صبري السماك يكتب: رحلة حياة.. الناس الناس
مات أبي عام 1978، ولم أشعر بأثر هذا الخبر سوى في صباح يوم دراسي بمدرسة الجلاء الإبتدائية المشتركة، نده المدرس على إسمي وحدي، خرجت لأقف أقصى شمال الصبورة حتى أفسح مكان للناظر، والنائب ومدرس الألعاب ومندوب الشئون الاجتماعية ومردسي الموسيقى والرسم والحساب والعلوم حتى بتاع العربي والدين “اللي وعد ابويا انط سنة ولما مات لم ينفذ وعده”.
وقف التلامذة قيامًا فجلوسا، دخل عاملان يحملان پؤجتين من جزم باتا البيضاء برباط، وهو حذاء شعبي كنّا نسمية كاوتش، ونلعب به الكرة، والبؤجه الأخرى مرايل / ومخلة تيل / وبنطلون / وفانلة صوف زي الجيش) مقاسك خذ قيسه، قال مدرس العربي، وتابع ” وأما اليتيم فلا تقهر”، دي مساعدة لزميلكم اللي أبوه مات. انا الدم راح من نافوخي، ولا اعرف سببا لهذا.
كل ما ورد في راسي ” الناس دي شتمتني بابويا عشان مات، وقدام زمايلي وخديجة بنت أبو محمد فاروق، اللي بأخذها من ايد أمها عشان انا راجل الحتة، وهي مسؤلة مني، وعينك، كل الجزم والجير والطباشير والمساطر واللي تقدر ايدي تشيله،وشهم، ” انا مَش شحات يا ولاد … الكلب يا ولاد القح.. ة” وعياط بهيستريا من ايد عايزة تضربني او تمسكني، لحضن ابلة سلوى مرات استاذ مصطفي عبد الحليم بقرة، التي لم استطع الفرار منها، لانها كانت حامل وفتحت ذراعيها لتحضني وتقبلني، “لا عاش ولا كان يابن الأصول، يا واد أمك هي اللي مربية جوزي، تعالى وانا بوصلك هاوريك كنّا ساكنين فين، حكيت لامي باكيا حتى لا اعاقب بما فعلتة ومبررا لها عشان ما اروحش المدرسة عشان هـا اتعبط، فرقعتني المثل الدائم الاستمرار معي، عريان الطي.. يتامأز تأميز ويقول باب الخمارة فين هما ما يعرفوش ان طي.. ك عريانة ونزهي دانت كنت بتغلبني دونا عن اخواتك الاتنين (لم تحسب أمي حساب الاربع بنات، ما لهمش طلبات ولا رأي) عشان صنف الاكل بتاع المساخيط اللي زيك، ضحكنا فنسيت كل حاجة وروحت المدرسة، وشوية والمدرسة نسيت، وجاءت أجازة الصيف لأذهب إلى نافذة حياتي الخاصة، السيدة زينب حيث تحالف حارة الجمالة، بحي العمري ضد كل فرق الجبل والسيدة نفيسة والزرائب وطولون، في رمي البلي والجعران، النحلة الدبور، السلم والثعبان الليدو.
كان عندنا مخزن وبنبيع وسعيد كان حريص قوي (يعني بخيل) ويحب يكوش وكان بيحبني عشان الدويتو القوي وخاصة في النشان وهو في قرص الزهر ولما كبرنا دخلنا على الشطرنج وخدنا بطولات مشتركة انا وهو، مَش عشان خاله يعني لاننا رضعنا معا بس هو الحقيقة بيحب عادل أخويا الكبير من قلبه.
ذات صباح ونحن نأخذ المصروف قرشين، ويوم الرضا تلاتة، وبرضة كان عندنا بيزنس على الضيق (بلي وقطان وكام سلم وتعبان، زهر وقواشيط) كنا نستعد لجولاتنا وسعيد يفتح باب المخزن ليخرج عدة الألعاب اشتبكت معة هناء اختة الكبرى، فاشتبكت أنا معها دفاعا عنه، كما افعل دائما، حتى لو كان الذي يهاجمة أسد، فانا اكبر منة بسنة، صاح “الحقني يا خالي”، وردي “خلاص دخلت الحمى يا من تنادي زي ما أبو زيد الهلالي سلامة قال للست أم الولد اللي ابوه كان ملك ومات وعمه اخذ الملك وشرد أمه وشرط فرس جابر العقيلي وهي التي تحرسها جيوش ألد اعدائها الهلالي”.. فيقول لها اروح لو قطعوني، كلمة منها كلمة مني، قالت “انا ابويا بيصرف عليك عشان انت ابوك ميت” انفجر “وأنت وابوك وامك يا بنت وخدي في وشك” .
خدت في وشي، لميت قروشي في ايدي ونطيت من الشباك لاننا كنّا في شقة الدور الارضي، لأقابل حامد صديقي كالعادة، طالبا منة ان نسير حتى تروماي زهراء مصر القديمة مترو الأنفاق الآن، ثم مخبز الفرماوي، لأذهب إلى خالي محمد الكفيف ليعطيني جنيه دون أن يسالني أو يعرف مع من أكون، لانه يفترض أن يكون معي أحد تأخر، وأنا بشتري حاجة، وسبقتة عشان بيريح.
تركتة في حيرتة ركبت الأتوبيس النهري من معدية الزهراء إلى محطة قطار الجيزة راكبا قطار الفيوم ابشاواي، الفيوم سنورس، لتراني أمي داخلا عليها من الباب وحدي، رقعت بالصوت، كأني مت، واللي واقف قدامها دا جثتي.. حكيت باكيا حتى لا أعاقب”
“يابنت الكلب ياهانم”، صاحت أمي وتابعت “بس ابوك ماكنش كلب” واتجهت إلى بيت أبو شوقي عبد الحكيم هلال، لانه الوحيد الذي لديه ترنك، مع السنترال، كنا بنملية رقم البقال، ثم ننتظر حتى يحولوا لنا الرقم “الو مصر، معاك الفيوم ايوة نادي على هانم يا حاج أحمد” جاءت هانم لتنفجر أمي “اخص عليكي يا واطية يا ناقصة يا عديمة الرباية، ما انت طول عمرك مجنونة، هما عفاريتك ما بتطلعش الا عليا انا وعيالي بس، حتى الصغير اليتيم ما سلمش منهم قطيعة ليوم الدين، قلبي وربي غضبانين يا بنت بطني”.
اتلم الموضوع، ورجعت بعد أسبوع في إيد هانم أمي الثانية فهي مرضعتي في غياب أمي ولا كأن فيه حاجة”. لكن داخلي كان فيه، بقيت متحفز لأي حد يقول ابوك ميت بسخرية أو غيظ أو شتيمة، طوب نشان بريمو من أي وضع وحلول ابداعية في الوصول إلى رأس أو جبهة الخصم ولا يهمنا أماكن اخرى فهي للهواة”. عثرت على قطعة زجاج حادة والناحية الأخرى لها يد تغطيها علبة سجائر الفلوريدا الفارغة بتاعة خالي، كنت أستخدمها قاطعا إيدى أو أي من الأماكن العارية التي تطالها يدي لمن يقول لي ذلك، ومع التدريب، كنت اقوم بالرد الفوري العدواني “امك شرم.. ابوك اللي فات بينهق اختك مت.. ” وبعدين خلاص، بعد أن آخذ حقي صافي لبن وكلنا ولاد منطقة واحدة نعمل الحاجات كلنا مع بعض مجتمع رجالة الملاحة، مَش صبية أو ولاد. رجالة نتعلم شطرنج عشان بطولات الشوارع. وكاننا سنتعلم في لحظة زي الدومينو طلع غويط فخدناه على راحتة فكان لعبة اعدادي . والثانوي”.
“قلت الأموال التي تركها ابي فلزم ان نخرج للعمل فكان أسعد خبر لـ عادل أخي، سيهجر المدرسة بنت ستين وناسها اللي طول الوقت في خناقات وتكسير زجاج وتختات ورفد متواصل وسقوط في رابعة وخامسة وخلاص، وطبعا محمد لم يعمل سوى بعد تخرجه وسفره للعراق ليقود تريلات المؤن الكويت / العراق / الحدود الايرانية نهايات الحرب العراقية الايرانية. بدأت رحلة العمل كل من قابلتهم كانوا بشر حقيقيين كلهمكانوا طيبين حتى وهم يستغلونني”
صيف ٨٠ ذهبت إلى دكان قماش الحاج اسماعيل خيرالله بقرة، وكنت احصل على قرشين ونصف ووجبة غذاء وكان يصطحبني عند صعوده لمنزله، تاركاً ابو عماد الذي يناديني، بقرد الحسابات وقراءة الجرايد والشعلقة حتى الرف الأخير لأحضر الثوب المطلوب” كان يعاملني برحمة وحنان لا يوصف مثل ملمس وحضن الحاجة أميرة بنت الحجة ناجية جارة أمي وربيبتها ،هدايا ولعب في النجاح بسبوسة منزلية خاصة، طيبة وانسانية بجد.
في المساء اثناء العودة إلى المنزل قابلت حسين عبد الحكم ليخبرني بانه يتقاضى خمسة عشر قرشا مع حسين عوض النجار المسلح، بتعمل ايه يعني. بنضف الخشب من المسامير بالكماشة والشاكوش، من ٨ ل ٥. بس انت اول ما هنبدأ هتبقى ببريزة. اكتشفت أن الراجل الطيب الجدع الحاج اسماعيل كان يستغلني قلت لحسين “احجز لي معاك من بكرة”.
انتظم العمل حتى الصيف التالي يشوبه بعض الاستثناءات في تسليم اخشاب نظيفة إلى صبة ضرورية غداً لانها مقامة على ارض زراعية جائتني أمي إلى مخزن الحاج عوض بالسوق فقد كلفني بحسابات كل العمال والاضافي لاننا في آخر الاسبوع.
قلت معاتباً “يا أمه انا راجل عيب تيجيني الشغل هو انا عيل صغير”.. قالت بنبرة حزينة “ماشي يا ابو لسانين اخوك عادل رجع من عند المعلم عيد شاكر، متعور وانت اتاخرت قلت ما بدهاش وبالمرة أجيب لاخوك نص كيلو لحمة عشان بيقول على الفراخ زفرة وريحتها بتخليه يرجع”
كنّا في مواجهة جزارة ابناء جنيدي، المجاورة لدكان الحاج اسماعيل القديمة، وكانت اسفل مستوى الشارع بدرجة لانها كانت قبل الشارع والأسفلت بكثير، تركت امي على الرصيف مدعياً انني امتلك ثمن اللحمة رغم انني لا املك سوى ١٠ قروش. بس احنا عشرة وياما لعبت مع جهاد وخالد بالدكانة وسلامة كان صاحب محمد اخويا” قلت له “هات نص كيلو لحمة ويومين وهجيب الباقي” سألني بحنية “انت سبت القماش ومسكت الخشب مَش شمس عليك ؟! اهو كله لعب يا عّم ابو سلامة.
نظرت إلى خالد ابنه وكان أشقر وعيونه خضراء ملاغياً لنتفق على اللعب غداً بعد الشغل قدام دكانة رمزي المجنون اخذ مني الفلوس بجدية شديدة، قاطعا ما يزيد عن طلبي ولفه في ورق بني لون الكرتون اتفضل يا سيد الرجالة، كان الكيلو ب ٨٥ قرش وكان في القاهرة قد تجاوز الجنيه، قال لي “أهم حاجة تفضل في المدرسة وان عزت اي حاجة دي دكانتك.. ابوك خيره على السوق كله”.. مشيت مزهوا من السوق حتى الملاحة، اتنين كيلو متر ممارساً كل رزانة الرجل الكبير على قد ما اقدر، لحد ما دخلنا البيت مؤجلاً كل مناوشات منافسي البلي والجعران وحدف الطوب ومن تركت على أجسامهم علامات، بقيت مسؤل وبعدين ماشي جنب الحكومة فمش هعرف اكدب واقول هو اللي بدأ”
توسع العمل مع عادل أخي فأغراني بالعمل معه مساعد بربع جنيه، وكان لي اوبشن العمل نص يوم اثناء الدراسة ، ثم تركتة عندما صار أجري ١٠ جنيه في اليوم، لتبدأ مرحلة الجامعة حيث رحلة عربات الأكل بجامعة الدول العربية ليلاً ، ومصانع الرنجة والعسل وتدريس وتلخيص مواد فلسفية للطلاب الجدد ثم الصحافة”.
كبرت الأحمال ولم يعد العمل لعبة بل تحول إلى عبء كبييييييير ودماء كثييييرة وأحلام تبخرت تحت سطوة الدولار وقسوة أصحاب الأموال، والحياه ولم تعد وسيلة على قد احتياجاتنا بل غاية ومنتهى وعبادة.