عبد الحفيظ طايل يكتب: التعليم وفقر التعلم في مصر (2)
يتشكل التعليم عالي الجودة (متاح , مجاني, منصف, عادل , شامل , ديمقراطي) في كل مكان في العالم علي أنه الأساس والأصل وراء كل تنمية, ولكن بعض الدول تنظر إلى التعليم بشكل عام علي أنه أداة سياسية في يد صانع القرار وخاضع لمعايير تنموية يراها هو وتؤدي النظرة الأخيرة دوماً إلى ما يعرف بفقر التعلم, ويعني افتقاد الطلاب الموجودين في المدرسة إلى مهارات التعلم الاساسية (القراءة, الكتابة, الحساب, مهارات الكمبيوتر)
إن التعليم كحق أساسي من حقوق الانسان بل هو الحق التمكيني الأول والبوابة الأساسية لكل حقوق الانسان, لابد لكي يكون ناجحاً أن تشكل القدرة علي التعلم الدائم أحد منتجاتة الأساسية.
وتشكل ظاهرة فقر التعلم فضلا عن كونها هدر كبير للفرص التنموية فعلا ظالما للمتعلمين وانتهاكا فاضحا لحقوق دافعي الضرائب. فكل طفل وصل إلى العاشرة من عمره يجب أن يتمكن من القدرة علي القراءة حيث هي البوابة الأساسية للتعلم, كما أن أهمية المهارات الأساسية في تكاملها حيث تعمل علي تكامل واستمرارية التعلم والتعليم بما يتيح الفرص لتقليل معدلات الفقر ووجود فرص جيدة للعمل وإلى نتائج جيدة علي مستوى الصحة العامة, وانتاجية أفضل وتقليل للكثافة السكانية وإلى قدرة الفرد علي التمتع بحقوقه وبالحياة عموماً وقدرة المجتمع على التعايش السلمي واحترام قيم التنوع والاختلاف
وبحسب تقرير البنك الدولي فإن أكثر من نصف الأطفال في البلدان النامية يعانون من فقر التعلم.
وفي مصر تعاني نسبة تجاوز الثلث من الأطفال في المتوسط العام من فقر التعلم ونحن بالطبع نتحدث عن الأطفال الموجودين فعلياً في المدارس .
وتصل النسبة إلى أكثر من نصف الأطفال في المرحلة الابتدائية، وبالطبع لا يمكن أن يكتمل تعليمهم طالما كانوا يفتقدون المهارات الأساسية للتعلم ولا يوجد عذر لذلك قط، إذا تم التعامل مع التعليم بوصفه أولوية فمثلا نجد كوريا التي بدأت مسيرتها في الخمسينيات من القرن الماضي بعد أن مزقتها الحروب وعاني سكانها من التدني الكبير في معدلات معرفة القراءة والكتابة, استطاعت أن تكفل تعليم عالي الجودة للجميع خلال التسعينات
ولفقر التعلم أبعاد أساسية هي:-
– البعد الأول ضعف مخرجات التعلم: ففي أغلب الحالات لا يحدث التعلم الذي يتوقعه المجتمع من المدارس بغض النظر عن فلسفة التعليم وهل هي قائمة علي المناهج بشكل مستقل أم علي احتياج سوق العمل أو حتي على أساس التعليم والتعلم كحق للجميع دون تفرقة (وهذا هو المنطق السليم )، إذا لم يكن التعليم أولوية سياسية أو اقتصادية فتكدس الفصول بالطلاب وسوء المناهج وضعف أجور المعلمين والبنية التسلطية للتعليم تقف جميعها حائلا ضد الوصول لنتائج جيدة .
– والبعد الثاني لفقر التعلم هو أسبابه المباشرة التي تظهر بطرق متعددة في المدرسة تؤثر علي العلاقة بين التعليم والتعلم ويحدد أحد التقارير عن التنمية في العالم عدة طرق لحدوث ذلك منها أن سوء التغذية والمرض وانخفاض استثمار الدولة في التعليم والثقافة المرتبطة بالفقر كلها تؤدي إلى ضياع فرص التعلم في الطفولة المبكرة, وعليه يصل الأطفال إلى المدرسة غير مهيئين لعملية التعلم, بل حيث تختلف المهارات الادراكية للاطفال وتتسع الفجوة بين الاطفال الفقراء والاطفال الاغنياء فيما يتعلق بمخرجات التعلم والقدرة على الحصول على فرص عمل جيدة فيتم إعادة انتاج الفقر في دائرة جهنمية لابد من كسرها.
– ويزداد الأمر سوءًا بالطبع كلما قل الإنفاق الحكومي علي التعليم وكلما تركت مساحات لاشكال متنوعة من تسليع التعليم والتي تصل في بعض الأحيان إلى الإقصاء من التعليم كليا .
– كذلك فإن ضعف أجور المعلمين لا يمكنهم من تنمية قدراتهم ذاتياً ولا يمنحهم الفرصة الضرورية للتفرغ لعملية التدريس بما تحتاجه من مهارات متجددة وقابلية مستدامه للتطوير، فهم إما منشغلون بالمجموعات المدرسية أو الدروس الخصوصية أو منشغلون بعمل إضافي لإعالة انفسهم وأسرهم. وهو ما يؤثر سلباً علي مهارات التدريس, وبحسب البنك الدولي فإن الطلاب الذين لديهم معلمون بارعون يتعلمون ثلاث مرات أكثر من غيرهم.
كذلك فإن نقص المدخلات بسبب ضعف الإنفاق علي التعليم والذي وصل في ميزانية 20/21 إلى 9٪ من الإنفاق الحكومي (يجب ألا يقل عن 25٪ من الانفاق الحكومي) وإلى اقل كثيرًا من نسبة 7٪ التي حددها الدستور للتعليم والبحث العلمي, يؤدي إلى عدم وصول مدخلات التعليم إلى الطلاب سواء كانت من الكتب المدرسية أو غيرها من المدخلات وخاصةً مع التعليم الفني.
وهذه المدخلات تشكل جزءاً اصيلاً من مؤشرات إتاحة التعليم والتي تشكل بدورها المعيار الأول لجودة التعليم، فعندما تتوسع الحكومات في انتهاك الحق في التعليم الجيد المجاني خاصة في معيار الإ‘تاحة – حتي وإن حاولت في معايير أخرى من معايير الحق في التعليم عالي الجودة – لا يمكن أن تحقق مرتبة معقولة في جودة التعليم، حيث هناك تناقض أساسي بين عدم إتاحة التعليم الجيد المجاني بلا تمييز لأي سبب, والحديث من ناحية أخرى عن جودة هذا التعليم, ولقد كانت خدعة الحزب الوطني الديمقراطي في عهد أمانة السياسات التابعة لجمال مبارك مضحكة جداً عندما رفعوا شعار من الإتاحة إلى الجودة، وهو الشعار الذى يتخفي خلفه إلى الآن المسؤلون عن التعليم في مصر, حيث يظهر هذا الشعار الأمر وكأن حكومات مبارك (التي مازالت سياساتها تعمل حتي الآن) قد انتهت من ملف إتاحة التعليم وتريد أن تنطلق إلى جودته. والجدير بالذكر أن المجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي كان قد أصدر تقريرًا عام 2007 -وهو نفس عام إطلاق شعار حزب مبارك – يؤكد فيه أن مصر تحتاج إلى 33000 مبني مدرسي بما يوازي 726000 فصل دراسي حتي عام 2017, وفي الحقيقة فإننا الآن وفي عام 2020 نحتاج بحسب تصريحات رئيس الدولة نفسه لبناء 25000 مبني مدرسي بواقع 55000 فصل تقريبا بالإضافة إلى العجز الصارخ في المعلمين وتدني أجورهم وتآكل حجم الكتاب المدرسي كل هذا يعني أن أمام الحكومات المصرية الكثير جدا قبل أن تتحدث عن جودة التعليم وعن علاج فقر التعلم.
– البعد الثالث لفقر التعلم يكمن في الأسباب الأكثر عمقا داخل النظام نفسه حيث تتضافر جهود المشرعين في البرلمان مع التنفيذيين لارضاء الحزب الحاكم أو الفرد الحاكم بما يؤدي إلى تصورات بعيدة عن التعليم والتعلم, كما أن المعلمين مثلا منشغلين بالتركيز على حقوقهم المنتهكة سواء في شروط وظروف العمل أو الحريات النقابية (وهذا حقهم) أكثر من انشغالهم بضرورة ربط التعليم بالتعلم.
– ولابد للتعامل مع هذه الأزمة من اتخاذ تدابير وإجراءات بعضها يمكن أن يحدث فورًا مثل تقييم الوضع الراهن, وبعضها الآخر يحتاج إلى بعض الوقت بشرط البدء فيه فوراً مثل وضع خطة زمنية محددة وواضحة للجميع لبناء المدارس خلال مدى زمني محدد ومنظور مع ضرورة تدبير الموارد لذلك.
إن تقييم الوضع الراهن لابد أن يشتمل علي كل أوجه المشكلة بحيث يتم وضع حلول ناجحة تمكن المتعلمين من التعلم عبر تضافر جهود جميع الأطراف (المعلمون – الطلاب – المجتمع – الحكومة – البرلمان) باتجاه إحداث توافق بين وجهات النظر الخاصة بالرؤية والرسالة والأهداف وطرق الانجاز ومعدلاته, ولن يمكن اتخاذ خطوات جادة نحو تغيير الموقف الراهن علي مستوي التعليم ومستوى التعلم إلا بحدوث هذا التوافق.
ولكن ما حدث انه عندما قرر وزير التعليم الحالي علاج بند واحد من بنود فقر التعلم وهو مهارات استخدام الكمبيوتر, كان يمارس الهرب إلى الأمام ناسيا أو متناسيا أن الطالب الذي لا يستطيع القراءة أو الكتابة أو الحساب لن يتمكن من مهارات الكمبيوتر فضلا عن استخدام مصادر المعرفة ثم اشاع علي المجتمع أنه يقوم باحداث ثورة في التعليم, وعندما طالب المهتمون والخبراء بخطة واضحة يمكن مناقشتها هددهم الوزير بقوله أنه ينفذ إرادة القيادة السياسية ولا يجوز لأحد الاعتراض عليها .
وأخيرا أعود لأكرر انه لابد من وضع خطة محددة للتعامل مع ملف اتاحة التعليم بكل مؤشراتة (وبالطبع يمكن أن يسير ملف الإتاحة جنبا إلى جنب مع ملف الجودة، لكن ذلك يتطلب موارد ضخمة والحكومة تقول انها لا تملك هذه الموارد، وبالتالي فإن عليها أن تركز جهودها على ملف إتاحة التعليم للجميع)
كذلك لابد من وجود تقييم حقيقي لأزمة التعليم والتعلم بمشاركة مجتمعية واضحة ومؤثرة ولابد من أن يكون هدف استدامة التعليم والتعلم هدفا يسعي الجميع إليه كما لابد من الوصول إلى توافق بين جميع الأطراف علي أرضية ان التعليم حق وليس سلعة في السوق
ان التركيز علي الحق في التعليم والتعلم ووضعه أولوية أولى بدلا عن التركيز علي الأسمنت والبروباجندا السياسية والتعمية علي حجم كارثة ضعف مهارات التعلم هو طوق النجاة للأفراد والمجتمع ومؤسسات الدولة ضد التخلف والعنف، هو وسيلة الأفراد للتمتع بحقوقهم وبالحياة نفسها ووسيلة المجتمعات لتحقيق التنمية الانسانية الشاملة ووسيلة الدولة للتقدم والقدرة علي المنافسة.