عجلًا أم آجلًا. ولكنه لا يوجد ما يمنع من قيام أحد المحللين السياسيين من تأسيس حزب مثلًا. وهنا تكون الطامة الكبرى حيث يبدأ الحزبي الكبير في إبداء آراء مخالفة تماما لأهداف وبرامج ومواقف الحزب المعلنة، كما يقوم بالانفراد بالقرارات دون الرجوع للمكتب السياسي للحزب أو هيئته العليا، يتصرف كطرف أصيل مستقل بلا أي حساب لأصحاب الحساب الحقيقيين من أعضاء الحزب وكوادره. وبين قبعة المحلل، وقبعة الحزب يقرر وحدة متى وكيف وأين يستبدل ويغير هذه القبعة بتلك، وفقا لأهوائه ومصالحه الشخصية أو ما يهديه إليه عقله الفذ في لحظة معينة.
ثمة ما يعرف، في سوق المال، بالحمل الزائد للمعلومات information overload (وهو وصف لظاهرة تحصيل كم هائل من المعلومات عن موضوع بعينة من قبل شخص ما حتى يصبح من المستحيل عليه استيعابها ومعالجتها بطريقة ناجزة تجعله يتخذ القرارات الصحيحة)، ويبدو لي أن ذلك الحمل الزائد له تأثير سلبي كبير لدى قطاع عريض من المحللين الماليين والسياسيين. فالمعلومات الزائدة تجعلهم يتوهون في غابة من المعلومات التي تفقدهم القدرة على التمييز والتفرقة ما بين الشجرة والغابة.
يوجد بحركة الأسعار ما يعرف بالضوضاء، وحياتنا السياسية كذلك مليئة بالصخب الشديد. والمحلل الحاذق والسمسار الشاطر هو الذي يعرف أن يفرق بين صوت الحركة الرئيسية وبين الشوشرة والجلبة التي تصاحبها وتحيط بها.
إن نتائج تنفيذ توصيات سمسار البورصة المالية تظهر آنيا حيث إنها تؤثر مباشرة في حساب الأرباح والخسائر، أما تصريحات وتوصيات سماسرة الصحافة والإعلام والسياسة فتأخذ وقتًا طويلًا كي تتضح نتائجها، ويصعب في كثير من الأحيان قياس ومعرفة نتائجها، وإن كانت مدمرة. والسمسار للأسف الشديد سيظل – كما يقولون – كالمنشار طالع واكل، نازل واكل، مهما ارتكب من أخطاء وخطايا.
فمن الواضح، أن قانون جريشام المأثور الذي ينص على أن “العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق” أحكم السيطرة على المجال الصحفي والإعلامي والسياسي في مصرنا الحبيبة.
لكن يبقى السؤال: هل بمقدورنا تحمل المزيد من الخسائر؟
1 نوفمبر 2022