شيماء سامي تكتب: عن انتصار الخير والشر.. أزمتنا أننا لسنا أبطال أفلام الكارتون
أظن أن الخطأ الذي وقع فيه الحالمون بالحرية أنهم صدقوا قصص الطفولة، أننا آمنا بحكايات البطولة التي درسوها لنا في المدارس وقصها علينا جدودنا في الصغر. لم نصدق أنها مجرد حكايات، وأن الواقع لا ينتصر فيه الخير في النهاية.
الطرقات التي نسيرها وحدنا لا تمتلئ بالنغمات المشجعة ولا يزدهر فيها الورد مع كل خطوة ولا يصاحبنا فيها الطير، الطرقات التي نقرر أن نسير فيها وحدنا يغمرنا فيها الخوف وترتعد مفاصلنا وتصاحبنا ألام الضربات طيلة لياليها وفي نِهارها يُثقل ظهورنا الوحدة ويرافق عقلنا نغم الموت الحزين.
إن ساقت القرارات الشجاعة بطل الحدوتة إلى السجن فإنه لا يعذب، ولو تم تعذيبه فسيستطيع أن يتحرر، أن يحرك يديه بقوة فينفجر القيد الحديدي ويذهل الجلاد ويفتح عينيه وتتسع حدقتيه وهو يشاهد البطل يهب واقفا يحرك يديه لتدفعه إلى الحائط بالتصوير البطيء ويتمكن من الخروج من باب الزنزانة وهو يدفع كل شخص يقترب منه ويتفادى طلقات الرِّصاص بحركة سريعة.
لكن في الحقيقة لا يحدث هذا. حينما سجنت كنت أتخيل تلك المشاهد وأشعر بالحسرة لأنني لست بطلة في إحدى القصص. لكني مجرد بشرية في الواقع. ومصرية في السجن. يدي في القيد لا أستطيع أن أنزعهما وأخضع للجلاد وهو من يخرج حر لبيته ويسير في الشوارع يتمتع بحريته وأنا من تقبع في الزنزانة الضيقة المظلمة.
وحينما أخرج لن أجد العالم يرحب بي مثلما كان يرحب أهل المدينة بالبطل في الحدوتة. سأجد بعضهم خائف وبعضهم يقول أنني خائنة أو إرهابية. سأجد بعضهم لا يهتم وبعضهم يلوك سيرتي وبعضهم يحذرني من أن أعيد الكرة. وسأجد آخرين في نفس صفي والقيود تهددهم أو بالفعل تربطهم.
في الحكايات ينتفض الناس الأخيار جميعا ضد الشر. والشر دائما واضح، قبيح أو يرتدي الأسود أو يظهر بشكل مخيف يقبض الأنفاس.
لكني في الواقع واجهت الشر فوجدته وسيما أنيقا يعرف كيف يختار كلماته كما يختار مكان ضرباته ويحترف اللعب بالأعصاب كما يحترف كرة التنس في نادي اجتماعي شهير. الشر في الواقع مرموق يحبه الناس ويتبعونه بأنظارهم بإعجاب ويتمنون لو يقتربون منه.
الشر في واقعي لا يرتدي زي الخراف إنما يرتدي زي الراعي نفسه. وأنا لا أعلم ماذا أرتدي. لا زي الخراف أقبله ولا زي الذئب يناسبني. في واقعي أظل عارية إلا من ثوب المطاردة.
المطاردة تصاحب الحب والإستقرار والعمل. المطاردة تصاحب الشجعان في رحلتهم بينما في أفلام الكارتون كان يصاحب البطل أصدقاء كثر. وكان موجود ولا مشكلة في وجوده ولا تشكيك في وجوده. أنا يصاحبني الشك في وجودي وفي الوجودية.
تساقط الوجود من ثنايا العدم. تساقط كأوراق الخريف من على الشجر. إلا إنه في واقعي أيضا لا يوجد ورق خريف على الأرض لأن الشجر قليل ولأن الأرض يحتلها أصحاب السيارات حتى جوار البحر الأزرق يحتله السيارات. فلا مجال في الواقع للصور الجمالية. فقط على الأوراق، التي لم تعد تُقرأ. فلم تعد قبيلتي تقرأ. هوس امتلاك شيء جامد كالسيارات صار أهم.
السيارات التي حينما أراها كل مرة أفكر. ترى حسن باشا يجلس في إحداها؟ لا أعرف وجوههم لكنه يعرفني، أدقق النظر وأطيل التحديق في عيونهم إذا ما بادلوني النظر. أنتظر أن أرى رد فعل منهم يخبرني أنه هو. أو أحدهم.
في حكايات الطفولة كان البطل دائما قويا وسعيدا، لكنني في واقعي صدقت حكايات الطفولة ففقدت سعادتي ولم أعد واثقة ما معنى القوة.
أصبحت بلادي ضعيفة وأصبحت أنا أيضا ضعيفة. أرى مستقبلي هش. وألاحظ أحلامي تقبع ساخرة تمد لي لسانها من خلف حائط أسمنتي يعلوه أسلاك شائكة وأنا أنظر لها أرى أثر القضبان في عيني من طيلة النظر لها في ليالي الظلمة والوحدة بزنزانتي.
أذكر كلماتي على حائط الزنزانة، بقلم مهرب من أسفل الباب. “أخشى ما أخشاه أن أخرج من السجن ولا يخرج مني أن أعود لحريتي فلا أجدها”.
كانت مفارقة مضحكة أن أفشل في محاولة الموت حينما فشلت في محاولة الحياة. رأيت أن الفشل لا يليق بي. لكني حينما قررت أن أحيا وأظل أقاوم لم أصبح بخير ولا بسلام ولا بأمان. وإن كنت أصبحت أحيا.
حبكات القصص التي سمعناها صغارا لابد أن نعيد صياغتها حتى لا ينخدع بها أطفال آخرين. أوطاننا تلفظنا ما أن نبدأ في حبها وتحضن من لا يهتم سوى بما ما بين فخذيها يمتص منها السلطة والمال ومنفعته الخاصة وينجب منها شياطين صغيرة تطاردنا.
في القصص ينتصر الخير، في القصص يفرح البطل بنهايات سعيدة. تلك القصص ليست الحقيقة. ولقد عرفنا هذا بالطريقة الصعبة.