طفل المسرح الأسطورة والمناضل ذو «الأرواح التسعة».. زكريا زبيدي ملحمة 45 عاما في عشق فلسطين
كتب- محمود هاشم:
«أعطونا الحرية وخذوا السلام».. ذلك أحد أشهر تصريحات الأسير الفلسطيني زكريا الزبيدي، الذي تستحق حكايته هو وعائلته – كما يرى كثيرون – أن تكون مادة دسمة لقصة ملحمية ربما تخلد لأجيال متعاقبة، فتضحياتهم وآلامهم وأحلامهم تجسد مسيرة صراع على الأرض بين صاحبها والمحتل الذي قلب حياتهم رأسا على عقب، بدل المرة مرات، وحول طفل مبتسم يطمح أن يصبح يوما ممثلا لـ«محارب للحرية»
لكن قبل أن نقص حكاية الزبيدي، صاحب العقل المدبر لملحمة «نفق الحرية» في سجن جلبوع الإسرائيلي، الذي تعرض لتعذيب وضرب مبرح على أيدي عناصر المخابرات الإسرائيلية عند إعادة اعتقاله، يجب أن نعود إلى الوراء عقود حتى نصل إلى الجدود لنرى الصورة كاملة، فالخلفية التاريخة ضرورية لمعرفة السياق الذي شكل شخصية واحد من أبرز المناضلين ضد الاحتلال في جنين.
وفق ما نقل موقع «القدس العربي» عن جمال عبد الرحمن محمد زبيدي أبو أنطون (65 عاما) عم زكريا زبيدي، كان الجد عبد الرحمن زبيدي، مشاركا في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936/39، وأصيب في قدمه واعتقل حتى تم الإفراج عنه بعد مهاجمة سجن عتليت من قبل قائد منطقة الروحة والكرمل ومرج ابن عامر في الثورة أبو العبد جرادات المكنى بأبو درة في يوليو 1938.
ولجانب أبو درة كان الأسير عيسى الحاج سليمان البطاط من الخليل أحد أبرز قادة «ثورة القسام» عام 1936 وبطل عملية مهاجمة سجن عتليت استشهد عام 1938، ولاحقا استشهد المناضل الأسير نجله محمد البطاط خلال عملية التمرد والهروب الكبير من سجن شطة في 1958 وفي هذه العملية تمكن محمد جهجاه، جد زكريا لوالدته من الفرار مع نحو 60 أسيرا نجحوا بالخلاص وفروا عبر جبل فقوعة المحاذي للسجن داخل مرج بيسان ضمن مرج ابن عامر نحو جنين.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن محمد جهجاه ينتمي أيضا لعائلة زبيدي، لكن أبناء عائلة والدة زكريا خرجوا للأردن في العام 1963، وأقاموا في وادي اليابس أو وادي الريان في الغور وفي إربد، فيما بقيت عائلة جده لوالده في مخيم جنين لكي يقارعوا الإسرائيليين، بحسب ما يقول العم جمال زبيدي.
ومضت السنين؛ وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينات، وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أرادت ناشطة حقوق الإنسان الإسرائيلية أرنا مر خميس، أن تفتح مسرحا للأطفال في جنين لنشر ثقافة السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حينها عرضت سميرة جهجاه، والدة زكريا الطابق العلوي من منزلها من أجل بروفات «مسرح الحرية» الذي أدارته «أرنا» في مخيم اللاجئين جنين في التسعينيات
كان زكريا الذي يبلغ من العمر 12 عاما حينها وشقيقه الأكبر داود وأربعة فتيان آخرين في نفس العمر يشكلون جوهر الفرقة. وكان زكريا ذو البشرة السمراء والابتسامة النقية يحلم بأن يصبح ممثلا مشهورا.
لكن في سن الثالثة عشر أصيب زكريا برصاص جيش الاحتلال خلال مشاركته في إلقاء الحجارة على دورية عسكرية، واعتقل للمرة الأولى بعمر الخامسة عشر وسجن ستة أشهر، واعتقل مرة أخرى بتهمة إلقاء عبوات حارقة على القوات الإسرائيلية وحكم بالسجن أربع سنوات ونصف سنة، وفقا لموقع قناة سوريا. وكان من أبرز أيقونات «أطفال الحجارة» خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
ودفعت الجرائم الإسرائيلية المتتالية واستشهاد أحد أصدقائه المقربين في أواخر العام 2001، زكريا الذي كان يحلم أن يكون ممثلا مسرحيا بعد إعجابه بتجربة «بيت أرنا»، إلى الانضمام كتائب شهداء الأقصى الجناح المسلح لحركة فتح، الذي شكل بأوامر من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
وفي مارس 2002، اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي مخيم جنين، حيث تلقت سميرة جهجاه، التي فتحت باب بيتها لـ«أرنا» ومسرحها، رصاصة غادرة من قناص إسرائيلي، فحملها زكريا على الأكتاف ودفنها، كما استشهد شقيقه طه، في الهجوم ذاته، في فصل مهم في حياته شمل مطاردات وثورة بكل تفاصيل حياته. وقبل استشهاد الأم والشقيق، توفي الأب الذي ساءت أوضاعه الصحية في أواخر حياته بعد التضييقات الإسرائيلية عليه لإدانته بعضوية حركة فتح، وأصيب زكريا نفسه 7 مرات وتعرض لـ6 محاولات اغتيال فاشلة، وهدم الاحتلال بيته في مخيم جنين 3 مرات.
وفي عام فقد الأم والشقيق، عاد ابن أرنا الممثل الإسرائيلي جوليانو مير خميس إلى جنين، باحثا عن الأولاد الذين كانوا في مجموعة المسرح (أولاد أرنا)، فوجد المسرح ذاته تعرض للهدم من جراء الغارات الإسرائيلية، وتحول زبيدي إلى المقاومة المسلحة، وحكم على داود بالسجن لمدة 16 عاما بسبب أنشطته المسلحة، بينما استشهد الأربعة الآخرون. لكن جوليانو أنجز فيلما وثائقيا عن المجموعة.
وبحسب ما ذكر الأديب والصحفي المصري نائل الطوخي، في مقال له على موقع «مدينة» عُرض فيلم «أولاد أرنا» للمرة الأولى في العام 2003، وفيه يسافر المخرج، جوليانو مير خميس، إلى مدينة جنين بالضفة الغربية، بعد الاجتياح الإسرائيلي لها عام 2002، ليرى مصائر الأطفال الذين سبق وأن دربتهم أمه، أرنا مير خميس، على المسرح من خلال «مسرح الحرية» الذي أقامته هناك في أثناء الانتفاضة الأولى.
وفق الطوخي، لن يحتمل الواقع التركيبة المعقدة لمخرج الفيلم، والمولود لأب فلسطيني وأم يهودية، والذي يصف نفسه كـ «فلسطيني مئة في المئة ويهودي مئة في المئة»، فسرعان ما سيُستشهد في 2011 على أيدي فلسطينيين متطرفين، ولكن القصة لن تنتهي هنا، فأحد الأطفال الذي سيظهرون في الفيلم، بوصفه واحدًا من «أبناء مسرح الحرية»، لن يكون إلا زكريا الزبيدي نفسه.
تلتفت إلى هذا أورلي نوي، الصحفية والناشطة الإسرائيلية اليسارية من أصول إيرانية، فتكتب – وفق الطوخي – منشورًا، سيحذفه موقع «فيسبوك» بعد ساعات مانعًا إياها من التعليق على الموقع لمدة ثلاثة أيام، عن زكريا الزبيدي، تتتبع فيه الظهور الأول له في فيلم «أولاد أرنا»، بوصفه طفلاً يتعلم المسرح، كما تتتبع مصائر أصدقائه الأطفال الفلسطينيين، طالبة من جميع أبناء جلدتها من الإسرائيليين الركوع أمامهم، وطلب السماح منهم على تدمير حياتهم.
وفي العام 2007، ترك الشاب الفلسطيني الأسمر السلاح وقرر أن يعطي فرصة للعمل السياسي، لاسيما بعد وفاة عرفات، وقرار الرئيس الجديد آنذاك محمود عباس، حل كتائب «شهداء الأقصى»، صدر بعدها قرار بالعفو عن زبيدي ورفاقه، قبل أن يتراجع عنه الاحتلال بعدها بأربع سنوات، كان حينها قد تفرّغ للعمل المسرحي، وقال في مقابلة تليفزيونية «إنه وأطفال المخيم يرسلون رسالة محبة وسلام، ويطالبون المجتمع الدولي عبر الفن بحمايتهم من الجرائم التي يرتكبها الاحتلال»، رغم ذلك لم يسلم من المطاردات والأسر.
وفي العام 2018، التحق الزبيدي الي أتم دراسته في مدارس الأونروا بمخيم ومدينة جنين، وحصل على البكالوريوس في الخدمة الاجتماعية من جامعة القدس المفتوحة، ببرنامج الماجستير في الدراسات العربية المعاصرة في جامعة بيرزيت، حيث تقدم بمقترح لرسالة ماجستير، تم إقراره وتسجيل الرسالة بتاريخ 17 سبتمبر 2018، وعنوانها، بالعربية: «الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الفلسطينية من 1968-2018»، لكن قوات الاحتلال اعتقلته في 28 فبراير 2019، قبل نقاش الرسالة، التي تجري مراجعتها مع كاتبها، عبر عائلته ومحاميه، بحكم وجوده في الأسر.
تصور رسالة زبيدي مطاردات عناصر الاحتلال للفلسطينيين على مدار 50 عاما، حيث تقمّص فيها شخصية «التنين» الذي يتغلب على «الصياد» بعد مطاردة شاقة وطويلة، استوحاها من الأساطير القديمة، قبل أن يجسدها في الواقع في ملحمة «نفق الحرية»، التي وفق ما يقول الكاتب الفلسطيني عبدالباري عطوان «حققت أهدافها وكشفت هشاشة أمن اسرائيل وانتصار المقاومة الفلسطينية في معركة العقول».
في السابق، لم يكن اعتقال الزبيدي سهلا على قوات الاحتلال في كل مرة يتم القبض عليه فيها، فقد وصفه الضابط السابق في «الشاباك»، يتسحاق إيلان، بأنه «قطّ شوارع»، مضيفا: «لطالما حاولنا الإمساك به، لكنه أفلت من أيدينا، والآن أعيد اعتقاله»، بينما يصفه الإعلام العبري بأنه «شخص بتسعة أرواح»، و«الحاكم الفعلي لجنين»، كونه أحد أبرز وجود النضال المسلح في فلسطين.
وبالتأكيد، لم تكن عملية إعادة اعتقال الزبيدي بعد الفرار من «جلبوع» سهلة فبعد أيام من تحرره، عثر عليه ومحمد العارضة في قرية أم الغانم العربية على بعد نحو 30 كيلومترا عن مكان سجن جلبوع، في عملية مطاردة كبيرة استخدم فيها الاحتلال طائرات مروحية ومسيرة وعناصر من القوات الخاصة، وتعزيزات عسكرية، فيما أظهرت صورة القائد السابق لكتائب شهداء الأقصى، انتفاخا كبيرا في وجهه، مما يشير إلى تعرضه للكمة قوية، بعد واقعة إعادة الاعتقال.
جبريل زبيدي، شقيق زكريا قال بعد واقعة إعادة اعتقال شقيقه: «يتعرض أخي زكريا الآن لأقصى أنواع التعذيب، يضربونه بالكهرباء، وكسروا قدمه، ولا يعرف معنى النوم، يشبحونه على قدمه المكسورة، ويشتموه بالمسبات، ويحققون معه بطريقه وحشية لا تمت للإنسانية بصلة».
نقل زكريا، البالغ من العمر 45 عاما، إلى مستشفى شعري هتسيدك بعد تعذيب مستمر، حسب ما روى جبريل، بينما أشارت روايات أخرى إلى نقله لمستشفى رامبار، إلا أن الشاهد الأبرز في الأمر أنه تعرض لإصابات خلال إعادة اعتقاله، حسبما نقلت وسائل إعلامية فلسطينية وإسرائيلية.
وطالب نادي الأسير الفلسطيني بالكشف عن مصير زبيدي ورفاقه الثلاثة الذي أعيد اعتقالهم، وقال المتحدث الإعلامي باسم نادي الأسير، عبد الله زغاري، إن «عدم ظهور زبيدي بشكل واضح في الفيديوهات المنقولة من المحكمة بعد إعادة اعتقاله ومنع المحامين من لقائه يؤكد مخاوفهم بشأن حقيقة وضعه الصحي»، وناشدت المنظمة المؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان التحرك العاجل في هذا الاتجاه.
في النهاية؛ رغم إعادة اعتقاله، لكن من المؤكد أن قصة زكريا الزبيدي ورفاقه ستظل ملحمة يتوارثها أجيال النضال والمقاومة حتى تتحرر فلسطين من بحرها إلى نهرها ومن شمالها إلى جنوبها، وتطرد المحتل.