عبدالله النديم.. عن الصحفي والساخر وخطيب الثورة (المنفي تاركا قلبه في حارات الوطن)
«أهل البنوك والأطيان، صاروا على الأعيان أعيان، وابن البلد ماشى عريان، ما معاه ولا حق الدخان»، لم يكن ذلك زجلا عابرا يسمعه المصريون ويتناسونه مع الوقت، بل كان شرارة هتاف ثوري ولسان حال أبناء الشعب الكادحين، الذين فتح الصحفي الوطني والخطيب الأول للثورة العرابية عبدالله النديم، أعينهم على مجابهته، بينما يقبعون بين براثن استبداد الخديوي التركي والاحتلال الإنجليزي.
تربى عبد الله بن مصباح بن إبراهيم النديم في الإسكندرية عام 1845م، وكان أبوه القادم من محافظة الشرقية يعمل نجارا في الترسانة البحرية التي أُنشئت في عهد محمد علي، قبل إغلاقها بـ5 سنوات سابقة لميلاد الصحفي والشاعر الثائر، الذي توفي في منفاه الأخير في الأستانة عام 1895، وبين ميلاده ووفاته تاريخ حافل من الدروس الوطنية.
كان النديم يجلس على مكتبه ويتابع حركة المراسلات الحكومية والتلغرافات المرسلة والمستقبلة، ويتواصل بشغف واهتمام مع المراسلات الملكية والأميرية، فقد اختار النديم من بين المهن المعروضة أكثرها اتساقا مع شخصيته المرحة وروحه الفكهة، وهي أن يعمل موظفا في التلغراف.
وطبيعة التلغراف آنذاك كانت تقتصر على المراسلات الملكية والرسمية بين الحكومة المصرية والعالم الخارجي، ما أهله أن يحتك بأكثر الطبقات المصرية آنذاك ترفا وفحشا في الثراء، ويشاهد حياة البذخ والرفاهية التي يحياها فريق من المصريين، ويقارن حالهم بحال أبناء طبقته، بينما يشاطر أقرانه “الأدباتية” والعمال والفلاحين جلسات السمر في المقاهي الشعبية، لتكتمل داخل ذهنه صورة الوطن الذي يعيشه، والوطن الذي يأمله.
استقى – الشاب حينذاك – أفكاره التقدمية والثورية من جمال الدين الأفغاني، إلا أنه تركه فيما بعد بسبب اعتراض الثاني على توجهات محفله الماسوني وتأييده محمد توفيق باشا، لينضم إلى جمعية “مصر الفتاة” منذ اليوم الأول لتأسيسيها على يدي رائد حركة النهضة القومية أديب إسحاق، التي أذكت الروح الوطنية لدى الجماهير المصرية، فكانت ملاذا للأحرار من العرب والأجانب، قبل أن ينشيء “جمعية المقاصد الخيرية”، التي كانت مركزا لأنصار التنوير البارزين من رجال الفكر والشخصيات الاجتماعية المصرية.
هذه النشأة الثرية وضعت الشاب الفقير في مصاف قادة الفكر والتنوير في البلاد في وقت قصير، ليحمل شعلة الخطابة في الثورة العرابية على الخديوي توفيق، في إطار مشروعه الوطني للإصلاح الاجتماعي ومجابهة سياسات الاستبداد والاحتلال واستعباد المصريين على حساب الأتراك والشركس والأجانب.
استغل «الأديب الأدباتى» كاريزمته الشديدة ومواهبه المتعددة فى الكتابة والخطابة فى إشعال ثورة ضد الخديوى الذى فتح الباب على مصراعيه للتدخل الأجنبى فى شئون البلاد، فراح يسخر قلمه للكتابات اللاذعة والساخرة من حال البلاد واستكانة أهلها وخضوع حاكمها، ويلقى الخطب فى المنتديات، وينظم المظاهرات، ويحشد تلامذته الأزهريين وغيرهم، فى محاولة لإشعال نار الثورة فى قلوب الجميع.
وأصدر النديم صحيفة أسبوعية أسماها «التنكيت والتبكيت» انتهجت مسارا وطنيا معتمدا على الكتابات الساخرة من أوضاع البلاد تحت سيطرة الخديوي والإنجليز، قبل أن يغيرها إلى «الطائف» لتصبح لسان حال الثورة العرابية.
كان خطيب الثورة يجمع التوقيعات لتوكيل عرابى بالحديث باسم الأمة، ويجمع المناصرين فى 9 سبتمبر 1881، للوقوف مع ضباط الجيش الثوريين فى ميدان عابدين، قبل أن يسافر مع فرق الجيش المبعدة عن القاهرة فى القطارات، ليخطب فيها وفى الجماهير فى كل بلدة يمر عليها، فيذهب إلى الفلاحين فى حقولهم، ويتوجه إلى الطلاب فى معاهد العلم، محفزا الجميع ضد النفوذ الأجنبى واستبداد الخديوى.
وعن ذلك يقول: “أخذتُ أتقلّب في البلاد، وجاهرتُ بالتضاد، ولبستُ ثوب الجلد، وتابعت الخُطب في كل بلد، وحرّكتُ الأفكار حركة لا سكون لها، ونشرتُ مظالم الحكّام وأعمالها، وناديتُ بهدم دعامة الاستبداد”.
وبعد فشل الثورة هام على وجهه هاربا، ولم تتخل عنه زوجته الوفية ولا خادمه الأمين، حيث يحكي عنه الخادم كيف كان يتخفى ويتنكر في أزياء مختلفة بين شيخ وقسيس، أو عجوز وامرأة ومن فرط معرفته بحيل التخفي ألَّف رسالة في التنكر وطرق الهرب سماها “الاحتفاء في الاختفاء” طاف معظم قرى مصر، وكان أهم ما يساعده سعيه وراء الموالد التي تقام للأولياء، فينظر إليه الناس كواحد من المجاذيب أو المريدين، وبالتالي لا يشك أهل القرية أو السلطات في دخوله وخروجه.
قبل القبض عليه فى أعقاب فشل الثورة العرابية، قضى 10 سنوات متخفيا فى ربوع الدلتا والصعيد بأسماء وشخصيات مختلفة، ليسجن بعدها، ثم ينفى إلى يافا فى فلسطين.
وعاد النديم إلى مصر متقدا حماسة، وقرر افتتاح جريدة “الأستاذ” التي سارت على نهج جريدة “الطائف” و”التنكيت والتبكيت” في نشر الوعي، وإيقاظ الهمم، وكشف ما يُحاك للمصريين على يد الاحتلال البريطاني، ومقارعة التهم الاستعلائية التي كان يروجها الكتاب الأجانب ورجالاتهم من المصريين.
وحين أخذت نغمة النديم في جريدته “الأستاذ” تعلو بنقد لاذع للإنجليز، وظلمهم في الهند ومصر، أصدر اللورد كرومر قراره إلى الخديو عباس لنفي النديم مرة أخرى، فاضطر الخديوي صاغرا إلى تنفيذ القرار، وودع “الأستاذ” قراءه في آخر عدد صدر في 13 يونيو 1893م، فقال في خاتمة وداعه: “وما خُلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من عصمة وجلال، وعلى هذا فإني أودّع إخواني”.
واصطدم النديم بأحد أفراد حاشية السلطان عبدالحميد، ويسمى أبا الهدى الصيادي الحلبي مستشار السلطان، وكان يسميه أبا الضلال، وكتب فيه كتاب (المسامير)، أظهر الشيطان شخصية مهزومة أمام أبي الضلال في مقدمه و9 مسامير فكان كتابه أحد نفائس فن الهجاء في التاريخ العربي.
وفي منفاه الإجباري، وجد في الأفغاني عزاء له وسلوةً وفي الأمسيات كان الأستاذ والتلميذ يلتقيان تحت أشجار الحدائق التي خصصها عبد الحميد لهما، يتذكران أيّام النضال وأحداث الثورة العرابية، ويطوّفان على سيرة الرفاق في سيلان الذين قدم عهد المنفى بهم ويستعرضان دوحة الشباب وما كان فيها من وارف الأغصان، وعن طريق الأستاذ تعرّف على وزراء وأعيان.
لكن النديم لم ينس مصر، وعندما زار الخديوي عباس الثاني الأستانة طلب منه العودة إليها فأجيب طلبه سنة 1895، وفعلاً قفز إلى الباخرة يغمر قلبه الحنين إلى وطنه، ولكن جواسيس عبد الحميد أبرقوا على الفور إليه، فأوقفت الباخرة وانتزع النديم منها وسيق إلى المنفى الذهبي من جديد.
بعد أشهر مرض النديم وتراجعت صحته، ونهش السلّ الرئوي صدره وأحسّ بدنو أجله، فأخبر أمه وأخاه في مصر واستقدمهما، ولكن الموت جذبه إليه قبل أن يصلا، فتوفيّ وحيداً غريباً عام 1896 دون أن يترك زوجاً أو ولداً أو حطاماً، وكل ما تركه سيرة عطرة وحياة حافلة.