عبد المجيد المهيلمي يكتب: أوبك وخفض الانتاج
خفضت أوبك+ إنتاجها اليومي من النفط بمقدار مليوني برميل لأن تقديرات النمو في الاقتصاد العالمي وبالتالي الطلب على النفط تتراجع بشكل ينذر بتدهور كبير للأسعار لو لم يتم تخفيض الإنتاج اتساقا مع التراجع المتوقع للطلب، ففي أكتوبر عام 2021 قدر صندوق النقد الدولي معدل نمو الاقتصاد العالمي في عام 2022 بنحو 4,9%، وفي أبريل من العام الحالي تراجعت تقديراته للنمو في الاقتصاد العالمي لنفس العام إلى 3,6% في ظل العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا بسبب الحرب الروسية مع أوكرانيا ومن خلفها الغرب الداعم بالأسلحة والمال.
وفي يوليو الماضي ومع استمرار الحرب وتكثيف العقوبات ضد روسيا تراجعت تقديراته للنمو في الاقتصاد العالمي في العام الحالي إلى 3,2%. وفي الوقت الراهن تتصاعد المخاوف من حدوث المزيد من التراجع ومن دخول الاقتصاد العالمي في حالة من الركود في العام القادم لو استمرت الحرب والعقوبات.
ومن ناحية أخرى فإن العقوبات الغربية على روسيا التي أشعلت أسعار السلع والخدمات وبخاصة الطاقة والحبوب، تجسدت في النهاية في ارتفاع معدلات التضخم في الغرب عموما لما يقرب 10% في المتوسط، بما يعني أن واردات دول الأوبك من الغرب سوف ترتفع تكلفتها بتلك النسبة على الأقل، وبالتالي فإنها كي تحافظ على ما كانت تتوقعه من أداء في موازينها الخارجية وموازناتها العامة، لابد لها من زيادة إيراداتها من صادراتها من خلال العمل على الحفاظ على تماسك أسعار النفط عند مستويات تدور حول 90 دولار للبرميل.
إذن المسألة بالنسبة لدول الأوبك وفي مقدمتها دول الخليج لا علاقة لها بمساندة روسيا كما ادعت الولايات المتحدة، بل بمساندة النفس والحفاظ على المصالح الذاتية، بينما الولايات المتحدة وأوروبا تريد عبيدا ومأتمرين برغباتها وليس شركاء أو أصدقاء لهم مصالحهم التي يسعون لتحقيقها!
وما أن اتخذت مجموعة أوبك + قرارها بخفض الإنتاج، حتى أبدى الرئيس الأمريكي خيبة أمله وأعلن أنه يبحث خيارات الرد، وهو نفس ماردده وزير خارجيته، وزاد البيت الأبيض باعتبار القرار دعما لروسيا في ابتزاز رخيص وإرهاب استفزازي لدول الأوبك وبخاصة للملكة العربية السعودية الحليف التقليدي للولايات المتحدة. أما الدول الأوروبية وهي في مجموعها أكبر مستورد للنفط في العالم (14 مليون برميل يوميا)، وأكبر مستورد للغاز أيضا (400 مليار متر مكعب في العام)، فإنها سارعت لإبداء امتعاضها من قرار الأوبك، واجتمعت وقررت على الفور وضع سقف لسعر النفط الروسي لمنع روسيا من الاستفادة من أي ارتفاع في الأسعار ينتج عن تخفيض الإنتاج، رغم أنها قد لا تستطيع تنفيذ ذلك عمليا بعد أن أعلنت موسكو أنها ستقطع الإمدادات عن أي دولة تضع سقفا لسعر نفطها يختلف عن سعر السوق.
كما أعلنت أوروبا أنها ستتوقف عن نقل النفط الروسي الذي يتم نقل جزء كبير من صادرات روسيا منه على ناقلات نفط غربية، وهو أمر قد يرتد على أوروبا ببوار ناقلاتها لو بحثت روسيا عن ناقلات لدى دول أخرى وركزت على بناء ناقلاتها الخاصة أو مد خطوط أنابيب لأسواق نفطها المتنامية بسرعة في الصين والهند. كما أن تعطيل الصادرات الروسية بهذه الطريقة قد يؤدي إلى تقليل المعروض النفطي العالمي ويرفع الأسعار بشكل مضاعف بما يصيب الاقتصادات الأوروبية بأضرار أشد وطأة!
واستنكر الإعلام الغربي الدعائي (رغم ادعاءات الموضوعية) الموالي لحكوماته، رغبة دول الأوبك في الحفاظ على تماسك الأسعار التي تتراوح حاليا بين 80 و 100 دولار للبرميل، مذكرا السعودية بأنها أعدت موازنتها العامة على أساس سعر 70 دولار للبرميل وهو نفس متوسط السعر عام 2021، وكأن ذلك يلزمها بالعمل على خفض الأسعار لهذا المستوى لمساندة الاقتصاد العالمي المتداعي، متناسيا أن أزمة الاقتصاد العالمي وارتفاع أسعار النفط والتضخم سببها جنون العقوبات الغربية ضد روسيا ومن قبلها ضد الصين والتي قطعت أوصال سلاسل الإمداد العالمية ومكنت المضاربين الغربيين من إشعال أسعار النفط والمعادن والحبوب والكثير من السلع الأخرى.
وهذه المواقف الغربية من قرار أوبك+ تتسم بالعنصرية والأنانية والاستعلاء الذي يغذي التصور بأن منظمة الأوبك التي تقودها دول الخليج الحليفة للغرب ينبغي أن تكون تابعة لرغبات وأهواء الولايات المتحدة وأوروبا حتى ولو على حساب مصالح اقتصاداتها وشعوبها!
ويذكر أنه عندما انهارت أسعار النفط إلى 41,5 دولار للبرميل في المتوسط عام 2020، وانهارت في بعض أيام التداول إلى ما دون 30 دولارا للبرميل في ذروة انتشار وباء كوفيد 19، طالبت الولايات المتحدة، دول الأوبك بالعمل عل رفع سعر النفط وذلك لأن قطاع النفط الصخري الأمريكي الذي ينتج نحو 8,5 مليون برميل يوميا أي أكثر من نصف الإنتاج الأمريكي البالغ 16,4 مليون برميل يوميا، كان مهددا بالانهيار كليا لو استمرت الأسعار تحت مستوى 45 دولار للبرميل وهو الحد الأدنى الذي يمكنه العمل عنده.
وكلما ارتفع السعر ترتفع أرباح ذلك القطاع وتنافسيته في أسواق الطاقة الدولية وبخاصة الأوروبية، لكن المستهلك الأمريكي والشركات المستهلكة للطاقة تبدأ في التضرر من ارتفاع الأسعار. وتوازن الإدارة الأمريكية بين أرباح قطاع النفط، والضرر الذي يقع على المستهلكين والشركات المستخدمة للطاقة، في تحديدها للسعر الملائم للاقتصاد الأمريكي ولرفع تنافسيته مقارنة بالاقتصادات الأوروبية التي تعتبر المضار الأول من جنون العقوبات التي فرضتها أوروبا نفسها ضد موسكو وبخاصة في مجال الطاقة!
ورغم أن الولايات المتحدة كانت تريد رفع أسعار النفط لإنقاذ قطاع النفط الصخري ولجعل إنتاجها قادرا على المنافسة في الأسواق الأوروبية، إلا أن حدود الارتفاع الحالي تفوق رغباتها وتضر بالصناعات الأمريكية كثيفة الاستخدام لمنتجات النفط، فضلا عن إضرارها بالمستهلكين الذين يمكنهم معاقبة الحزب الديموقراطي الحاكم في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي تجرى الشهر القادم والتي يمكن أن يفقد فيها أغلبيته بصورة تحول الرئيس الأمريكي بايدن إلى “بطة عرجاء”.
وبالمقابل لا تنسى دول الأوبك أنه عندما انهارت أسعار النفط عام 1986 واستمر الانهيار لعقد ونصف باستثناء عام واحد إبان غزو العراق للكويت، لم تمد الدول المستهلكة يدها لمساندة دول الأوبك المنتجة والمصدرة للنفط والتي عانت كثيرا خلال تلك الفترة واستنزفت جانبا مهما من مدخراتها واقترضت لتمويل عجز موازناتها العامة.
وتلك التجربة المريرة للدول المصدرة جعلت حركتها في أسواق النفط محكومة أساسا بالبحث عن مصالحها في غالب الأحيان وهو أمر طبيعي وبديهي. كما أنها تدرك أن التهديدات الأمريكية عبثية في ظل عالم متعدد الأقطاب موجود فعليا حتى لو رفضت الولايات المتحدة التسليم بوجوده، وحتى لو قامت بدور رئيسي في إشعال الحرب في أوكرانيا لعزل منافسها النووي الأكبر وإبطال فعاليته الدولية في تغيير النظام الذي كانت تهيمن عليه، وحتى لو قامت بمحاولة جر الصين لاستنزاف عسكري في تايوان للغرض نفسه.
وتدرك دول الأوبك أن هناك بدائل للولايات المتحدة في كل شئ من السلع للخدمات للأسلحة للتكنولوجيا، كما أن العالم غربا وشرقا لا يستطيع الاستغناء عن نفطها الذي يشكل نحو 76% من إجمالي الاحتياطيات العالمية، ونحو ثلث الإنتاج العالمي، وبالتالي فإن قدرتها على السعي من أجل مصالحها الذاتية دون خوف من عقوبات واشنطون أصبحت أعلى كثيرا عن ذي قبل.
ولم يبق للولايات المتحدة والغرب سوى التآمر الذي يبرعون فيه مثلما فعلوا بتخريب خطوط نورد ستريم الروسية لتصدير الغاز لأوروبا بعد فترة طويلة من إعلان العداء الأمريكي الصريح لها وحتى للشركات الغربية المشاركة في تنفيذها والتي تعرضت لعقوبات أمريكية أجبرتها على الانسحاب من المشروع الذي أكملته روسيا بنفسها.
لذا فإن الدول المصدرة الرئيسية للنفط مطالبة بأقصى درجات اليقظة في مواجهة جنون الإمبراطورية الأمريكية التي تتصور أن جبروت قوتها العسكرية يبيح لها فعل أي شئ لاستعادة تفوقها وهيمنتها الاقتصادية العالمية الآفلة بعد أن أصبحت تأتي خلف الصين بمسافة كبيرة حيث تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بلغ وفقا لسعر الصرف السائد ووفقا لتعادل القوى الشرائية نحو 23 تريليون دولار عام 2021، مقارنة بنحو 17,5 تريليون دولار للصين وفقا لسعر الصرف السائد، ونحو 27,2 تريليون دولار وفقا لتعادل القوى الشرائية وهو الناتج الحقيقي الذي يتفوق على نظيره الأمريكي بنحو 4,2 تريليون دولار.
أما الصناعة التحويلية الصينية (30% من الناتج الصيني) فبلغ ناتجها نحو 8160 مليار دولار عام 2020 أي ما يعادل ثلاثة أمثال ناتج الصناعة التحويلية الأمريكية البالغ 2760 مليار دولار (12% من الناتج الأمريكي).
أما قيمة الصادرات السلعية الصينية فقد بلغت 2591 مليار دولار عام 2020، مقارنة بصادرات أمريكية قيمتها نحو 1432 مليار دولار في العام نفسه.
وبلغ الفائض التجاري الصيني نحو 535 مليار دولار في ذلك العام، مقارنة بعجز تجاري أمريكي بلغ 976 مليار دولار في العام نفسه وفقا لتقرير إحصاءات التجارة العالمية الصادر عن منظمة التجارة العالمية (تقرير عام 2021).
ومنذ أكثر من 15 عاما تتصدر الصين دول العالم المصدرة للسلع عالية التقنية. وعلى سبيل المثال في عام 2010 بلغت قيمة صادراتها عالية التقنية نحو 406 مليار دولار، مقارنة بنحو 159، 146، 122 مليار دولار لكل من ألمانيا والولايات المتحدة واليابان بالترتيب في العام نفسه وفقا لبيانات البنك الدولي في تقريره عن مؤشرات التنمية في العالم (2012). وفي عام 2014 شكلت الصادرات عالية التقنية نحو 25,4% من قيمة الصادرات الصينية من السلع الصناعية التحويلية، مقارنة بنحو 18,2% في الولايات المتحدة، ونحو 16,7% في اليابان، ونحو 16% في ألمانيا وفقا للتقرير نفسه الصادر عام 2018.
لقد تغير العالم في الواقع العملي وصارت الهيمنة الاقتصادية وبالتالي السياسية الأمريكية المطلقة جزء من التاريخ، وعلى واشنطون أن تدرك أن هناك أقطاب أخرى وألا تغرها استعادتها لهيمنتها على القارة الأوروبية الأكثر جنونا وإشعالا للحروب في التاريخ، لأن العالم أرحب كثيرا من أوروبا وعقوباتها الغبية التي دمرت استقرار الاقتصاد العالمي.