عبد الحميد ندا يكتب: من يزرع الأرض لا يتسول
أثار تصريح وزير الزراعة المصري الأخير بأن الأسمدة دعم من الدولة وليست حقاً للمواطن جدلاً واسعاً؛ لأنه لم يكن مجرد جملة عابرة، بل يعكس رؤية رسمية تتعامل مع حقوق الناس باعتبارها هبات يمكن منحها أو حرمانهم منها وفقاً لاعتبارات ظرفية، بينما ينص الدستور المصري ذاته بشكل واضح على أن الزراعة مقوم أساسي للاقتصاد الوطني، وأن الدولة ملزمة بحماية الرقعة الزراعية وتوفير مستلزمات الإنتاج للفلاحين وحمايتهم من الاستغلال. هذه ليست نصوصاً شعرية أو وعوداً انتخابية، بل التزامات قانونية ودستورية، ومع ذلك فإن الخطاب الرسمي يفرغها من مضمونها لصالح منطق السوق الحر وسياسات الانسحاب التدريجي من أدوار الدولة الاجتماعية، بما يحول الدعم من حق إلى منحة، ومن التزام إلى فضل. الفلاح المصري الذي يسمع مثل هذا التصريح لا يستقبله كوجهة نظر، بل كتهديد مباشر؛ لأنه يعرف أن ما يزرعه ويحصده ويتعب فيه مهدد أصلاً بسبب ارتفاع التكاليف، وأن أي حديث عن كون الأسمدة منحة هو تمهيد لرفع الدعم عنها، تماماً كما حدث في ملفات الطاقة والكهرباء والوقود والخبز.
الأزمة الزراعية في مصر ليست أزمة موارد أو ندرة، بل أزمة إدارة وسياسات. مصر من كبار منتجي اليوريا والأسمدة الأزوتية، ومع ذلك يعاني الفلاح من نقص شديد كل موسم، ويقف في طوابير طويلة أمام الجمعيات الزراعية للحصول على شوال سماد واحد، بينما تُفضِّل الدولة أحياناً تصدير الفائض للحصول على عملة صعبة، حتى لو كان ذلك على حساب السوق المحلي. الأسمدة المدعومة تتسرب بشكل واسع إلى السوق السوداء، حيث تُباع بأضعاف السعر، والفلاح الصغير يجد نفسه مضطراً للشراء من التجار بأسعار لا تتناسب مع دخله أو هامش ربح معقول. وزارة الزراعة في كل موسم تكتفي بتصريحات عامة عن الرقابة وتوزيع الحصص، لكن الواقع على الأرض يقول إن الفساد وضعف الرقابة هما اللذان يحكمان السوق. وفي النهاية يُلقى باللوم على الفلاحين، وكأنهم هم المسؤولون عن تسرب الدعم أو نقصه، بينما المسؤولية الحقيقية تقع على وزارة عاجزة عن بناء منظومة عادلة وشفافة.
ما يجعل تصريح الوزير صادماً ليس فقط تناقضه مع الدستور، بل توقيته أيضاً؛ ففي ظل أزمة اقتصادية خانقة وارتفاع أسعار الغذاء عالمياً وتراجع القدرة الشرائية للمصريين، يصبح الحديث عن الدعم باعتباره منحة استفزازاً للرأي العام وتنكراً لواجبات الدولة. الدعم الزراعي هنا ليس رفاهية، بل الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية وضمان الأمن الغذائي. إن الفلاح الذي يزرع القمح أو الأرز أو الذرة ليس مجرد فرد عادي، بل هو خط الدفاع الأول عن الأمن القومي، لأنه يضمن أن يبقى هناك غذاء على موائد المصريين. حين يُترك هذا الفلاح يواجه أسعار الأسمدة والوقود والنقل وحده، فنحن لا نعرضه للخسارة فقط، بل نعرض المجتمع كله لمخاطر نقص الغذاء وارتفاع أسعاره والارتهان الكامل للاستيراد الخارجي.
التجارب العالمية كلها تؤكد أن الزراعة لا يمكن أن تخضع كلياً لمنطق السوق. حتى الدول الرأسمالية الكبرى كالولايات المتحدة وأوروبا الغربية تدعم مزارعيها بمليارات الدولارات سنوياً، ليس حباً فيهم بل وعياً بأن الزراعة قطاع استراتيجي، وأي خلل فيه يؤدي إلى أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية. فلماذا تريد مصر أن تسير في اتجاه معاكس، فترفع يدها عن الفلاحين وتعتبر ما تقدمه لهم من دعم مجرد منحة؟ أليس الأولى أن ننظر إلى الدعم باعتباره استثماراً في الاستقرار الاجتماعي والسياسي وضماناً لعدم وقوع أزمات غذائية، بدلاً من تصويره كعبء على الموازنة؟
الفلاح المصري يعاني منذ سنوات طويلة من سياسات اقتصادية لم تضعه يوماً في مركزها. أسعار المحاصيل غالباً ما تحدد عند مستويات لا تغطي التكلفة الفعلية، ما يجبره على البيع بخسارة أو بربح ضئيل جداً. البنية التحتية الزراعية متهالكة، وقنوات الري في حالة يرثى لها، وخدمات الإرشاد الزراعي تكاد تكون غائبة. ومع ذلك يُطلب من الفلاح أن ينافس في سوق حر مفتوح على استيراد أرخص المحاصيل من الخارج. الدعم في هذه الحالة ليس ميزة، بل تعويض بسيط عن غياب سياسات عادلة. وعندما تقول الحكومة إن هذا التعويض منحة، فإنها في الحقيقة تعلن أنها ترفع يدها نهائياً عن الفلاحين وتتركهم وحدهم في مواجهة السوق، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى هجرة جماعية من الريف إلى المدن، وزيادة البطالة، وتراجع الرقعة الزراعية.
من منظور يساري، الدعم الزراعي ليس سوى شكلاً من أشكال إعادة توزيع الثروة. الدولة التي تمنح إعفاءات ضريبية لكبار المستثمرين، وتفتح الباب واسعاً أمام خصخصة الخدمات، وتنفق مليارات على مشروعات تخدم الطبقات العليا، لا يحق لها أن تتحدث عن الأسمدة باعتبارها منحة. العدالة تقتضي أن يتحمل الأغنياء عبء تمويل دعم الأسمدة والغذاء عبر نظام ضريبي تصاعدي يوجه موارده للفلاحين والعمال والفقراء. لكن ما يحدث هو العكس: الفقراء يُحمَّلون مسؤولية العجز، بينما تُصان مصالح الكبار. هنا يصبح تصريح الوزير انعكاساً صريحاً لسياسات الانحياز الطبقي، حيث تُعامل حقوق الأغلبية على أنها تفضل من الدولة، بينما مصالح الأقلية تُعتبر مكتسبات محمية.
الأمن الغذائي في مصر اليوم مهدد بالفعل؛ فنحن نستورد القمح والزيوت والسكر والذرة بمليارات الدولارات سنوياً، وأي تراجع في الإنتاج المحلي أو أي ارتفاع عالمي في الأسعار يضعنا في مواجهة مباشرة مع أزمة غذاء. جائحة كورونا وحرب أوكرانيا كانتا مثالين صارخين على هشاشة الاعتماد على الخارج. ومع ذلك، تصر السياسات الحكومية على المضي قدماً في تعميق هذه الهشاشة، بدلاً من دعم الفلاح المحلي الذي يمكن أن يكون صمام أمان. إن وصف الدعم بالمنحة في هذا السياق ليس فقط خطأ سياسياً، بل جريمة اقتصادية، لأنه يفتح الباب أمام انهيار الإنتاج المحلي وزيادة التبعية للأسواق العالمية.
الحل لا يكمن في رفع الدعم أو تخفيفه، بل في إصلاح منظومته. يجب أن تصل الأسمدة المدعومة فعلياً إلى الفلاحين الصغار لا إلى الوسطاء والتجار الكبار. يجب أن تُربط منظومة الدعم بسياسات تسعير عادلة تضمن للفلاح دخلاً يتيح له الاستمرار. يجب أن تعلن الدولة بوضوح أن أولويتها هي السوق المحلية قبل التصدير، وأن دعم الزراعة ليس عبئاً، بل استثمار في استقرار المجتمع. وقبل كل ذلك، يجب أن يتغير الخطاب الرسمي نفسه: فبدلاً من خطاب المنح والأفضال، يجب أن يكون خطاب الحقوق والواجبات، حيث تُعامل الدولة الفلاح باعتباره شريكاً أساسياً في التنمية لا عبئاً على الموازنة.
إن تصريح وزير الزراعة الأخير لم يكن مجرد زلة لسان، بل هو جزء من خطاب سياسي واقتصادي أوسع يريد تحويل الحقوق إلى منح، وتحويل الدستور إلى ورق بلا معنى، وتحويل الفلاح إلى متسول بدل أن يكون شريكاً. لكن ما يجب أن نتذكره جميعاً هو أن من يزرع الأرض ويطعم الناس لا يمكن أن يُعامل كهامش، وأن حقوقه ليست هبات، بل استحقاقات دستورية وتاريخية وأخلاقية. وإذا كانت الحكومة عاجزة عن إدارة ملف الأسمدة بعدالة، فهذا فشلها هي، وليس ذريعة لنزع حقوق الفلاحين. الفلاح هو أساس هذا الوطن، والزراعة هي خط الدفاع الأول عن أمنه القومي، وأي تهاون في حقوقهم هو تهاون في حق مصر كلها.

