عبدالحميد ندا يكتب: العولمة وقانون الإيجار القديم

في عصرنا الحالي، أصبحت العولمة واقعًا يؤثر على كل جوانب حياتنا، من الاقتصاد إلى الثقافة والاجتماع. في مصر، تظهر هذه العولمة من خلال تشريعات تهدف إلى جذب الاستثمارات وتعزيز التنمية، لكنها غالبًا ما تثير تساؤلات حول تأثيرها على حياة المواطن العادي.

لم يعد الحديث عن العولمة ترفًا أكاديميًّا. فالقرارات الاقتصادية والتشريعية التي تُتخذ في القاهرة اليوم، من تحرير سعر الصرف إلى تعديل قوانين الإسكان، تتصل مباشرةً بشبكة أسواق واستثمارات عابرة للحدود. في قلب هذا المشهد يقف المواطن المصري حائرًا: هل العولمة طريقٌ إلى تحسين مستوى المعيشة أم ممرٌّ مُتسارع لفقدان مكتسباتٍ ظلّت تحميه لعقود؟

العولمة، التي وُصفت يومًا بأنها جسر للتقدم والازدهار، تحولت في مصر إلى أداة لتفكيك النسيج الاجتماعي وبيع مقدرات الوطن لصالح قلة من الأثرياء والشركات متعددة الجنسيات. تحت شعارات “الإصلاح الاقتصادي” و”تحرير السوق”، تُسحق حقوق الفقراء والطبقة الوسطى، وتُهدر كرامة الأسرة المصرية. في قلب هذه المعركة يأتي قانون الإيجار القديم، الذي كان يومًا درعًا لحماية ملايين الأسر، ليتحول اليوم إلى سيف مسلط على رقابهم، يفتح الباب لتهجيرهم من أحيائهم التاريخية لصالح مشاريع استثمارية لا تعرف الإنسانية.

قانون الإيجار القديم: من حماية الفقراء إلى تهجيرهم

في ستينيات القرن الماضي، واجه المصريون أزمة سكن خانقة؛ فجاء القانون ليسقّف الإيجارات ويعطي المستأجر وأسرته حق الإقامة مدى الحياة. ولضمان استقرار الأسر المصرية في ظل ظروف اقتصادية صعبة، كان القانون يعكس رؤية اجتماعية تعتبر السكن حقًا إنسانيًا، وليس سلعة تُباع لمن يدفع أكثر. وقد وفرّ القانون استقرارًا لكتلٍ واسعة من الموظفين والعمّال، ما مكّنهم من الادخار لتعليم أبنائهم وتحسين أوضاعهم.

لكن اليوم، ومع تعديلات القانون الأخيرة، تحول إلى أداة لطرد الملايين من منازلهم.

الخصخصة: بيع مصر قطعة قطعة

لم تكن الخصخصة مجرد بيع شركات، بل كانت تفكيكاً تدريجياً لـ الدولة الراعية التي كانت تضمن التعليم المجاني، والصحة بأسعار مدعومة، ووظائف آمنة. مع بيع شركات قطاع الغزل والنسيج والموانئ، اختفى جزءٌ كبير من الطبقة العاملة المتوسطة، وحلَّ محلها عمال مؤقتون بدون ضمانات.

منذ التسعينيات، شهدت مصر موجة خصخصة شرسة، حيث بيعت أكثر من 300 شركة عامة بأسعار بخسة، من بينها شركات استراتيجية مثل الحديد والصلب والأسمنت. مما أفقد القطاع الصناعي قرابة 270 ألف فرصة عمل مستقرّة.

كانت الدعاية الحكومية أن الخصخصة تهدف إلى زيادة الكفاءة وجذب الاستثمار، لكنها أدت إلى فقدان آلاف الوظائف وارتفاع أسعار السلع الأساسية. على سبيل المثال، بعد خصخصة بعض مصانع الأسمنت والحديد والصلب، ارتفعت الأسعار، مما أثر على تكاليف البناء والسكن للمصريين العاديين. هذا يعكس كيف تؤدي العولمة إلى تفكيك الدولة الاجتماعية، مع زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

التحديات الاقتصادية والاجتماعية:

هذا التحول الاقتصادي يلقي بظلاله على الأسر، حيث يصبح تأمين لقمة العيش اليومية تحديًا أكبر، وتتحول الخدمات التي كانت حقًا للجميع إلى سلعة قد لا يقوى عليها البعض. هذا يثير تساؤلات حول كيفية ضمان تحقيق مكاسب هذه التحولات الاقتصادية لغالبية الشعب، وليس لفئات محدودة.

لا يمكن إغفال الأثر المباشر للتحولات الاقتصادية على المائدة المصرية. فالارتفاع المستمر في أسعار السلع الأساسية، من الغذاء والدواء إلى متطلبات الحياة اليومية، يضع ضغوطًا هائلة على دخل الأسرة. يصبح تأمين الاحتياجات الضرورية معركة يومية، مما يؤثر على الحالة النفسية للأفراد، ويستنزف الطاقة، ويزيد من صعوبة التخطيط للمستقبل. هذا الضغط الاقتصادي قد يلقي بظلاله على العلاقات الأسرية، ويدفع بعض الشباب للبحث عن فرص في الخارج، مما يؤثر على استقرار المجتمع.

تعد الخدمات العامة كالتعليم والصحة عصب المجتمعات وركيزة أساسية للعدالة الاجتماعية. في ظل التغيرات الاقتصادية، قد تتأثر هذه الخدمات، مما يثير قلقًا بشأن مدى إتاحتها للجميع بنفس القدر. عندما ترتفع تكاليف التعليم أو العلاج، يصبح الوصول إليها مرهونًا بالقدرة المادية، مما قد يخلق فجوة اجتماعية ويقلل من فرص تكافؤ الفرص لأبنائنا، ويضع عبئًا كبيرًا على كاهل الأسر.

تحديات العولمة وحلولها:

تفرض طبيعة العولمة وثقافتها الجديدة تحديات أمام القيم الاجتماعية والأخلاقية التي تشكل جوهر المجتمع المصري. إن سرعة التغيير، وتأثير وسائل الإعلام، والضغوط الاقتصادية، كلها عوامل قد تتطلب منا إعادة التفكير في كيفية الحفاظ على هويتنا وقيمنا الراسخة، مع التأكيد على دور الأسرة كحاضنة لهذه القيم، وضمان قدرتها على التكيف مع المتغيرات دون فقدان جوهرها.

العولمة ليست قدرًا محتومًا، بل هي نظام اقتصادي وسياسي مصمم لخدمة مصالح الشركات متعددة الجنسيات والرأسمالية العالمية. في مصر، تحولت سياسات العولمة إلى أداة لتفكيك الدولة الاجتماعية، عبر خصخصة الخدمات العامة ورفع الدعم وترك المواطن تحت رحمة السوق.

إن العولمة التي تهدم الأحياء السكنية وتفصل الأبناء عن جذورهم ليست حتمية، بل هي نتيجة خيارات سياسية يمكن تصحيحها. مثال ذلك، أثبتت تجارب دول مثل سنغافورة أن جذب الاستثمار الأجنبي ممكنٌ دون تفريغ المدن من سكانها الأصليين، عبر تنظيم سوق العقار وضمان أقل سعر إيجار.

ان مواجهة تحديات العولمة ليست بالضرورة صراعًا، بل هي سعي دائم نحو التوازن والعدالة. يتطلب الأمر سياسات حكيمة، تشريعات تراعي الإنسان، واستراتيجيات اقتصادية تخدم المصلحة الوطنية العليا. إن مصر بشعبها وتاريخها قادرةٌ على تجاوز هذه التحديات، شريطة أن نعمل معًا، حكومة وشعبًا، لبناء مستقبل يوفر الكرامة والأمان والعدالة الاجتماعية لجميع المصريين، وأن نحافظ على أصولنا الاجتماعية والاقتصادية للأجيال القادمة.

العولمة ليست قدرًا، بل اختيار يمكننا تغييره إذا توحدنا من أجل مستقبل أفضل لأبنائنا.

العولمة الرأسمالية تسرق منا وطننا، لكننا لسنا عاجزين عن المقاومة. قانون الإيجار القديم والخصخصة ليسا إلا أمثلة على كيفية تحويل القوانين إلى أدوات لخدمة اصحاب الحظ والمال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *